لأول مرّة في التاريخ تسوء العلاقات بين الجمهورية اللبنانية والمملكة العربية السعودية لهذا المستوى. فالمملكة قامت بسحب سفيرها من لبنان وطلبت من السفير اللبناني مُغادرة الأراضي السعودية وأوقفت كل عملية إستيراد من لبنان إلى أراضيها. وتبعها في إجراءاتها كلٌ من الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والكويت؛ ومن المتوقّع أن يكون لمجلس التعاون الخليجي مواقف مُتضامنة مع المملكة العربية السعودية. وتبقى المخاوف من تداعيات على مستوى جامعة الدول العربية مع تعليق عضوية لبنان في مجلس الجامعة وهو ما سيكون له تداعيات على الأمد البعيد.
هذا التصعيد، الجديد القديم، الذي فجّرته اليوم تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، بدأ عام 2011 إبان الإطاحة بحكومة الرئيس الحريري، وأخذ يتراكم مع الحرب في اليمن، وموقف وزارة الخارجية اللبنانية من بيان الجامعة العربية ضد إيران، وقضية تهريب الكبتاغون إلى المملكة العربية السعودية، وتصريحات وزير الخارجية السابق شربل وهبي إلى أن وصلت إلى تصريحات الوزير قرداحي.
وإذا كان هناك إجماع من قبل المعنيين على أن المطلوب من لبنان النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية، فإن هذا المطلب بعيد المنال نظرًا إلى الإنقسام السياسي الداخلي في لبنان.
تداعيات بالمليارات
عمليًا التداعيات الإقتصادية والمالية لهذا التصعيد حتمية وستُترجم أقله على خمس مستويات:
المستوى الأول – الصادرات اللبنانية إلى الدول العربية: تُشكّل الصادارت اللبنانية إلى الإمارات العربية المتحدة 14.52% من إجمالي الصادرات اللبنانية البالغة 3.8 مليار دولار أميركي في العام 2020، وتحتل بذلك المرتبة الأولى بين الدول العربية. وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية مع 5.75% (219 مليون دولار أميركي)، وقطر في المرتبة الثالثة مع 3.95% (150 مليون دولار أميركي)، والعراق في المرتبة الرابعة مع 3.58% (136 مليون دولار أميركي)، وسوريا في المرتبة الخامسة مع 3.21% (122 مليون دولار أميركي)، ومصر في المرتبة السادسة مع 2.59% (99 مليون دولار أميركي)، والأردن في المرتبة السابعة مع 2.07% (79 مليون دولار أميركي)، والكويت في المرتبة الثامنة مع 1.95% (74 مليون دولار أميركي)، وسلطنة عُمان في المرتبة التاسعة مع 0.68% (26 مليون دولار أميركي) والجزائر في المرتبة العاشرة مع 0.44% (17 مليون دولار أميركي)، والبحرين في المرتبة الحادية عشر مع 0.39% (15 مليون دولار أميركي)…
وتُشكل إجمالي الصادرات اللبنانية إلى مجلس التعاون الخليجي 27.25% من إجمالي الصادرات اللبنانية أو ما يوازي 1.04 مليار دولار أميركي (ثلث الصادرات اللبنانية!). أمّا الصادرات اللبنانية إلى الدول العربية مُجتمعة فهي تُشكل 40.63% من إجمالي الصادرات اللبنانية أو ما يوازي 1.55 مليار دولار أميركي.
إذًا وبفرضية فرض عقوبات على لبنان من قبل جامعة الدول العربية، فهناك مخاطر من أن تصل الخسائر المباشرة على الإقتصاد نتيجة وقف الصادرات اللبنانية إلى الدول العربية إلى 1.55 مليار دولار أميركي! الجدير ذكره أن الصادرات الزراعية هي المُتضرّر الأول حيث أن الأسواق الخليجية هي الوجهة الأولى لهذه الصادرات.
المستوى الثاني – تحاويل المغتربين اللبنانيين: تُشير أرقام الـ Migration Policy إلى أن صافي الهجرة اللبنانية منذ العام 2015 وحتى العام 2020 بلغت 150 ألف مهاجر لبناني. وتُقدّر المؤسسة أعداد اللبنانيين (منتصف 2020) في الدول العربية على الشكل التالي: المملكة العربية السعودية مع 154 ألف عامل، الإمارات العربية المُتحدة مع 42 ألف عامل، الكويت مع 13 ألف عامل، ليبيا مع 12 ألف عامل، قطر مع ثمانية ألاف عامل، الأراضي المُحتلّة مع ثمانية ألاف مُهاجر، البحرين وسلطنة عمان أربعة ألاف عامل في كلٍ منها، مصر ثلاثة ألاف عامل، العراق والأردن ألفي عامل في كل بلد، الجزائر والمغرب ألف عامل في كلٍ منها.
ويُقدّر البنك الدولي مبلغ تحاويل المغتربين إلى لبنان في العام 2020 بـ 6.3 مليار دولار أميركي، مقارنة بـ 7.4 مليار دولار أميركي في العام 2019، و7 مليار دولار أميركي في العام 2018، و7.1 مليار دولار أميركي في العام 2017. وفي تفاصيل التحاويل، تُشير أخر الأرقام والتي تعود إلى العام 2017 أن إجمالي التحاويل من المملكة العربية السعودية بلغت 1.6 مليار دولار أميركي، وتحاويل اللبنانيين من الإمارات العربية المُتحدة بـ 266 مليون دولار أميركي. وإذا كانت الأرقام من باقي الدول العربية غير مُتوافّرة، إلا أن التقديرات تُشير إلى أكثر من 2.5 مليار دولار أميركي من تحاويل من اللبنانيين المقيمين في الدول العربية.
