أكبر جريمة تُرتكب بحق لبنان واللبنانيين، هي السكوت على الغلط، ومجاراة كلّ من يحاول ان يدحرج كرة النار في الأرجاء اللبنانية، وان يدفع البلد نحو فتن عابرة للمناطق والطوائف، لن يسلم منها أحدٌ.
ليس في الإمكان إنكار ما بلغه حال البلد من انقسام أفقي وعامودي حول كلّ شيء، بما لا يترك مجالاً للشك بأنّ هذا البلد، مع المنحى السائد وما يرافقه من تهديدات وعرض عضلات وتحريض ووعيد، يرقى الى مستوى الجريمة، دخل مرحلة هي الأخطر على حاضر اللبنانيين ومستقبلهم. كما ليس في إمكان أيّ من المتسببين بهذا الانقسام، الإغتسال والتطهّر منه، مهما حاولوا ان يتنصلوا من مسؤوليتهم، او ان يتباكوا بدموع ناشفة على البلد وأهله، فيما هم جعلوا كلّ الملفات الداخلية منصّات لخلق سياقات خلافية يصبح فيها اللبناني مذعوراً من أخيه اللبناني، ومتاريس للمناكفات وتصفية للحسابات قبل الاستحقاقات، وسلعاً معروضة للبيع والشراء والمساومات، في بازار الصراع السياسي المفتوح في ما بينهم.
الرهان على العقلاء
واضح انّ العقل السياسي معطّل، وكلّما تعطّل العقل، توسّعت دائرة الاحتمالات، وزادت فرص الانحدار وتضاءلت فرص النجاة، ومن المؤكّد انّ استمرار المنحى التصعيدي للخطاب السياسي والطائفي سيصعّب احتواء تداعياته، ولن يجعل الامور تقف عند حدود ما جرى في الطيونة، بل سيدفع بها الى ما هو أسوأ، ووحدهم اللبنانيون الخائفون من سيدفع الثمن الباهظ.
أمام هذه الصورة، فإنّ اللبنانيين المغلوب على أمرهم، لا يجدون ملاذاً لهم سوى الرهان على العقلاء من المرجعيات السياسية والروحية والمدنية، لعلّهم يتلمّسون ثغرة النجاة، ويجنّبون البلد وأهله السقوط الى المصير المشؤوم.
تحذيرات ديبلوماسيّة
هذه الصورة الملبّدة، لا تُرى فقط بعيون اللبنانيين، بل هي محلّ رصدٍ قلقٍ من قبل البعثات الديبلوماسية في لبنان. وبحسب معلومات موثوقة لـ”الجمهورية”، فإنّ مشاورات بين عدد من السفراء العرب والأجانب، جرت في الأيام الاخيرة، انتهت الى تقييم خطير جداً للوضع في لبنان، وقد أرسلت تحذيرات بهذا المعنى الى جهات سياسية ورسميّة لبنانية، مع تشديد على دور الجيش اللبناني في حماية الاستقرار الداخلي.
وأبلغت مصادر ديبلوماسية عربيّة إلى “الجمهورية” قولها، إنّها “مذهولة من الأحداث الأخيرة. فلبنان في خطر حقيقي، والمسؤولية تقع على المسؤولين السياسيين في رفع الخطر ومنع انزلاق الوضع الى منحدرات غاية في الخطورة، نخشى معها ان يلحق الأذى البالغ بالشعب اللبناني، ويُدَفّع ثمن الصراعات والخلافات السياسيّة”.
ونُقل في هذا السّياق، عن سفير دولة كبرى قوله: “إنّ الوضع في لبنان يبعث على القلق”، مشيراً الى انّ بلاده تنظر بحزن الى ما سمّاها “المأساة التي يعيشها الشّعب اللبناني”، وتحثّ القادة اللبنانيين “على تجنّب الإخلال باستقرار هذا البلد”.
واتهم السفير المذكور “حزب الله” بـ”خلق مناخات التوتير”، وقال “انّ بلاده تنظر بريبة شديدة الى محاولة إعاقة مسار التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وهو الامر الذي يجب ان يستمر، وكشف الحقيقة امام الشعب اللبناني”.
