الثلاثاء, نوفمبر 26
Banner

المفاوضات مع صندوق النقد الأسبوع المقبل… خشبة خلاص أم شر لا ‏بد منه ؟

مع إقتراب موعد قدوم فريق التفاوض الصندوقي إلى بيروت، يظهر إلى العلن توجهان لدى القوى ‏السياسية فيما يخص التفاوض مع صندوق النقد الدولي. التوجّه الأول يرى في صندوق النقد الدولي ‏فرصة للخروج من الأزمة التي تعصف بلبنان ولو كان مقابل تضّحيات يتوجّب تحملها؛ وبالتالي يرى ‏هؤلاء أن التفاوض مع صندوق النقد الدولي يُمكن أن يتمّ في وقت قصير نظرًا إلى أن الإطار ‏الإقتصادي المحلّي والضغط الدولي سيلعبان دورًا أساسيًا في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة‎.‎

في المقلب الآخر، هناك توجّه آخر لدى بعض القوى السياسية يتوجّس خفية من هذه المفاوضات نظرًا إلى ‏إحتمال أن تكون هذه المفاوضات واجهة لتطويق لبنان سياسياً لذا يُكثر أصحاب هذا التوجّه الحديث عن ‏الشروط القاسية التي سيفرضها الصندوق على لبنان وما يواكب ذلك من ضرر على المواطنين في محاولة ‏لحجب النظر عن السبب الحقيقي لهذا التوجس.‏

ثلاثة مبادئ يجب إحترامها

عمليًا وكما ذكرنا في مقالنا السابق “المفاوضات مع صندوق النـــقـــد فــي غـضـــون أيام… وهذه هــي ‏الآليــة” – نُشر في جريدة “الديار” بتاريخ 7 تشرين الأول 2021 – هناك ثلاثة مبادئ ترعى أي ‏مفاوضات لصندوق النقد الدولي مع دولة عضو في هذا الصندوق:‏

المبدأ الأول – وينص على الإنفتاح على التجارة العالمية بأبعادها الإستثمارية والتجارية؛

المبدأ الثاني – ترك حرية تحديد سعر الفائدة للسوق من خلال آلية العرض والطلب وعدم التدخل إلا ‏ضمن إطار السياسات النقدية المتعارف عليها أي الفائدة على المدى القصير؛

المبدأ الثالث – خروج الحكومات من المجال الإقتصادي بالكامل وتركه للقطاع الخاص مع الإحتفاظ ‏بدور الرقابة والتشريع والتنظيم التي تنص عليها النظرية الإقتصادية.‏

فكل برنامج إصلاحي يجب أن يلتزم هذه المبادئ الثلاثة على أن يكون البرنامج الحكومي المعتمد يؤدي ‏حقيقة للإصلاح وليس فقط مطية للحصول على أموال الصندوق!.‏

في لبنان، النهج المُعتمد إلى الآن في إدارة الشؤون المالية والإقتصادية للدولة هو نهج أثبت فشله وأبرز ‏معالم هذا الفشل الوضع الذي أوصلنا إليه. وبالتالي النتائج السلبية لهذا النهج إنعكست على كل الأصعدة، ‏إقتصاديًا وماليًا ونقديًا وإجتماعيًا وصحيًا وتربويًا وبيئيًا. عمليًا البرنامج الحكومي يجب أن يركز بالتحديد ‏على إصلاح النتائج السلبية وتعديل سلوك الدولة المالي والإقتصادي والإجتماعي والبيئي باتباع حوكمة ‏رشيدة كما هو الحال في العالم المتحضر.‏

فإذا كان لبنان قادرًا حقيقة على القيام بهذه الإصلاحات من دون صندوق النقد الدولي، فلماذا لم يتمّ القيام ‏بها سابقًا أو حتى حاليًا؟

في الواقع الحوكمة الإقتصادية والإجتماعية في لبنان خاضعة للحسابات السياسية بشكل حصري، حيث إن ‏الصراع السياسي بين القوى السياسية أدى إلى تعطيل أو تجميد تنفيذ ألاف المشاريع التي كانت لتعود ‏بالخير على الإقتصاد خاصة وعلى المواطن عامة.‏

أسباب الأزمات

وغالبا ما تأتي الأزمات الإقتصادية والمالية والنقدية التي تعصف بالبلدان من عوامل يُمكن تقسيمها إلى ‏فئتين:‏

الفئة الأولى – العوامل الداخلية : مثل سياسة مالية و/أو نقدية غير ملاءمة، نظام مالي ضعيف، عدم ثبات ‏سياسي و/أو ضعف مؤسسات الدولة؛

