عبدالله قمح – ليبانون ديبايت
يتماسك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بوجه الحملة السعودية، كذلك يفعل وزير الإعلام جورج قرداحي المعنيّ بها. السعوديون وضعوا سقفاً لهم، ألا وهو دفع قرداحي إلى الإستقالة، أو إقالته، وتحت هذا العنوان وسّعوا من حراكهم الداخلي، ألا أن صدمتهم كانت في تمسّك قرداحي بموقعه وميقاتي بحكومته على الرغم من “عدوانية الهجمة” وشراستها. وميقاتي “المحسود” على موقعه وسط كل هذه الجلبة، ولو تسنّى له لولّى هارباً، لكنه مقيد برزمة ضمانات وأسير مصلحة الخارج، ولسوء حظّه أضحت القضية أكبر منه، وأي تصرّف يصدر عنه يجب أن يحسبه بدّقة حتى لا يؤثر على مستقبله السياسي.
في الداخل ثمة “مجموعة ضغط” تعمل تحت أمرة الرياض أو في خدمة أهدافها: دفع القرداحي إلى الإستقالة. مجموعة الضغط الإعلامية/السياسية تلك نشطت خلال الأيام المنصرمة في تركيز هجومها على الوزير غير السياسي، وللتحديد أكثر، عملت على محاولة الربط بين تصريحاته التي اعتُبرت “مسيئة للخليج” وبين مستقبل الرعايا اللبنانيين العاملين في الخليج، من أجل اللعب على وتر العامل النفسي طبعاً وللتأثير على وزير الإعلام أخلاقياً. في المقابل، كان ثمة مجموعة ضغط أخرى نشأت بعد الأزمة، تمثلت بـ”حزب الله” وجيشه الإلكتروني + تيار “المردة” الذي واكب سياسياً على أرفع مستوى. هؤلاء بكّروا في تأمين الدعم لقرداحي وتكريسه رقماً. وبموازاة الحملة السعودية الداعية للإطاحة به، كان هؤلاء يعتبرون أن الإطاحة تعدّ بالنسبة إليهم بمثابة هزيمة! وقد شدّوا من خلال الإحتكام إلى هذه المقاربة من أواصر قرداحي ،الذي كما بات واضحاً، ركن إلى حماية نفسه عبر اللجوء إلى “شبكة الأمان” تلك التي صنّفته عنصراً مدعوماً وعلى حق. لذلك لم يخرج عما كتبه من الأساس بأنه كان يبدي رأياً حين لم يكن قد صار بعد مسؤولاً بعد.
وعلى نفس القيمة السياسية الكبرى، أتى موقف الوزير السابق سليمان فرنجية، بصفته راعياً سياسياً للقرداحي، حين رفض من مقر البطريركية المارونية بما يمثّل هذا الصرح من قيمة، التعاطي بدونية أمام السعودية. وشدّد أمام البطريرك الراعي على أن قرداحي لم يخطئ، لذلك فهو غير معني بتقديم اعتذار أو بالإستقالة، و”إن أُقيل أو استقال”، فنحن لن نشارك في الحكومة، ولن يكون من السهل تأليف حكومة جديدة.
و “نحن” التي رددها فرنجية هي ببساطة تجسيد لوجهة نظر الفريق الذي يمثّله ويعبّر عن صلب موقف حلفائه: “حزب الله” ردّد بأنه لن يشارك في حكومة جديدة إن أُطيح بهذه الحكومة. ذلك يعني أن حكومة تصريف الأعمال ستسود حتى نهاية العهد، وربما أبعد، لأن الحزب يعتبر أن انكسار قرداحي في هذه المعركة بالذات يُعتبر بمثابة انكسار سياسي للضاحية بما تمثل من ثقل، ومن بعدها لن يجرؤ سياسيٌ واحد على البوح بكلمة، وستنال السعودية ثلثاً معطلاً في أي حكومة من دون أي وزير، وستفوق قدرتها قدرة أية أكثرية نيابية من دون أن يكون لها نائباً واحداً، ويمثّل ذلك إخلالاً واضحاً بالتوازنات الداخلية، ولذلك لن يتساوى الحزب مع السعودية طالما أن القاعدة غير متوازنة أو هشّة، وبالتالي لن يسمح بتأليف أي حكومة والمسدس في رأسه!
