إيلي الفرزلي – الاخبار
بعدما أطفأت الباخرتان التركيّتان مولّداتهما، بدأ العد العكسي لمغادرتهما الشاطئ اللبناني. حقبة امتدت على ثماني سنوات شابها كثير من الشكوك والصراعات السياسية تنتهي على خلاف ما كان مقرراً. الباخرتان اللتان كان يُفترض أن تُغادرا لبنان بعد 3 سنوات، وتتركان خلفهما كهرباء 24 على 24، تغادران والتغذية لا تتخطى ساعة على 24! المؤقتتان سرعان ما صارتا الأساس، فتحمّلتا مسؤولية 27 في المئة من إجمالي الإنتاج لفترة طويلة
لا أحد، حتى اليوم، سأل عن البديل وعن مصير التغذية بعد مغادرتهما وبعد البدء بصيانة معمل الزهراني قريباً. ولا أحد سأل عن إمكانية شرائهما مثلاً، أو حتى التمديد لهما بأسعار رمزية، بعد أن كلّفتا أكثر من مليار دولار. الباخرتان التركيّتان «أورهان بيه» و«فاطمة غول» ترحلان بصمت، بعد كل الضجيج الذي سبّبه التعاقد معهما.
الباخرتان اللتان فُصلتا عن شبكة الكهرباء في 30 أيلول لا تزالان في مكانهما، في انتظار تحديد شركة «كارادينيز» تاريخ نقلهما إلى تركيا. تحديد الموعد كان ينتظر الأجواء المناخية الملائمة. وبحسب المعلومات، حُسم الأمر منذ أيام، وسيصل «الطرّاد القاطر» (سفينة الشحن) إلى الجيّة لسحب «أورهان بيه» في 20 تشرين الأول الجاري، على أن يعود لاحقاً لسحب «فاطمة غول»، تمهيداً لإخضاعهما لصيانة تمتد لنحو خمسة أشهر.
وعليه، إذا لم يطرأ أي جديد، فإن أحد أبرز الملفات الإشكالية في مسار قطاع الكهرباء سيُطوى. ليس سوى القليل ما يُعرف عن تلك الحقبة التي شكّلت جزءاً لا يتجزأ من الصراعات السياسية التي حكمت البلد في العقد الماضي، رست خلاله الباخرتان لنحو تسع سنوات (وصلت «فاطمة غول» إلى لبنان في شباط 2013) أمام الشاطئ اللبناني.
خلال تلك الفترة، أنتجت الباخرتان 22 مليون ميغاواط ساعة، بكلفة إجمالية بلغت ملياراً و180 مليون دولار، حصلت الشركة منها على 880 مليون دولار، فيما أسهمت الأزمة الأخيرة التي عصفت بلبنان بتوقف «كهرباء لبنان» عن الدفع منذ كانون الأول 2019، في مراكمة هذه المستحقات لتصل إلى نحو 220 مليون دولار، لم يتم الاتفاق على آلية دفعها.
المبلغ الذي يُقارب المليار دولار أعاد النقاش إلى البدايات. إلى سبب وجود الباخرتين اللتين كان يُفترض أن يكون دورهما محصوراً بتعويض النقص الذي سينتج من تأهيل معملي الزوق والجية حينها، تمهيداً لتنفيذ خطة زيادة الإنتاج بمقدار 700 ميغاواط، بحسب خطة الكهرباء لعام 2010. لكن النتيجة كانت أن المؤقّت استمر ثماني سنوات (العقد الأول حُددت مدته بثلاث سنوات ومُدّد لسنتين، ثم لثلاث سنوات)، أسهمت الباخرتان خلالها بتأمين 27 في المئة من إجمالي الإنتاج، فيما فشلت الدولة في إنشاء أي معمل، باستثناء معمليّ الجية والزوق اللذين كان قد بدأ العمل بهما قبلاً، بقدرة إنتاجية تبلغ 270 ميغاواط وبكلفة وصلت إلى 370 مليون دولار.
بالأرقام، فإن كلفة شراء المعامل العائمة التركية لا يفترض أن تزيد على 600 مليون دولار. ولذلك، لطالما أكد المعترضون على العقد أنه كان الأولى شراء الباخرتين بدل استئجارهما لثماني سنوات، بكلفة تصل إلى ضعف ثمنهما.