وفي بيان أصدرته الخارجية السعودية ، قالت أن المملكة لا تُحمّل اللبنانيين العاملين على أراضيها مسؤولية ما آلت إليه الأمور وأنها تُحمّل السلطات اللبنانية المسؤولية، وبالتالي من المتوقّع أن لا يكون هناك – رسمياً – من ردّات فعل ضد اللبنانيين العاملين على أراضي المملكة أو في الدول الخليجية الأخرى. ومن جهة ثانية فإن وضع مؤسسة القرض الحسن على لائحة العقوبات السعودية، وإن كان لا يتعلق بتصريحات قرداحي، فهو يهدف بالدرجة الأولى إلى ملاحقة المتعاونين مع المؤسسة من داخل المملكة والخليج عامة وهو ما سيؤدّي حتماً إلى عملية تضييق واسعة على التحاويل بالإجمال.
المستوى الثالث – النفط العراقي: من المعروف أن وصول النفط العراقي إلى شركة كهرباء لبنان يمر بعملية swap مع شركة إماراتية وهو ما قد يؤدّي في حال إستعرّت الأزمة إلى وقف العقد وبالتالي سيتمّ حرمان لبنان من الفيول لشركة الكهرباء وهو ما سيزيد من مُعاناة الشعب اللبناني الذي يُعاني أصلًا من فساد مُطبق في هذا القطاع.
المستوى الرابع – إستجرار الكهرباء والغاز من الأردن: المشروع الأميركي والذي ينص على إستجرار الكهرباء من الفائض في الإنتاج الأردني بالإضافة إلى الغاز من مصر عبر الأردن، هو أيضًا في خطر الضغوطات العربية على الأردن الذي يتعلّق بنسبة كبيرة بالمساعدات الخليجية. وبالتالي وفي ظل فرضية تصعيد إضافي، هناك إحتمال لوقف هذا المشروع برمّته.
المستوى الخامس – المفاوضات مع صندوق النقد الدولي: منهجية حكومة الرئيس ميقاتي تختلف بالجوهر مع منهجية حكومة الرئيس دياب. فحكومة دياب إعتمدت على مبدأ توزيع الخسائر على اللاعبين الإقتصاديين (لا يُمكنهم بأي شكل تغطية الخسائر)، في حين أن حكومة الرئيس ميقاتي إعتمدت مبدأ النمو الإقتصادي لإمتصاص الخسائر بناءً على نصائح صندوق النقد بحكم أن الفائض الأولي هو الوحيد القادر على إعادة الإنتظام المالي للدولة اللبنانية. إلا أن هذا النمو لا يُمكن أن يأتي إلا من خلال إستثمارات مصدرها الأساسي هو مؤتمر سيدر. وهنا تكمن المُشكلة، إذ أن 45% من وعود الإستثمارات تأتي من دول الخليج سواء مباشرة أو غير مباشرة. وبالتالي وفي ظل فرضية التصعيد، فإن برنامج حكومة الرئيس ميقاتي لا يستقيم وستكون المُعاناة اللبنانية أطول وكلفتها على المواطن أعلى.
الخروج من الأزمة
الخروج من الأزمة الديبلوماسية مع المملكة العربية السعودية لم يعد يقتصر على إستقالة وزير الإعلام جورج قرداحي، فالتصعيد كان يُمكن تفاديه في البداية لو تمّت هذه الإستقالة، إلا أن حجم التصعيد تخّطى هذا المستوى إلى مستويات أخرى.
بالطبع الملجأ الرئيسي للسلطات اللبنانية هي فرنسا وبالتحديد الرئيس ماكرون الذي إلتقاه الرئيس ميقاتي أول من أمس للبحث في الأزمة على هامش قمّة كوب 26 المناخية في بريطانيا. إلا أن فرنسا التي عجزت عن الإستحصال على موعد لميقاتي في الرياض، سيكون من الصعب عليها حلّ هذه الأزمة بالشروط اللبنانية خصوصًا أن الوحدة الخليجية خلف المملكة العربية السعودية قائمة وبالتالي لن يكون من السهل الخروج من الأزمة.
إجتماع خلية الأزمة الوزارية أول من أمس، شهدت حدثًا له معان كثيرة. فوزير الخارجية اللبنانية طلب من القائم بالأعمال الأميركية حضور إجتماع اللجنة وهو ما يوحي أن السلطات اللبنانية تطلب مُساعدة الأميركيين في مواجهة هذه الأزمة عبر التوسط مع المسؤولين السعوديين.
إلا أن الوساطة الأميركية – إذا ما حصلت – لن تكون بالشروط اللبنانية، فالتصعيد الأميركي الأخير تجاه لبنان عبر فرض عقوبات على شخصيات لبنانية سياسية ومن بيئة الأعمال، تحمل في طياتها مواجهة مع حزب الله. وبالتالي وفي ظلّ فرضية قبول الأميركيين الوساطة، من المتوقّع أن يكون هناك شروط على رأسها قبول لبنان (وضمنًا حزب الله) بسياسة النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية وهو ما يعني عدم التدخل العسكري أو الإعلامي في اليمن وسوريا والعراق. ويبقى السؤال الجوهري عمًا إذا كان الأفرقاء اللبنانيين مُستعدين لملء هذا الشرط الذي يعتبره العديد من السياسيين الحاليين أنه سيكون شرطًا أساسيًا للحصول على مساعدات خارجية ومن ضمنها مساعدة صندوق النقد الدولي.
الديار