عبدالله قمح – ليبانون ديبايت
وصل إلى بيروت قبل يومين المستشار في وزارة الخارجية الأميركية عاموس هوكشتاين (أو هوشستين)، لتدشين “وساطته” في مجال ترسيم الحدود البحرية بين لبنان ودولة الإحتلال. هوكشتاين، الذي يوصف بأنه كبير مستشاري الرئيس جو بايدين، يستهلّ من العاصمة اللبنانية مشواره لـ”تسويق حلّ بالتراضي” بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي.
للمفارقة، يحضر هوكشتاين إلى بيروت في رحلته الأولى بصفته الرسمية تلك بظلّ عاملين أساسيين: إرتيابٌ من وساطته يستحوذ على عدد لا بأس به من الجماعات السياسية، و أزمةٌ سياسية عميقة يبحث أرباب “الإنقاذ” على الجهة الصالحة لانتشال حكومتهم من “عنبر الطيونة”، ووسط “خلط” ملفات لبناني غير بريء، أحال “قضية الترسيم” إلى ذيل الترتيب.
وعلى أهمية ما يحدث، لكنه لا يمنع هوكشتاين، من تقديم “أوراق اعتماده” التفاوضية لبنانياً ولا يؤدي الأمر بالرؤساء الثلاثة + المعنيين الآخرين إلى عدم مناقشته حول خططه بذريعة “تراكم الملفات” الداخلية. وعلى الأرجح هم في انتظاره وقد أعدوا ومنذ مدة طويلة “جدول أعمالهم”. وكما بات معلوماً مهّدوا للزيارة عبر سيلٍ من المواقف الجارفة سواء للمرسوم 6433 أو للخط 29.
على الضفة الأخرى، ثمة من يعتبر أن توقيت زيارة هوكشتاين في ضوء “الزخم الأمني اللبناني” غير مناسبة أو أنها لا تصلح لطرح ملفاته. وعلى نقيض ذلك تماماً هناك من يعتبر الظرف الحالي مؤاتياً ، إنما هو المناسبة الأفضل إلى الجانب الأميركي وبعض اللبنانيين المنهمكين في البحث عن فرصة لتمرير “التسويات” بهدوء وتحت طبقة من الضجيج، وهو الغرض الأساس الذي أتى هوكشتاين لأجله. عند هذه الضفة، نمت مخاوف جدية من احتمال أن يتحرك من هم في “العالم السلفي” نحو الدفع لإبرام تفاهمات مشتركة مع الموفد الأميركي، تُعزّز أوراقه وتقضي على الطروحات التي قدّمها الوفد العسكري التقني سابقاً ولاقت إجماعاً حول قانونيتها.
عملياً، كان يُفترض بالزيارة الحالية أن تنفض الغبار عن الإقتراح الذي يحمله الوسيط الأميركي لإعادة التفاوض غير المباشر في الناقورة إلى مساره السابق، ولو أن بيروت قد تبلّغت بشكلٍ غير رسمي قبل مدةٍ وجيزة بفحوى ذلك الإقتراح، الذي يقوم على فكرة استنهاض “نظرية الحقول المشتركة” ، وتكليف شركة متخصّصة باستخراج النفط والغاز والعمل ضمنه، ووضع العائدات في صندوقٍ مشترك بإدارة مستقلّة يستفيد منه الجانبان اللبناني والإسرائيلي، أي على شكل “علاقة مصاهرة” مُستترة بين الجانبين اللبناني و الإسرائيلي.
وهوكشتاين، الذي يبدو أنه مُتابعٌ دقيق لمجريات الحالة اللبنانية، عمل وعند هبوطه على أرض المطار على نسف الإقتراح أعلاه في ضوء التبدّلات التي طرأت على الملف، موعزاً بنشر معلومات حول حمله لـ”اقتراح جديد ومختلف” وهو ما حاول التناغم معه، خلال لقاءاته التي عقدها مع المسؤولين اللبنانيين. وقد بدا خلال اللقاءات أنه مستمعٌ أكثر منه متحدث، مكتفياً بطرح السيناريو البديل. وبحسب ما هو ظاهر، يُريد هوكشتاين تعليق المفاوضات التي يتولاّها الوفد العسكري التقني واستبدالها بـ”مسار جوال” محدّد الأجل، على أن يتولّى هو شخصياً إدارته ومحاولة إيجاد نقاط التقاء بين المسؤولين اللبنانيين و “الإسرائيليين” وتولّي مسؤولية تبادل الرسائل بينهما من دون دخول طرف ثالث ومن دون طاولة على أن يأتي وقتها لاحقاً ، حين يتمّ إنجاز مسودة اتفاق بين الجانبين، يصار إلى توقيعه برعاية أميركية وحضورٍ أممي، أي تطبيقاً للبند الرابع من “الإتفاق الإطار”.
