نقولا ناصيف – الاخبار
سيمرّ بعض الوقت قبل أن تتأكد الحكومة الجديدة من أن توقيت تأليفها، بمَن فيها وما فيها، من حظها أو من سوء طالعها
حكومة كالتي يترأسها الرئيس نجيب ميقاتي، في الغالب، تُستهل بها العهود الرئاسية ولا تُختم. معظم ولايات الرؤساء المتعاقبين تأتي إلى أولى حكوماتها بخبراء في مهنهم، ناجحين، حملة شهادات. في ظنّ كل عهد جديد أنه يريد تنظيف البلاد ممّا يحسبه أدران الحقبة المنصرمة متروكة أمامه، تحت عناوين الإصلاح، أول شعارات المرحلة الجديدة. لذا صارت تُعدّ الحكومة الأولى حكومة الرئيس. من بعدها – لأنها إما لا تنجح تماماً أو تخفق – تليها الحكومات السياسية. حصل ذلك مع الرئيس كميل شمعون عام 1952 بحكومة ثلاثية برئاسة الرئيس خالد شهاب دُعيت حكومة موظفين. ومع الرئيس فؤاد شهاب عام 1958 بحكومة عشرية دُعيت حكومة مجهولين لأن أعضاءها ما خلا رئيسها الرئيس رشيد كرامي لم ينخرطوا في «ثورة 1958»، فلم تعش أكثر من أيام قليلة قبل أن تطيحها «الثورة المضادة». ومع الرئيس سليمان فرنجية عام 1970 بحكومة شباب ترأسها الرئيس صائب سلام. ومع الرئيس الياس سركيس عام 1976 بحكومة اختصاصيين ترأسها الرئيس سليم الحص. ومع الرئيس أمين الجميّل عام 1982 بحكومة الرئيس شفيق الوزّان، وصولاً في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف إلى الرئيس اميل لحّود في أولى حكومات عهده عام 1998 برئاسة الحص، كانت مزيجاً من حملة شهادات واختصاصيين ونواب.
المألوف عن أولى حكومات العهد، كل عهد، أن يكون رؤساؤها مجرّبين ككرامي وسلام والوزّان، أو يشغلون المنصب للمرّة الأولى كالحص. لذا كانت الحصة الفعلية فيها لرئيس الجمهورية الذي يدعوها أولى حكومات عهده. يريدها بمواصفاته وأشخاصه هو. ذلك ما عنته أيضاً عبارة رئيس الجمهورية ميشال عون بعد أولى حكومات عهده برئاسة سعد الحريري، بقوله إنها ليست أولى حكوماته. تعاقبت من بعدها حكومتان كرّر إبانهما العبارة نفسها، وصولاً الآن إلى حكومة ميقاتي من دون أن تكون أولى حكوماته، ولا أن تصير حتى، وإن في السنة الأخيرة من ولايته.
بسبب ذلك ربما ليست حسنة الطالع، من غير أن تُحبط الوزراء الموزَّرين للمرّة الأولى، ومن غير أن يتيقنوا كيف سيمضون الأشهر المقبلة، وكيف يتوقعون خروجهم من هذا المرجل ولا متى، وبأية أرباح وخسائر.
مع أنها حكومة حملة شهادات مقدّرة واختصاصيين وحرفيين في أشغالهم، ورئيسها هو السياسي الوحيد المجرَّب وابن كار، ومعه الوزير عبدالله بوحبيب، إلا أن الطريقة التي اتبعت في تأليفها لا تختلف عن أي من الحكومات التي سبقتها منذ اتفاق الدوحة عام 2008: أياً تكن شهاداتهم ومراتبهم المهنية ليسوا في مجلس الوزراء سوى وزراء الكتل التي سمّتهم وإن غير حزبيين. ليسوا وزراء مستقلين، كلٌ منهم يستمدّ قراره من حيثيته الشخصية. هم أيضاً على صورة موازين القوى المرسومة مذذاك، بما يمكّن رؤساء الكتل ـ لا الوزراء ـ من امتلاك الفيتوات واستخدامها داخل الحكومة وفي جلسات مجلس الوزراء في لحظة شعور أي منهم أن الزمام يُفلَت من بين يديه. ما يعرفه بعض الوزراء الجدد، أو ربما لا يعرفونه، أنهم محاطون بغيلان وضِباع.
قد تكون الفضيلة الرئيسية التي يمتلكها الوزراء الجدد، وجميعهم جدد، أن طابة الحظ توقفت في خانة كل منهم. أما بعد ذلك، والمقصود ما سيلي خروجهم من جلسة مجلس النواب لنيل الثقة من الاثنين المقبل، فمختلف تماماً.
