يمنى المقداد – الديار
يقترب رفع الدعم النهائي عن المحروقات، ولعلّها من أصعب المراحل التي يمرّ بها اللبنانيون في خضم أزمة قلّ نظيرها في تاريخ بلدهم.
فعلى مدى 25 عاما كان الدولار ثابتا، وكان معه كلّ شيء كذلك، ومع الإنهيار المالي وإحكام السوق السوداء قبضتها، وتسعير الدولار وفق أهواء المتحكّمين بها من سياسيّين ومصرفيّين، تحرّر سعر الصرف حدّ الفجور، ففجّر معه العيش الكريم، الذي أصبح ضربّا من المستحيل.
فالوقود المشغّل لعجلة الحياة برمّتها، لم يعد بمتناول من يحتاجه، ومع ارتفاع سعره، ارتفع سعر الغذاء والماء والدواء، والنقل والكهرباء، وسواها، فتهاوى اقتصاد لبنان الحرّ غير المنتج بضربة المحروقات القاضية.
رفع الدعم من دون خطة بديلة كارثة
الإتحاد العمالي العام، جدّد صرخته على لسان رئيسه بشارة الأسمر، الذي أشار لـ «الديار» إلى أنّ البلد بلدنا، ويجب أن نسعى لإنقاذه مع كلّ الخيّرين، لافتا إلى أنّ ما يطرح اليوم هو حفلة تهجير كبيرة للشباب اللبناني والعائلات اللبنانية، ورأى أنّه لم يكن من المفروض رفع الدعم إلا بعد إقرار خطة بديلة بحجم بطاقات تمويلية واستشفائية ومحروقات، لافتا الى أنّ البطاقة التمويلية هي بداية الحل، وأنّ هناك نحو 90% من الشعب اللبناني بحاجة لهذه البطاقات، ومعتبرا أنّ رفع الدعم من دون خطة بديلة يشكل كارثة على كلّ القطاعات، واصفا القرار بالعشوائي وسيؤدي الى فوضى عارمة بالبلد .
أمّا تالي خطوات الحلّ، برأي الأسمر، فتتمثّل بالسعي لضرب الكارتيلات التي تتحكّم بمفاصل الإقتصاد الللبناني، كالإحتكارات والوكالات الحصرية، وشدّد على وجوب إعادة العمل بمرسوم تحديد الأرباح الذي ألغته وزارة الإقتصاد في التسعينيات، وتفعيل الرقابة على كلّ القطاعات: الغذائية والنفطية والمخابز والأفران.
وشدّد الاسمر على ضرورة أنّ تعمل الحكومة ليل نهار كخليّة نحل، لدعم الناس في ظلّ المأساة الكبيرة التي يعيشونها، واشار الى أننا إذا لم نبادر فورا الى التحرك ، فنحن امام انهيار لكلّ القطاعات، كاشفا عن اجتماعات الأسبوع المقبل بين الإتحاد العمالي العام والهيئات الإقتصادية ضمن لجنة المؤشر من أجل رفع الحد الأدنى للأجور بالقطاع الخاص وملحقاته، إذ لم يعد من سبيل للعيش من دون زيادة الأجور، فالحدّ الادنى يوازي سعر «تنكتين بنزين» .
أضاف: أننا أمام كارثة موصوفة، ويجب ان نتحرك ضمن الإيمان بلبنان وطنا دائما لنا، واستكشاف ثرواتنا واستخراجها، وطلب من الحكومة أن تقوم باعادة جدولة ديونها في الداخل أي أموال المودعين، ورأى أنّ هناك جملة اقتراحات يفترض أن تبحث في حوار بين الإتحاد العمالي العام والحكومة بهذا الشأن، وأن تجتمع الأخيرة كل يوم مرتين أو ثلاثة على الأقل، وأن ينذر الوزراء أنفسهم بهذه المرحلة لخدمة الناس وليس للوجاهة.