وبعيداً عن التحليل، يبدو أن “طرح هوكشتاين” الذي يعمل عليه لخلافة “مسار الناقورة”، أعدّ أوراقه جيداً والإستفادة من أياد لبنانية، بدايةً عبر الإطاحة بالوفد العسكري المفاوض الذي يُحال وعملاً بموجب “المسار” إلى فريق استشاري للدولة اللبنانية عبر قيادة الجيش، ثم أطاح بدراسات الوفد من خلال قرار سياسي تولى التعبير عنه أولاً رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، حين أعلن عبر مقابلة تلفزيونية، إلتزام لبنان بالخط 23.
ذلك يعني نظرياً الإبقاء على حالة “النزاع الحدودي” قائماً بين الجانبين وإحالتها إلى المجهول بانتظار بلورة طاولة مفاوضات بديلة قد تصبح دائمة لاحقاً ، طالما أن سقف التفاوض قد أُسقط. وربما هناك من يشارك الأميركيين طرحهم في تحويل تلك الطاولة إلى “منصّة فكّ اشتباك” بين الجانبين، يُمكن وصفها أكثر وبشكل أدقّ بـ”طاولة تطبيع” تتخفّى تحت طبقات النفط.
محاولةٌ من هذا القبيل، يُفترض أن تواجه من جانب الجيش اللبناني بالرفض وتالياً من قبل فصائل سياسية أعلنت تموضعها منذ زمن بعيد في خانة طروحات الوفد العسكري التقني ورفض التطبيع “المستتر” الذي ينوي هوكشتاين وغيره تدشينه. يبقى السؤال، ما هو السبيل لمواجهة هذا المشروع في ظلّ وجود أكثر من فريق لبناني أساسي، يتماهى في الشكل والمضمون مع تلك الطروحات ويعبّر عن ذلك صراحة؟
وهنا، يجدر تصنيف وساطة هوكشتاين الحالية بالأخطر على مسار الترسيم من وجهة النظر اللبنانية القانونية. فعداك عن إسقاطه الخط 29 من القوائم لمصلحة خطوط “مشوّهة”، يريد خلق “خط وهمي” يفصل المنطقة “المتنازع عليها” قسمين، ويسمح لكل طرفٍ بالتنقيب ضمن نطاق محدد، أي بمعنى آخر إسقاط وصف “المنطقة الإقتصادية” على المنطقة السيادية اللبنانية، وإتاحة العمل ضمنها للشركات بمعزل عن القرار الرسمي السيادي اللبناني. من ناحية أخرى أنهى نظرياً العمل بالتعديلات على المرسوم 6433 ، واقتراحه يخلق مشكلةً داخلية حول الطبيعة القانونية لتلك العلاقة “الملتبسة” التي يريد عاموس هوكشتاين أن يؤسّس لها مع العدو الاسرائيلي، وأخيراً يدخل إلى الميدان ، شريكاً ثالثاً في الحقوق اللبنانية.
يحدث ذلك في وقتٍ يتخلّى “الطقم” السياسي اللبناني تدريجياً عن عناصر قوته في الملف بطريقة وقحة ، مكتفياً بالإستماع إلى مقاربات هوكشتاين الجديدة ، وفي ظلّ صمت لبناني رهيب بدأ عند إحالة الوفد العسكري التقني إلى تقاعد مبكر، ومن ثم “تجديد شباب” الفريق “التسووي” اللبناني الذي عمل سابقاً إلى جانب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ويحاول نفس المستوى إيهام الرأي العام بأنه لدى السلطة اللبنانية طرحٌ “عصري ومختلف.