باريس
ومن باريس، لفتت مصادر ديبلوماسيّة، انّ ادارة الرئيس ايمانويل ماكرون في غاية القلق حيال تطوّر الوضع في لبنان، كاشفة أنّ باريس وجّهت رسائل مباشرة الى مرجعيات سياسية في لبنان، تشدّد من خلالها على تغليب منطق التهدئة وعدم التسبّب بما يفاقم الوضع الصّعب الذي يعانيه الشّعب اللبناني.
وبحسب المصادر، فإنّ باريس تشدّد على اولوية استمرار التحقيق في انفجار مرفأ بيروت من دون مداخلات او ضغوط، توصلاً الى كشف حقيقة هذه الكارثة ومعاقبة المتورطين فيها. وهي في الوقت نفسه، تعتبر انّ تعطّل الحكومة في لبنان امر يزيد من تفاقم الأزمة، ومن هنا فإنّها تشدّد مجدداً على عودة الحكومة سريعاً الى استئناف مهمتها وانصرافها الى تطبيق برنامج الاصلاحات والمعالجات للأزمة. وباريس كما وعد الرئيس ماكرون الرئيس نجيب ميقاتي، ستكون الى جانب الحكومة شرط ايفائها بالتزاماتها.
وفيما تردّد في اوساط ديبلوماسية عن ارسال باريس موفداً فرنسياً الى بيروت في وقت قريب، لم تنف المصادر الديبلوماسيّة من العاصمة الفرنسيّة هذا الاحتمال، الّا انّها قالت: “قد تكون هذه الفكرة مطروحة، الّا أنّه لا شيء رسمياً يؤكّد ذلك حتى الآن. علماً انّ التواصل لم ينقطع بين باريس وبيروت”.
خوف أممي
وبحسب معلومات “الجمهورية”، فإنّ في السياق القلق على لبنان، إندرج نقاش بين مسؤول اممي ونواب من لجنة الشؤون الخارجيّة في مجلس النوّاب، حيث لم يخف المسؤول المذكور خوفه مما سمّاها “تطورات دراماتيكية” تتهدّد لبنان، إن استمرّ الوضع على ما هو عليه من تأزّم خطير. وقال: “بعد الأحداث الاخيرة التي حصلت، اتصلنا بالقيادات اللبنانيّة وكبار المسؤولين وشدّدنا على ضبط النفس واحتواء ما حصل، وقد لمسنا بوضوح قلق تلك القيادات، وما زلنا ننتظر ان تقوم بوضع ضوابط جدّية تمنع الانهيار، والتي لا تحتمل اي تأخير”.
عدم استقرار
في هذا الوقت، يحافظ الوضع الداخلي على عدم استقراره، وسط التصعيد السياسي المتبادل بين حزب “القوات اللبنانية” و”حزب الله” على خلفية ما جرى في الطيونة، والعين في هذا السياق على اطلالتي رئيس “حزب القوات” سمير جعجع اليوم الخميس، وكذلك على إطلالة امين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله غداً الجمعة.
وفي سياق متصل، أبلغت مصادر واسعة الاطلاع الى “الجمهورية” قولها، “انّ الساعات القليلة المقبلة قد تكون حاسمة على صعيد التحقيقات التي تجريها مخابرات الجيش في ما جرى في الطيونة الخميس الماضي”، نافية امتلاكها ايّ معلومات حيال مسار التحقيقات، التي تُحاط بسرّية تامة، وستودع نتائجها مع الموقوفين في هذه المسألة، القضاء المختص فور اكتمالها.
الحكومة معطلة
في هذه الأجواء، بقي الوضع الحكومي معلّقاً في غياب أي اتفاق على إعادة إطلاق عجلة الحكومة، التي تعطّلت على خلفية الانقسام حول مسار التحقيق الذي ينتهجه المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، ومعارضة الثنائي الشيعي لهذا المسار ومطالبتهما باستبدال المحقق العدلي.
وبحسب مصادر وزارية، انّ تحديد موعد لاستئناف جلسات مجلس الوزراء مرتبط بما سيؤول اليه ملف التحقيق العدلي في انفجار المرفأ، ومصير المخارج المطروحة لتبديد الالتباسات المثارة حول المحقق العدلي. وقالت: “المسألة ما زالت معقّدة وشائكة جداً، وبلوغ مخارج مرضية أمر شديد الصعوبة سياسياً وقضائياً”.