الفئة الثانية – العوامل الخارجية: صدمات آتية من كوارث طبيعية ترفع من أسعار المواد الأولية، إنسحاب ‏مفاجئ لرؤوس الأموال، أزمة إقتصادية في بلد أخر تنعكس ظلالها على السوق المحلي

على كلِ الأحوال، الوضع المعيشي اللبناني الناتج عن النقص في الدولارات، فرض وسيفرض دخول ‏الدولة في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وهي بضعة أيام قبل أن يلتقي الوفد اللبناني مع وفد ‏صندوق النقد الدولي في إطار تحضير برنامج حكومي يكون من نتائجه لائحة إصلاحات مع جدول زمني ‏بالإضافة إلى طلب قرض من صندوق النقد الدولي. لكن ما هو نوع هذا القرض وما هي القيمة التي سيتمّ ‏طلبها؟ الجواب على هذا السؤال يفرض عددًا من الإيضاحات نطرحها فيما يلي.‏

برامج صندوق النقد

يعرض صندوق النقد الدولي العديد من القروض (‏Arrangements‏) واحد منها قرض مُيسّر والباقي ‏قروض غير مُيسّرة:‏

القرض المُيسّر: الدعم المُيسّر من خلال الحد من الفقر والنمو (‏Poverty Reduction‏ & ‏Growth ‎Trust PRGT‏)، وهو قرض يستهدف البلدان ذات الدخل المنخفض مع فائدة تبلغ 0.5% (حاليًا خالٍ ‏من أية فوائد) وفترة تتراوح بين 5.5 و10 سنوات. الجدير ذكره أن هذا القرض يفرض على البلد طالب ‏القرض تقديم ورقة إستراتيجية للحد من الفقر كشرط أساسي لقبول الطلب.‏

القروض غير الميسرة:‏

‏1- القرض الإحتياطي (‏SBA‏): وتوصيفه في صندوق النقد الدولي بأنه العمود الفقري، ويستهدف هذا ‏القرض اقتصادات السوق الناشئة والمتقدمة لمعالجة مشاكل ميزان المدفوعات قصيرة الأجل أو المحتملة ‏التي تشمل عادةً فترة تتراوح بين 12 إلى 24 شهرًا على ألا تتعدى الـ 36 شهرًا، وتستحق السداد في ‏غضون ثلاث إلى خمس سنوات.‏

‏2- التسهيلات الائتمانية الاحتياطية (‏SCF‏): هي مماثلة من حيث الغرض للقرض الإحتياطي، وتُستخدم ‏هذه الأداة لمعالجة مشاكل ميزان المدفوعات قصيرة الأجل أو المحتملة، ولكنها مخصصة للبلدان ‏منخفضة الدخل. وتتمتع هذه التسهيلات بفترة سماح سداد مدتها أربع سنوات واستحقاق نهائي لمدة ثماني ‏سنوات.‏

‏3- تسهيلات الصندوق الموسعة (‏EFF‏): تم تصميم هذه التسهيلات لاقتصاديات السوق الناشئة والمتقدمة ‏التي تعاني من مشاكل طويلة الأجل في ميزان المدفوعات، حيث تعتبر معوقات النمو هيكلية. تتم الموافقة ‏على هذه التسهيلات عادةً لمدة ثلاث سنوات ولكن يمكن تمديدها إلا أن المدفوعات تكون مستحقة في ‏غضون أربع إلى عشر سنوات.‏

‏4- التسهيلات الائتمانية الموسعة (‏ECF‏): تُعتبر هذه التسهيلات موازية للـ ‏EFF‏ لكنها تطال البلدان ‏منخفضة الدخل التي تقبع في الفقر (خاضعة لـبرنامج ‏PRGT‏). وهي مصممة لمعالجة القضايا الهيكلية ‏على المدى المتوسط إلى الطويل، ويتمّ عادة الموافقة على مدة ثلاث سنوات ولكن يمكن تمديدها حتى ‏خمس سنوات وتشمل فترة سماح مدتها خمس سنوات، مع استحقاق عشر سنوات.‏

‏5- أداة التمويل السريع (‏RFI‏): توفر هذه الأداة مساعدة مالية سريعة للبلدان التي لديها احتياجات عاجلة ‏في ميزان المدفوعات، ويمكن استخدامها في مجموعة من الاحتياجات العاجلة، مثل الكوارث الطبيعية ‏والصراعات وصدمات أسعار السلع الأساسية، ويجب سداد القرض في غضون ثلاث سنوات وربع إلى ‏خمس سنوات.‏

