فراس الشوفي – الاخبار
ثلاثة أسئلة لا بدّ من الإجابة عنها لمعرفة المسار الحقيقي للإيجابية الأميركية تجاه سوريا ولبنان. فهل هو إنقاذٌ من الانفجار الكبير قبل وقوعه، أم بداية مسارٍ من التطبيع غير المباشر يبدأ بالطاقة بما يتيح للعدوّ احتلال موقع القاعدة الاقتصادية لـ«دول الطوق»؟
استفاق ضمير الملك الأردني عبد الله الثاني بعد سنوات كان فيها شريكاً في سفك دماء السوريين، وحوّل خلالها بلاده الى مركز انطلاق العمليات التخريبية الهادفة الى إسقاط الدولة السورية، قبل الهزيمة الكبيرة التي مُني بها التحالف الذي جمع عمان وعواصم دول الخليج بالإضافة الى تركيا والغرب، وطبعا إسرائيل.
نشهد هذه الأيام ردّة من النظام الأردني تجاه سوريا ولبنان، أساسها مصلحة أردنية مباشرة في التحوّل إلى مركزٍ لتجميع الطاقة وتوزيعها في شرقي المتوسط. إلّا أنها، أيضاً، تجديد للدور الوظيفي لعمّان، وانعكاسٌ لإعادة التموضع الأميركي «الآمن» فيها، سواء من الناحية العسكرية بعد نقل العديد من القوات العسكرية الأميركية من قطر والكويت وأفغانستان إلى الشمال، ودبلوماسياً عبر تفعيل عمل السفارة الأميركية في عمان واستضافة اللقاءات الإقليمية، ثم اقتصادياً عبر تكليف الشركات الأميركية الكبرى إدارة مصادر الطاقة الجديدة وإدارة توريدها. يحصل كل ذلك، بينما يرزح الأردنيون تحت وطأة الضرائب القاسية وارتفاع أسعار السلع استجابة لطلبات صندوق النقد الدولي.
ما نشهده اليوم، محاولة أميركية جادة لتحويل الأردن إلى رئةٍ جديدة لسوريا، كبديل من لبنان الذي ترفضه أميركا بسبب قوة المقاومة فيه. والخطوات الانفتاحية ذات الطابع الاقتصادي والتجاري بين الأردن وسوريا، لا تعدو كونها محاولة لتولّي موقع منصّة الربط الاقتصادي والسياسي مع سوريا ولبنان وحتى العراق. لكن الخشية الأكيدة هي أن الأميركيين يريدون من الأردن أن يكون ستاراً ومعبراً لفرض واقع التطبيع غير المباشر مع إسرائيل. وتساعد مصر ودولة الإمارات الأردن في تحقيق هذه المهمة. وهذه مهمة استجدّت بعد فشل برنامج الحرب والإرهاب، وهي جزء مكمل لسياسة الحصار المالي والاقتصادي على دمشق وبيروت، وفي ذهن الأميركيين وبعض العرب أنه يمكن احتواء سوريا بعد إضعافها اقتصادياً وبشرياً، ودعم الميليشيات الانفصالية الكردية للسيطرة على مواردها وتقسيمها.
وما عجل في الخطوات الأميركية، كان إعلان الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله عن انطلاق ناقلات النفط الإيراني إلى الشاطئ السوري. فكانت الشرارة الأولى على لسان السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا التي سارعت الى الكشف عن «العرض» الأميركي سريعاً: السماح للبنان باستيراد الغاز «المصري» والكهرباء «الأردنية» عبر سوريا بأنبوب يسمّى خط الغاز العربي!
والأنبوب المشار إليه ليس عربياً بتاتاً. عام 2003، وقّعت سوريا ولبنان والأردن ومصر اتفاقاً أقرّته برلمانات الدول الأربع، لاستجرار الغاز عبر «الخطّ العربي» من العريش في مصر إلى سوريا عبر الأردن، مروراً بلبنان والساحل السوري وصعوداً نحو تركيا، وإنشاء شركة عربية تدير المشروع تمتلكها الدول الأربع بحصصٍ متوازية. وعلى ما يؤكّد لـ«الأخبار» نائب المدير العام السابق لمنشآت النفط في لبنان علي يوسف ومستشار وزير الطاقة اللبناني عبد الحميد بيضون آنذاك، «جرى بناء الأنبوب، لكنّ نقل الغاز لم يحصل، ولم يتم إنشاء الشركة العربية، وجرت تعديلات بعد اعتراض من الأمير حمزة بن الحسين كما أبلغنا الرئيس رفيق الحريري وقتها». ويرد في الاتفاقية القديمة شرطٌ أساسي يمنع انضمام أي دولةٍ من دول الجوار إلى الاتفاقية واستخدام الأنابيب من دون موافقة الدول الأربع، ما يعني صراحة أن الاتفاقيات التي وقّعتها مصر والأردن مع إسرائيل، وتتضمن استخداماً للأنبوب المصري ــــ الأردني ــــ السوري، باتت متناقضة مع الاتفاقية العربية، كونها تفرض نقلاً للغاز (غاز فلسطيني مسروق) من الحقول الملاصقة لشواطئ فلسطين المحتلة، إلى مصر والأردن.