ورداً على سؤال اشارت المصادر، الى انّ الرئيس نجيب ميقاتي اكّد انّه لن يبادر الى اي خطوة يستفز فيها اي طرف، وبالتالي هو يشدّد على حلول سريعة، وهو بالتأكيد يريد لحكومته ان تنطلق وتستأنف جلساتها، لكن الأساس في ذلك ان تجتمع الحكومة على أرض باردة وليس على ارض حامية. مشيرة في الوقت نفسه الى تواصل وشيك بين الرئيسين ميشال عون وميقاتي حول وضع الحكومة وإمكان تحديد موعد جلسة لمجلس الوزراء.
تعديل الأجندة
الى ذلك، يبدو جلياً انّ التطورات السياسية والقضائية والتوترات الأمنية التي تسارعت من الطيونة الى عكار واماكن اخرى، شكّلت عائقاً أساسياً في وجه الحكومة. وباعتراف مصادر حكومية لـ”الجمهورية”، فإنّ تلك التطورات والتوترات “عدّلت أجندة الحكومة وبرنامجها، بحيث أصبحت الأولوية احتواء تلك التطورات، وكذلك إعادة انعاش الحكومة”.
هل طارت البطاقة؟!
على انّ الوضع الحكومي، وبمعزل عن التطورات الأمنية، يسلك مساراً معقّداً، على ثلاثة محاور تلخّصها مصادر موثوقة لـ”الجمهورية” كما يلي:
الاول، محور الإجراءات والإصلاحات، حيث يؤكّد المسار المعتمد منذ انطلاقة الحكومة لا يبشّر بانفراجات على هذا الصعيد في المدى المنظور.
الثاني، محور صندوق النقد الدولي، حيث انّ ما يحيط بهذا الامر لا يعكس الايجابيات التي حُكي عنها مع قرار الحكومة اللجوء الى صندوق النقد. حيث انّ ما تكشّف للمعنيين بهذا الملف كان محبطاً، وخلاصته انّ اكثر ما يمكن ان يجري مع صندوق النقد الدولي في هذه الفترة هو بدء التفاوض معه، ولكن لا إمكانية لبلوغ برنامج اتفاق معه قبل الانتخابات النيابية، التي تحدّد اجراؤها في 27 آذار المقبل. اي انّ الاتفاق إن كان سيحصل، فسيكون مع الحكومة الجديدة التي ستنبثق عن الانتخابات التي ستأتي ببرلمان جديد له مشروعية سياسية جديدة، خلافاً للمجلس النيابي الحالي الذي صار في نهاية ولايته، وأولوية أعضائه هي التفرّغ لإجراء الانتخابات. على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، انّ ما يُطالب به لبنان في هذه الفترة هو القيام بحلول آنية وُصفت بالترقيعية، ولكن من دون ان ينتظر لبنان ان يتلقّى اموالاً لتغطيتها من صندوق النقد الدولي. بمعنى ان لا اموال للبنان من صندوق النقد في هذه المرحلة.
الثالث، محور البنك الدولي، والذي شهد انتكاسة متعلقة بالبطاقة التمويلية، حيث تمّ ابلاغ المعنيين في الدولة، انّ البطاقة التمويلية، التي اقرّها مجلس النواب أخيراً، لا تنسجم مع ما يريده البنك الدولي، حيث تمّ تجميد قرض الـ246 مليون دولار من قِبل البنك الدولي، بعدما لاحظ خروجاً على شروط القرض من طرف واحد، عبر التعديل الذي اقرّه مجلس النواب بإلغاء “الرسوم الإدارية” او ما يسمّى بـ”عمولات التمويل” والتي تُقدّر بنحو 16 مليون دولار. وهذا الامر يضع الحكومة والمجلس النيابي أمام إعادة دراسة هذا القرض من جديد في مجلس النواب، وإقراره وفق الشروط المحدّدة من قبل البنك الدولي.
وسط هذه الأجواء، عقد الرئيس ميقاتي اجتماعاً مع وفد من البنك الدولي ، وتمّ البحث في وضع برنامج شبكة الأمان الاجتماعي وتحريك الإصلاحات في مجالَي الطاقة والمياه.