على طرف نقيض منهم، لا يُشبههم رئيسهم أبداً. هو المتمرّس في الحكومات الصعبة بدءاً بحكومة 2005 على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان عليه أن يقود سلطة إجرائية رَسَمَ خصوم دمشق في قوى 14 آذار برنامجها وخطواتها إلى ما بعد أولى انتخابات نيابية عامة مناوئة للسوريين، مروراً بحكومة 2011 في عزّ انقسام قوى 8 و14 آذار وترؤسه سلطة إجرائية انتقلت إليها الغالبية النيابية في ظلّ مقاطعة سنّية حادة معادية له… لأنه تمرّس في تينك الحكومتين، لا يصعب عليه قيادة حكومة هو المحترف الوحيد من بين أعضائها. لذا، فإن الهلع المفترض أن يسود قلوب الوزراء الجدد، لا يكمن في الأخطاء التي قد يرتكبونها في المرحلة المقبلة، مقدار وطأة الملفات الثقيلة التي لا يرثونها عن حكومة سابقة ضعيفة متروكة، ولا عن السنوات الخمس المنصرمة من ولاية عون، بل عن طبقة سياسية موبوءة أوصل فجعها البلاد إلى الانهيار. من أجل ذلك سيكون الغد الذي يلي الاثنين المقبل أكثر من يوم جديد.
أمام حكومة ميقاتي في الأيام الأولى لمباشرتها صلاحياتها، قنابل أولى موقوتة ليست قليلة الأهمية، تبدأ بتحمّل تداعيات رفع الدعم عن الوقود، وتمرّ في التدقيق الجنائي وفرص إبصاره النور جدياً وتوحيد أسعار الصرف ومقاربتها التفاوض مع صندوق النقد الدولي، قبل الوصول إلى الإصلاحات البنيوية في الاقتصاد والنقد الوطني، وحتماً قبل وقت طويل من موعد الانتخابات النيابية العامة الربيع المقبل.
الاستحقاق الوشيك والأول من مطلع الأسبوع، مصير المواجهة القائمة بين قوى سياسية والقضاء حيال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت. مقدار ما الملف قضائي، إلا أن الصدام سياسي حتماً على نحو يشهد له تضافر أفرقاء الطبقة الحاكمة نفسها، بعضها مع بعض، من أجل تجنّب كشف الحقائق الفعلية المرتبطة بالانفجار.
بانتهاء جلسة الثقة الاثنين أو الثلثاء، يصبح البرلمان خارج انعقاده الاستثنائي المنصوص عليه في المادة 69 من الدستور، ما يجعل ثلاثة نواب في متناول المحقق العدلي طارق البيطار، هم المدعى عليهم علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق، واحتمال إصدار مذكرات توقيف في حقهم لفقدانهم الحصانة المنصوص عليها في المادة 40، وتجريدهم تالياً من موافقة مجلس النواب على رفع الحصانة عنهم لملاحقتهم قضائياً. وكان النواب الثلاثة، بدعوى عدم اختصاص القضاء العدلي، رفضوا المثول أمام البيطار للاستماع إليهم.
بانتهاء جلسة الثقة، ما لم يصدر مرسوم فتح عقد استثنائي لمجلس النواب يتطلب توقيع رئيس الجمهورية – وهو بذلك شأن سياسي محض – فإن البرلمان خارج انعقاديه العادي والاستثنائي حتى 19 تشرين الأول، موعد بدء العقد العادي الثاني. وهي مدّة طويلة، قرابة شهر، لا يحتاج البيطار إليها كلها كي يصطاد النواب الثلاثة، ناهيك بمَن لا حصانة لديه وهو الوزير السابق يوسف فنيانوس المُسطّرة في حقه مذكرة توقيف غيابية.
بالتأكيد يتحوّط النواب الثلاثة ناهيك بفنيانوس، لما قد ينتظرهم بعدما هدّد المحقق العدلي بملاحقتهم كيفما اتجهوا. ولذا، من المتوّقع أن يتقدّموا الاثنين، قبل ارفضاض الجلسة، بدعوى ارتياب مشروع ضده لتجميد مهمته تمهيداً لرفع يده، على نحو مطابق لسلفه فادي صوان.
ليس بين الوزراء الجدد أحد معني ربما بتفاصيل كهذه في مواجهة، ليست الحكومة الجديدة طرفاً فيها ما دامت واقعة ما بين الطبقة الحاكمة وجزء من القضاء يمثّله المحقق العدلي. في مواجهة كهذه غير متكافئة، فوق طاقة السلطة الإجرائية برمتها، يسهل في ظل تصاعد وتيرتها تحديد الخاسر والرابح.