خلال الشهر الماضي، أطلقت حملة مقاطعة إسرائيل في لبنان والأردن بياناً حذّرت فيه من استيراد الغاز والكهرباء إلى سوريا ولبنان من مصر والأردن. واستندت الحملة إلى معطيات تحذّر من أن هذا الخط يسمح بنقل غاز تستولي عليه إسرائيل. ويلفت المعنيون بالحملة الى أن موقفهم يستند الى معطياتٍ ومؤشّرات عمليّة، علماً بأن وسائل الإعلام في كيان العدو أطلقت منذ أيام حملة هدفها إضفاء بعد سياسي على الأهداف الأميركية والإسرائيلية.
صحيح أن السوريين والعراقيين واللبنانيين يعانون اليوم من نقص الكهرباء ويرزحون تحت الظلام الدامس. لكن الأمر سببه الرئيسي ليس مشكلات إدارية أو سياسات فاشلة أو حتى فساداً في هذه الدول، بل أساسه دور الجماعات السياسية والسلطوية في حالة لبنان والعراق، وكذلك في عمليات التدمير الممنهج لشبكة الكهرباء السورية والعراقية من قبل العصابات الإرهابية المدعومة من الأميركيين وحلفائهم.
وفي هذا السياق، يزيد منسوب الشك في أن يكون «الخلاص» المقترح لنا عبر مشروع الغاز العربي، ليس سوى محاولة لتطبيع مقنّع مع الاحتلال، ويكون بإشراف الشركات الأميركية الكبرى، وخاضعاً لصفقات تمويل يتولاها البنك الدولي الخاضع بدوره للهيمنة الأميركية المباشرة. وهي عملية معقّدة، لكنها تقود حتماً الى منع أي ارتباط مصلحي لسوريا والعراق ولبنان مع العمق الشرقي، ومنع إيران من تصدير نفطها وغازها، وبالتالي قطع الطريق على الحزام الصيني.
الأسئلة المشروعة
ما سبق، وما جرّبناه في بلادنا طوال عقود، يفرض طرح أسئلة، هدف الإجابات عنها تقييم ما يجري، لأن التساهل الأميركي في تطبيق قانون قيصر، وفي تخفيف حدّة الحصار عن لبنان، جاء نتيجة ما حصدته الولايات المتحدة من حصار لبنان، وخصوصاً بعدما أدى الى إنهاك اللبنانيين عموماً، لكنه حطّم حلفاء أميركا أضعاف ما أضرّ بحزب الله.، ومن هذه الأسئلة:
أوّلاً، ما هو حجم احتياط مصر من الغاز لتوزيعه على دول عدة؟ وأين يذهب الغاز المتدفّق من عسقلان إلى العريش؟ وهل يتم تسييله كله ويصدّر إلى أوروبا، أم يعاد ضخ جزءٍ منه في الأنبوب الواصل إلى الأردن؟
ثانياً، هناك اتفاقية أردنية ــــ إسرائيلية، موقّعة عام 2014، (بدأ تصدير الغاز الفلسطيني المسروق إلى الأردن عام 2020 من حقلَي ليفاناثان وتامر المُحْتَلَّين)، وتبيّن أن فيها بنوداً سرية، عمد النائب الأردني صالح العرموطي الى الكشف عنها عام 2019 خلال جلسة للبرلمان الأردني. ويرد تحت الباب الخامس في «اتفاقية البيع والشراء»، نصّ واضح يقول بأن «الغاز الطبيعي المبيع والمسلّم إلى المشتري (الأردن) بموجب هذه الاتفاقية، مختلط ولا ينقل بشكل منفصل عن إمدادات الغاز الأخرى داخل الأنبوب». وهذا يعني أن الأردن، ولو كان يستطيع تقنياً فصل الغاز المصري عن الغاز الفلسطيني المسروق داخل الأنبوب، الذي يتغذّى من الغاز المصري في العقبة والغاز الفلسطيني المسروق في مدينة المفرق الأردنية عبر أنبوب آت من حقل ليفاناثان مروراً بحيفا، لن يستطيع فعل ذلك بموجب الاتفاقية مع الاحتلال، وسيكون مضطراً إلى توريد الغاز المخلوط إلى سوريا ثمّ لبنان. فهل سيبدّي الأردن السوق السورية واللبنانية على الاتفاقية مع العدوّ؟
ثالثاً، إن القدرة الكهربائية التي يمكن للأردن أن يزوّد لبنان بها، أو تلك التي يستطيع لبنان تحمّلها، ليست بالحجم الذي يكفي كل هذه البلاد، وهناك مشكلات كبيرة على صعيد الشبكة والهدر التقني، وكل زيادة في حجم إنتاج هذه الطاقة تحتاج الى كميات إضافية من الغاز، وفي حال عدم التمييز بين الغاز الآتي من مصر أو من عسقلان، سيكون من الصعب تحديد دقيق لمصدر إنتاج الكهرباء الأردنية، وعندها ألا يحق للبنان التأكد بأن كل سوري أو لبناني أو فلسطيني مقيم في سوريا أو لبنان، لن يدفع ثمن الكهرباء لإسرائيل بدل الغاز الفلسطيني المسروق؟
الإجابة عن هذه الأسئلة مسؤولية كل أطراف المعادلة الجديدة، والإجابة تشرح الخلفية الحقيقية لما يعتبره البعض «إيجابية أميركية مستجدة تجاه سوريا ولبنان». إذ إن الخشية الفعلية تكمن في أن نكون على طريق التطبيع غير المباشر من خلال الطاقة وليس إنقاذ بلادنا من الانفجار الكبير!