ملف الترسيم
من جهة ثانية، حضر ملف ترسيم الحدود من جديد، مع زيارة رئيس الوفد الأميركي للمفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل آموس هوكشتاين، واللقاءات التي اجراها في بيروت أمس. وكان اللافت في لقاء هوكشتاين برئيس مجلس النواب نبيه بري التأكيد على اتفاق الإطار المتعلق بمسألة الترسيم الذي أُعلن في تشرين الاول من العام الماضي. واعلان الرئيس بري “أننا أمام فرصة جديدة لإستئناف المفاوضات في الناقورة مع المساعي الاميركية الجديدة التي تُبذل في هذا الاطار”. وقد أثار بري خلال لقائه هوكشتاين أهمية إستثناء لبنان من ضوابط “قانون قيصر” في موضوعي إستجرار الغاز المصري والكهرباء من الاردن. وبحسب اجواء عين التينة، فإنّ الموفد الاميركي عكس للرئيس بري اجواء تفاؤلية بالتقدّم إيجاباً حول هذه العناوين .
وكان الرئيس بري، الذي وقّع امس قانون الانتخابات النيابية كما اقرّته الهيئة العامة للمجلس النيابي في الجلسة التشريعية التي عقدتها امس الاول الثلاثاء، وأحاله الى الحكومة مع استعجال اصداره، قد دعا الى اجتماع لهيئة مكتب مجلس النواب الاثنين المقبل، تمهيداً لعقد جلسة تشريعية.
إهتراء معيشي
معيشياً، وفيما اعلن وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام، أنّ الحكومة ستعمل على ضبط تفلّت الدولار واستقراره على سعر 12 ألف ليرة في الأشهر المقبلة”، غُدِر اللبنانيون امس برفع مريب لأسعار المحروقات، بزيادة نحو 60 الف ليرة، بحيث جاء جدول تركيب أسعار جديد صادر عن وزارة الطاقة والمياه – المديرية العامة للنفط، على النحو الآتي: – بنزين 95 أوكتان :302700 ليرة – بنزين 98 أوكتان: 312700 ليرة – ديزل أويل: 270700 ليرة – غاز: 229600 ليرة.
وبرّرت وزارة الطاقة رفع الاسعار بأنّها “ليست الجهة المتحكّمة بالأسعار، إذ أنّ عوامل عدة تؤثر بشكل مباشر على تركيبة جدول الأسعار لهذه المشتقات توقيتاً ومضموناً، والجدول يخضع لآلية اعتُمدت بناءً على أمرين، الأول عدم الاستقرار في اسعار الدولار داخلياً، فالسعر يُحدّده مصرف لبنان لإستيراد هذه المشتقات من قِبل الشركات المستوردة وفق منصّة صيرفة. والثاني ناتج من الارتفاع الكبير في أسعار النفط العالمي، مما إنعكس ارتفاعاً على السعر المحلي أيضاً، بالإضافة الى إحتساب الكِلف الإضافية كالنقل وخدمة المحطات وغيرها”. واشارت الوزارة الى انّها “تعمل بالتنسيق مع رئاسة الحكومة ومع الوزارات المعنية ووزارة الاشغال والنقل تحديداً، لتأمين نقل مشترك مُنظَّم ومريح للمواطنين، كما وإمكانية تأمين الدعم لسيارات النقل العمومي والنقل العام”.
التدقيق اليوم
وفيما حرّك تردّي الاوضاع المعيشية غضباً شعبياً تجلّى في اقفال العديد من الطرقات، بالتوازي مع تحضيرات نقابية لمواجهة هذا التردّي، اكّد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون العمل لمواجهة الواقع الراهن بإيمان وصلابة ورجاء، ليستعيد لبنان عافيته تدريجياً.
وفي سياق آخر، أبلغت شركة “ألفاريز أند مارسال” رئيس الجمهورية، بأنّها ستباشر بالتدقيق المالي الجنائي في حسابات مصرف لبنان المالية، بدءاً من صباح اليوم، بعد إنجاز كل الترتيبات المتعلقة. وتمنّى عون “الإسراع في العمل نظراً إلى دقّة المهمة الموكلة إلى الشركة”.
الجمهورية