‏7- التسهيلات الائتمانية السريعة (‏RCF‏): تم تصميم هذه التسهيلات لتقديم المساعدة المالية السريعة أثناء ‏الأزمات، ولكنه يخدم البلدان منخفضة الدخل في إطار برنامج “الدعم الميسر من خلال الحد من الفقر ‏والنمو (‏PRGT‏)”. وتحمل هذه التسهيلات فترة سماح مدتها خمس سنوات وإستحقاق قدره عشر سنوات. ‏وعلى عكس التسهيلات الأخرى ، فإن هذه التسهيلات توفر الصرف المباشر للقرض في دفعة واحدة مما ‏يعني أنه لا توجد شروط تقليدية يجب الوفاء بها خلال البرنامج قبل الصرف. ومع ذلك ، نظرًا لأنه لا يزال ‏يتعين على البلدان تقديم خطاب نوايا إلى صندوق النقد الدولي يوضح بالتفصيل استجابتها الاقتصادية ‏المخطط لها للأزمة، والتي يجب أن يوافق عليها صندوق النقد الدولي، فقد تم اعتبار هذه التسهيلات ‏مشروطة حكمًا. وإستجابة لـوباء كورنا، ضاعف صندوق النقد الدولي المبلغ الذي يمكن أن تقترضه ‏البلدان بموجب هذه التهسيلات (‏RCF‏ و ‏RFI‏).‏

‏8- خط الائتمان المرن (‏FCL‏): تم تصميم خط الائتمان المرن للبلدان التي يرى صندوق النقد الدولي أن ‏لديها أطرا سياسات قوية وسجلات تتبع في الأداء الاقتصادي التي تمر بأزمة نقدية فورية ولكنها تريد ‏تجنب صدمة وردة فعل السوق العكسية، ويرتبط هذا الخط بشروط صندوق النقد الدولي العادية. فترة ‏السداد تمتد على مدة ثلاث إلى خمس سنوات.‏

‏9- خط التحوط والسيولة (‏PLL‏): تم تصميم خط التحوط والسيولة (‏PLL‏) لتلبية احتياجات السيولة ‏للبلدان ذات الأطر الاقتصادية التي يراها صندوق النقد الدولي سليمة ولكن مع بعض المشكلات المتبقية ‏التي تمنعها من استخدام خط الائتمان المرن (‏FCL‏).‏

‏10- صندوق احتواء الكوارث وتخفيفها (‏CCRT‏): يختلف هذا الصندوق عن الأدوات المذكورة أعلاه ‏لأنه يسمح لصندوق النقد الدولي بتقديم المنح بدلاً من القروض إلى أفقر البلدان في شكل تخفيف عبء ‏الديون. تم تصميمه في عام 2015 أثناء تفشي فيروس إيبولا لتوفير الإغاثة أثناء الكوارث الطبيعية أو ‏الكوارث الصحية العامة الكارثية وتحرير الموارد لتلبية الاحتياجات الاستثنائية لميزان المدفوعات. في ‏عام 2020، تم تخفيف معايير التأهيل الخاصة للإستفادة من الصندوق وذلك استجابةً لجائحة كورونا.‏

‏11- أداة دعم السياسات (‏PSI‏): أخيرًا ، يقدم صندوق النقد الدولي أداة للبلدان منخفضة الدخل في إطار ‏برنامج “الدعم الميسر من خلال الحد من الفقر والنمو (‏PRGT‏)” ولا تتضمن هذه الأداة أي تمويل على ‏الإطلاق. فقد صُممت هذه المبادرة لمنح البلدان منخفضة الدخل “أداة” تمكنها من الحصول على مشورة ‏صندوق النقد الدولي دون مساعدة مالية بقصد إبداء الثقة للمانحين والدائنين وعامة الجمهور بأنهم ‏مدعومون من صندوق النقد الدولي. وتتراوح فترة هذه الأداة بين سنة وخمس سنوات.‏

أي برنامج للبنان؟

في إطار طبيعي أي قبل الأزمة ووقف الدفع العشوائي لسندات اليوروبوندز، كان حصول لبنان على ‏برنامج مساعدة مالية من قبل الصندوق لا يتطلّب “وصولا إستثنائيًا” إلى الأموال (كانت الحاجة إلى 5 ‏مليارات دولار أميركي في ظل برنامج إصلاحي)، لكن وبعد مضي أكثر من عام ونصف على التخلّف ‏العشوائي أصبحت الحاجة إلى تمويل إستثنائي حاجة ملحّة.‏

في الواقع التقييم السابق لصندوق النقد الدولي – والذي وجد فيه سعر الصرف غير مؤاتي، والديون ‏الخارجية غير مستدامة، ودين الحكومة “إنفجاري” – يفرض حصول لبنان على تمويل إستثنائي نظرًا إلى ‏متطلبات التمويل الخارجية. وهذا يعني أن البرنامج الحكومي للدولة اللبنانية سيحوي دون أدنى شك ‏تخفيضًا لسعر العملة، ولكن أيضًا إعادة هيكلة الديون وخفض الإنفاق العام بشكل ملحوظ.‏