تثبيت سعر الصرف
وكان الأسمر قد صرّح مؤخرا في مؤتمر صحافي، أنّ ارتفاع اسعار المحروقات ســيؤدي لشلل اقتصادي، وأنّ كل عمل إنقاذي قبل تثبــيت سعر الصرف هو ضرب من المحال. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي مدى عملية تثبيت الدولار ممكنة في هذه المرحلة الإقتصادية والسياسيّة الحسّاسة؟
الخبير المالي والإقتصادي علي الموسوي أوضح لـ «الديار» أنّه بناء على قانون النقد والتسليف رقم 13513 الصادر عام 1963، لا بدّ لتأمين سلامة النقد اللبناني وفق المواد 70، 71 و 72 أن يتعاون المصرف المركزي مع الحكومة اللبنانية في موضوع رسم السياسيات المالية للأخيرة، من ضمنها عملية تدخل مباشر من قبل المركزي، وبحسب المادة 75 فإنّ دور حاكم المصرف هو تأمين ثبات القطع أي تثبيت سعر الصرف، والذي هو تدخل مباشر للمركزي بائعا أو شاريا للدولار الأميركي، وذلك يتّم وفقا لسياسة سعر صرف تتلاءم مع الإقتصاد اللبناني وتؤدي الى سلامة النقد اللبناني.
وتابع الموسوي شارحا أنّه منذ عام 1995 اتّخذ المصرف المركزي من خلال حاكمه – منذ ذلك الوقت – رياض سلامة بالإتفاق مع الحكومة اللبنانية التي كانت برئاسة الرئيس الشهيد رفيق الحريري على تثبيت سعر الصرف على 1520 ليرة ، وكان ذلك لمدة لا تقل عن 25 عاما، بالإعتماد على الإحتياطي النقدي من العملات الأجنبية وتحديدا الدولار الأميركي، وكان المركزي يصدر سندات اليوروبوند، ويقترض من المؤسسات الدولية، فيعزز إحتياطه كي يبقى سعر الصرف ثابتا، على أنّ من يحدد السعر هو المركزي أيضًا.
توقف الموسوي عند أسباب التحرّر القسري لسعر صرف الدولار في لبنان، فشرح أنّ يوم 17 تشرين الأول 2019، كان مفصليا في بداية الإنهيار المالي، فميزان المدفوعات كان في حالة عجز كبيرة جدا، فاقتصادنا ليس منتجا، والمبالغ التي تخرج سنويا من لبنان كانت بحدود الـ 20 مليار دولار، وأمام هذا الإستنزاف للدولار، وصل الخط الى المؤشر الأحمر، حيث لم يعد باستطاعة «المركزي» التدخل في سوق القطع مباشرة كالسابق، حفاظا على ما تبقى لديه من السيولة الصعبة التي استنزفت بين عامي 2020 و 2021 ، ومسّت بما يسمى الإحتياطي الإلزامي أي أموال المودعين، والذي كان يبلغ عام 2019 نحو 32 مليار دولار، وانخفض بسبب تهريب الأموال لحدود 23 مليار دولار.
واستمرّت عملية الإستنزاف بأشكال مختلفة بحسب الموسوي، ما أدّى لانهيار الليرة، واستمرّ «المركزي» بتأمين السيولة، وبدأ يخفّض من نسبة الإحتياطي الإلزامي من 15% من أموال المودعين لحدود 14%، ثمّ 12% من أجل توفير العملة الصعبة لتأمين الحاجيات الأساسية وبالأخص في فترة «الدعم»، لدرجة لم يعد باستطاعة مصرف لبنان أن يستخدم السيولة من الإحتياطي الإلزامي إلا بناء على قانون يجيز له ذلك، – كما قال حاكم «المركزي» رياض سلامة – بالرغم من أنّه استخدم هذا الإحتياطي من دون الإستناد الى قانون صادر عن مجلس النواب، بحسب الموسوي.