باختصار، يعتبر أصحاب هذا الرأي أن وزارة الطاقة، ولأسباب معلومة – مجهولة، أسهمت في تحميل الخزينة مليار دولار بدل إيجار البواخر، من دون احتساب ثمن الفيول، فيما كان بإمكانها بالمبلغ نفسه إنشاء معامل بقدرة تتخطى ألف ميغاواط، أو على الأقل تملّك الباخرتين والاستفادة منهما لـ15 سنة بدلاً من ثمان.
لم تتواصل الحكومة مع الشركة للتأكد مما إذا كانت مستعدة لمساعدة لبنان عبر هبة أو أسعار تنافسية
هذا الكلام لا يتوافق مع حسابات مصادر سبق أن عملت على ملف البواخر، مشيرة إلى أن الحسابات الكليّة لا تكفي للمقارنة. وتوضّح أن معمليّ الجية والزوق، على سبيل المثال، كلّفا 370 مليون دولار، لكن هذا المبلغ المُستدان يُكلّف نحو 10 في المئة فوائد سنوية. ومع افتراض أن لبنان اشترى البواخر، علماً أن قلة من الشركات تبيع معاملها العائمة، بـ600 مليون دولار، فإن ذلك يعني أن كلفة الدين ستصل إلى 60 مليون دولار سنوياً، يضاف إليها نحو 45 مليون دولار صيانة وتشغيل. وعليه، فإن الكلفة السنوية ستصل إلى 105 ملايين دولار، وسترتفع إلى 115 مليوناً مع احتساب التأمين الذي لا غنى عنه بالنسبة للمعامل العائمة. بالمقارنة مع كلفة إيجار البواخر المحددة بــ 135 مليون دولار سنوياً، يصبح الفارق بين الإيجار والشراء، على ذمة المصادر، 20 مليون دولار سنوياً، تشمل أرباح الاستثمار وتحمّل مخاطره. وهو ما يحصل اليوم، حيث تدين الدولة للشركة بـ 220 مليون دولار.
للمناسبة، تؤكد مصادر مطلعة أن الحكومة لم تتواصل مع الشركة أبداً منذ ما قبل انتهاء عقدها. فخسارة 27 في المئة من الإنتاج كان يمكن أن يؤدي إلى استنفار شامل في أي بلد آخر، لكن في لبنان حتى وزارة الطاقة لم تهتم ببحث الأمر مع الشركة. فبعيداً من البحث في كيفية دفع مبلغ الـ 220 مليون دولار، ألا يستحق الظرف الحالي مجرد محاولة للتأكد مما إذا كانت الشركة، ومن خلفها تركيا، مستعدة لمساعدة لبنان، من خلال الإبقاء على الباخرتين بأسعار تنافسية أو ربما كهبة، بخاصة إذا كان بالإمكان تشغيلهما على الغاز؟
لا بد من الإشارة هنا إلى أن فكرة الهبة لطالما كانت حاضرة. فالشركة نفسها سبق أن استقدمت باخرة لمدة ثلاثة أشهر من دون مقابل، كما سبق أن أشار وزير الطاقة السابق جبران باسيل في 10/11/2011، أثناء عرض ملف «استئجار الطاقة الكهربائية بواسطة المحطات العاملة على البواخر» على مجلس الوزراء، أن «أحد العروض المقدّمة عرض تقديم الباخرة هبة للدولة بعد مرور سبع سنوات. ولذلك، فإن مسألة الهبة كان يمكن أن تشكل جزءاً أساسياً من أي عقد استئجار الطاقة»، وهو ما لم يتحقق، بل على العكس حصلت الشركة التركية على عقد بقيمة 5.9 سنت للكيلوواط، قبل أن يخفض بعد ثلاث سنوات إلى 4.9 سنت، مع حوافز مرتفعة كانت محل تشكيك العديد من الجهات المعنية، ومنها التفتيش المركزي، الذي أصدر قراراً في 8/5/2013 اعترض فيه على تضمين العقد بنداً يسمح للشركة بالحصول على مكافأة Bonus في حال حققت وفراً في الفيول المستهلك، على أساس 214 غراماً لكل كيلوواط ساعة. واعتبر أن توفير غرام واحد من الفيول سيؤدي إلى إكساب المتعهد مكافأة بأكثر من أربعة ملايين دولار مقابل استفادة محدودة للمؤسسة بحدود 170 ألف دولار فقط، أما إذا استطاع المتعهد توفير 24 غراماً فإنه يحصل على مكافأة تتجاوز 104 ملايين دولار. علماً أن تحديد معدل الوفر عند 214 غراماً للكيلو واط الواحد أثار الكثير من الأسئلة، خصوصاً أن المعامل الجديدة في الذوق والجية تعمل بمحركات مطابقة لمحركات البواخر وتستهلك 194 غراماً فقط للكيلوواط!