البرامج المطروحة وفي ظل نظام الكوتا الموجود في صندوق النقد الدولي والذي على أساسه يتمّ التمويل، ‏يفرض حصول لبنان على مبالغ إستثنائية (بالإضافة إلى مصادر أخرى) وهو ما قد يتم ترجمته نظرًا إلى ‏أهمية لبنان الجيوسياسية بشرط أن تكون الحكومة قادرة على القيام بإصلاحات ويساندها في ذلك دعم ‏شعبي وتمويل إقليمي. لذا بتوقعاتنا سيكون برنامج “تسهيلات الصندوق الموسع (‏EFF‏)” هو الأكثر ‏إحتمالا مع إستثناءات تطال لبنان نظرًا إلى العوامل الجيوسياسية، بالإضافة إلى برنامج “الدعم الميسر ‏من خلال الحد من الفقر والنمو (‏PRGT‏)”.‏

الإقتطاع من القيمة الإسمية للسندات

عمليًا توقعات بنك أوف أميركا – ميريل لينش التي رافقت بداية الأزمة قدرت أنذاك نسبة الإسترداد ‏‏(‏Recovery Rate‏) على سندات الخزينة هو بحدود الـ 20 إلى 30% من قيمة السندات الإسمية وذلك ‏في ظل إعادة هيكلة غير منظّمة، و50% في ظل برنامج مع صندوق النقد الدولي. اليوم وبعد مرور ‏عامين على بدء الأزمة وسنة وسبعة أشهر على إعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز في ظل عدم ‏التفاوض مع المقرضين ولا مع صندوق النقد يوحي بأن النسب ستكون أقلّ! الجدير ذكره أن مُعدّل نسبة ‏الإسترداد العملية هي 40% وهي مستخدمة في كل المعادلات الحسابية المالية.‏

مما لا شك فيه أن الإقتطاع من القيمة الإسمية لسندات الخزينة سيؤثر على الودائع (المحمية بالدستور) ‏والتي تمّ إستثمارها في سندات الخزينة. من هنا تأتي أهمية سرعة الموافقة على برنامج صندوق النقد ‏الدولي وتنفيذه وهو ما سيؤدّي إلى دخول دولارات إلى القطاع المصرفي تسمح للمصارف بإعادة الأموال ‏إلى المودعين (بالعملة الصعبة). أيضًا بعض العوامل الأخرى تؤثر إيجابًا على إسترداد الودائع نذكر منها ‏خفض حجم متطلبات التمويل الحكومي بالعملة الصعبة، ولكن أيضًا حجم القرض من صندوق النقد ‏الدولي، وتوافر تمويل خارجي أخر سواء كان من دول أو من جهات أخرى.‏

في خضم جميع ما ذكر، هناك حاجة ملحة بأن تقوم الحكومة اللبنانية بتسريع هذه المفاوضات مع حفظ ‏حقوق اللبنانيين في كل مراحل التفاوض، ويبقى الأهم تنفيذ ما ستتوصّل اليه في هذه المفاوضات مع ‏صندوق النقد الدولي.‏

رسائل لحكومة ميقاتي

بالتوازي، فقد نُقل عن منسق المساعدات الدولية من اجل لبنان السّفير “بيار دوكان” خلال لقائه ‏شخصيات لبنانية “لا مساعدات حقيقية ولا نجدة دولية قبل القيام بالإصلاحات المطلوبة، لاستعادة الحدّ ‏الأدنى من الثقتين الداخلية والخارجية”. هذا الكلام هو رسالة واضحة لحكومة ميقاتي على ضرورة القيام ‏بإصلاحات بالتوازي مع عملية التفاوض خصوصًا فيما يخص ملف الكهرباء الذي إحتلت فيه الإصلاحات ‏جزءًا كبيرًا من اللقاء الذي حصل بين دوكان ووزير الطاقة. على كل الأحوال هذه الرسالة تطال العديد ‏من الملفات التي يُمكن إصلاحها بغضّ النظر عن صندوق النقد ومسار التفاوض معه.‏

يبقى القول أن المرحلة التي تفصلنا عن التوقيع مع الصندوق على برنامج، هي مرحلة دقيقة سيحتاج لبنان ‏فيها إلى تمويل إستيراده من دولارات تقل يومًا بعد يوم. وهذا تحدٍ أخر لحكومة الرئيس ميقاتي التي يجب ‏عليها تفعيل ديبلوماسيتها بشكل كبير نظرًا إلى أن هذه الأداة هي جوهرية في حل الأزمة الحالية.‏

 

الديار

Leave A Reply