اجور لم تصحح منذ عام 1996
وفق الموسوي، وأمام هذا الإنهيار الحاد اليوم، وعدم قدرة مصرف لبنان أن يتدخل في سوق القطع، وترك السوق السوداء تتحكم بتسعير الصرف، كانت النتيجة رفع الدعم كليّا عن المحروقات، فارتفعت أسعارها، ما سينعكس بدوره على حركة النشاط الإقتصادي المنهار، وستزيد الأكلاف أكثر على المواطن على مستوى النقل وشراء السلع، وستتضخم الأسعار،»وهنا دخلنا بما يعرف في العلم الإقتصادي بـ»الحلقة المفرغة».
على ضفة الأجور، والتي أصبحت ما دون الصفر معيشيّا، يرى الموسوي أنّ الأجر على سعر 1500 ليرة لا يمكن أن يؤمّن للمواطن اللبناني أدنى الحاجيات الأساسية، ما سيؤدي حتما الى إنفجار اجتماعي، وأضاف أنّ الحد الأدنى للاجور المعتمد حدّد وفق «مؤشر الغلاء»، لكن منذ سنوات لم تنعقد لجنة المؤشر التي تحدّد نسبة ارتفاع أسعار السلع، وتؤدي لرفع الأجور بنسبة معينة.
ولفت إلى أنّه منذ عام 1996 لم تشهد الأجور ارتفاعا الا طفيفا، تمثّل في إقرار سلسلة الرتب والرواتب عام 2018 التي وصفها الموسوي بـالكارثة الكبرى في عملية استنزاف الخزينة، تزامنا مع حالة الهدر والفساد ما أدّى الى إفلاس الدولة، مشيرا الى عودة انعقاد إجتماعات مؤشر الغلاء اليوم برعاية وزير العمل بالتنسيق مع وزير الإقتصاد.
سعر الصرف: 12000 ليرة؟
في هذه الجزئيّة وبعد سؤاله عما يتمّ تداوله عن إمكانيّة تثبيت الدولار وفق سعر صرف 12 ألف ليرة، أشار الموسوي أنّ ذلك – على ما يبدو- رهان على قرض ماليّ من صندوق النقد الدولي، فاليوم تتفاوض الحكومة اللبنانية مع وفد الصندوق الموجود في لبنان، إنّما للصندوق شروط قاسية جدا على الدولة أن تنفّذها ليكون هناك إمكانية إقراضها.
هل يمكن تثبيت سعر الصرف؟ يجيب الموسوي أنّ المصرف المركزي ليس لديه إمكانية بتاتا أن يتدخل في السوق، فقد وصل الإحتياطي من العملات الصعبة الى حدوده الدنيا، وتثبيت سعر الصرف ووضع سياسة مالية وبرنامج تعافي اقتصادي كان ممكنا منذ سنتين أيام حكومة حسان دياب، التي أسقطت جمعية المصارف خطتها الإنقاذية بالتعاون مع المصرف المركزي برئاسة سلامة، وأصبح من الصعب جدا اليوم تثبيت سعر الصرف في ظل شح العملات الصعبة الداخلة الى لبنان، وعدم إمكانية الإستدانة من المؤسسات المالية، ورفض الحكومات الغربية ودول الخليج مساعدة لبنان، كما كان يحصل سابقا باقراضه تحت عناوين مساعدة أو هبة مالية أو قروض ميسرة متدنية الفوائد لكن هذا الأمر هناك إستحالة لتطبيقه اليوم.
إنفجار اجتماعي على وشك الحصول، اذا ما استمر الوضع على انهياره ولم تسارع السلطة التنفيذية بتثبيت سعر الصرف الذي دونه عوائق كثيرة، ليبقى الأمل بحلول إنعاشيّة تخفيفيّة، كرفع الحد الأدنى للأجور، وتفعيل مرسوم تحديد سقف الأسعار والأرباح والنقل العام المشترك، وهذا ما يخبرنا به أهل الإختصاص بشقّيه الإقتصادي والمعيشي، إنّما تجربتنا كأهل هذا البلد، تخبرنا بأنّ تحقيق ذلك ربّما يكون ضربا من المستحيل.