أين أصبح التحقيق في سمسرات البواخر؟
كثرٌ من أصحاب الاختصاص اعتبروا أن شبهات اعترت المسار الذي أدّى إلى توقيع العقد مع شركة «كارادينيز»، متهمّين وزارة الطاقة بتفصيل شروط العقد على قياسها. فبدلاً من السياق التقليدي لاستدراجات العروض، إن كان في إدارة المناقصات أو حتى في كهرباء لبنان، تولّت لجنة وزارية، بالتعاون مع استشاري أجنبي، درس العروض والتقارير والتفاوض مع الشركات. وكانت النتيجة استبعاد 7 من أصل 9 شركات، ما حصر المنافسة بين شركة «كارباورشيب» وشركة أميركيّة، ليتم اعتماد خيار بواخر الشركة التركيّة، القادرة وحدها على الالتزام بالمهلة القصيرة المحددة لوصول البواخر إلى لبنان.
انقضت تلك السنوات من دون أن تتضح معالم الصفقة التي لطالما اتُهم التيار الوطني الحر بتنفيذها وظلت حاضرة في الحياة السياسية اللبنانية. فقط في الصيف الماضي، كُشف النقاب عن ملف رشاوى كان تلفزيون «الجديد» أول من تناوله. وعلى الأثر فتح المدعي العام المالي علي إبراهيم تحقيقاً بجرم قبض الرشوة وتبييض الأموال، كما حجز على الباخرتين التركيتين، لضمان دفعهما 25 مليون دولار، ينص عليها العقد، في حال ثبت دفعهما أي عمولات أو رشى للحصول على التلزيم. وهو ما قابلته الشركة بإطفاء معاملها لنحو شهر.
بحسب المعلومات التي عُرضت، فإن ممثل شركة «كارباورشيب» رالف فيصل وقّع تعهّدات بدفع عمولات ماليّة لشخص يدعى فاضل رعد تحت ستار تقديم استشارات بيئيّة. وقد نصّت هذه التعهدات على دفع عمولات تصل إلى حدود 0.8 سنت عن كل كيلوواط/ ساعة، قبل تعديلها لتصبح مبلغاً مقطوعاً قيمته 5.6 مليون دولار، تم تخفيضه لاحقاً إلى نحو 3 ملايين دولار، إلى أن حصل خلاف بين الطرفين. وما أثار المزيد من الشكوك كان تاريخ هذه التعهدات الذي بدا سابقاً على توقيع العقد، ما أوحى أن قرار التعاقد مع الشركة متخذ سلفاً. لكن وكيل فيصل، كان اعتبر أنه بعد فض عروض مناقصة البواخر وإعلان فوز «كارباورشيب» بالمناقصة العالمية لاستجرار الطاقة من المعامل العائمة، حضر فاضل رعد وعرض تقديم الدراسات والأشغال البيئية، ولأن رعد لم يف بالتزاماته وتعهداته لم يدفع له فيصل المبالغ المتفق عليها مما دفع به، في عام 2017، إلى تقديم دعوى مدنية للمطالبة بالمبالغ المزعومة. واعتمد وكيل فيصل على هذه الدعوى، ليؤكد أن موكّله لم يقدم أي رشوة أو سمسرات.
وافق قاضي التحقيق في بيروت روني شحادة على طلب تخلية كل من فاضل رعد ورالف فيصل بعد فترة من توقيفهما (في أيار)، واستكمل التحقيقات والاستماع إلى المتهمين والشهود، لكنه لم يُصدر قراره الظني بعد.