هكذا، وبعدما تمادى الصراع على التصريح وظهر بأنه صراع أكبر من تصريح، باتت القدرة على الحلّ خارج حدود وزير الإعلام، ولو أنه بالنسبة إلى الجانب السعودي يُعدّ “نقطة الضعف” التي منها يصار إلى تمكين سياسة الضغط السعودية. والقرداحي الذي استدعاه البطريرك الراعي بناءً على استحصاله على إذنٍ من فرنجية، دخل بكركي منتشياً ومن دون أن يؤثر عليه الضغط، وقد خرج منها دون استقالة، علماً أن الماكينة الإعلامية السعودية كانت قد نشطت بمحاولة “زرك القرداحي” حين أوحت بأن زيارته إلى بكركي ستسفر عن تخريجة يقدم استقالته بموجبها. وثمة تقديرٌ هنا يفيد بأن قرداحي (أو ميقاتي) الذي سيأتي عليه الدور لاحقاً إن لم ينجح في مشروع فكفكة الحكومة عبر إزاحة قرداحي، عليه واجب الثبات لعدة أيام هي ببساطة “ذروة العاصفة”، فإن عبر يعني أنه نجح في عدم الإمتثال والثبات، لأن الحلّ سيكون سياسياً ولن يدفع أحد من أعضاء الحكومة أي ثمن.
وللحقيقة، فإن باريس تندفع من أجل تمكين الحكومة داخلياً، وتحصينها من دفع الأثمان السياسية لعلمها بهشاشتها ولابتغائها مصلحةً منها، والكلّ يعلم أن ما تبتغيه باريس من حكومة ميقاتي التي ظهرت بأنها على غير ما تمنّت العاصمة الفرنسية، أكبر من الخسائر التي سيتسبّب بها فقدان الحكومة. لذلك كانت باريس واضحةً حين أبلغت ميقاتي بضرورة الثبات والتحمّل وعدم الإستقالة، على أن تتولّى هي محاولة التخفيف من آثار ما يحدث. وهذا الموقف يستبطن تحذيراً له من مغبة عدم سماع النصيحة واللجوء إلى استقالة ستفقده الثقة المحدودة التي ما زال يتمتع بها في باريس.
إلى جانب ذلك، يُقال أن باريس تتقاسم وجهة النظر مع عدة مقارّ سياسية لبنانية لجهة أن “الحملة السعودية المستجدة” لا علاقة لها بتصريح وإنما بتصريف نفوذ وتحقيق أهداف سياسية موضعية في لبنان على مقربة من الإنتخابات النيابية ولتكريس مزيد من الضغط على حزب الله للتنازل في اليمن.
لذلك وبعدما أضحى منطق سحب السفراء سائداً ما يعني أن الأزمة باتت أزمة إقليمية، فإن حلّها يجدر أن يكون إقليمياً. من جهة أخرى، فإن نخبة من المثقفين في بيروت، كان قد غلب عليهم الظنّ خلال المرحلة الماضية، من أن السعوديين يبيّتون شيئاً للبنان عبر استغلال طريقة تشكيل حكومة ميقاتي وحين منعوا تغطيتها خلافاً للفرنسيين مثلاً. وليس من الصواب البتة ربط ما يحصل بأن سببه تصريح، علماً أن الرئيس نبيه بري و الزعيم وليد جنبلاط وآخرين من الطبقة السياسية المخملية، قد وصفوا سابقاً الحرب السعودية في اليمن بالعبثية، بينما ذهب الوزير السابق وئام وهاب إلى أبعد من ذلك، دون أن يحدث شيء. فلماذا الآن قررت السعودية التحرّك بهذا العنف السياسي المفرط؟
من جهة أخرى، كان واضحاً أن الأميركيين يلعبون “سولد” في ما يجري. من جهة هم لا يريدون تكريس حكومة ميقاتي كحالة دائمة إنما ظرفية تصلح لتسيير الشؤون، ومن جهة أخرى يريدون التعاطي معها بحدود معقولة ولا يبتغون إزاحتها. وليس سراً أن الجانب الأميركي يفكر غازيّاً. وتأسيساً على ذلك بعث بكبير مستشاري الرئيس الأميركي جو بايدن، عاموس هوكيشتاين إلى المنطقة لمحاولة إيجاد خرق في ملف الحدود البحرية، ولذلك “لن يشاغب” الأميركيون في هذا التوقيت وقبل أسبوع من قدوم هوكيشتاين إلى المنطقة مجدداً، لزيارة فلسطين المحتلة ومحاولة إقناع العدو بـ”تسوية” تنهي ملف الحدود البحرية مع الجانب اللبناني وتسمح بتقاسم الآبار الغازية. من هذه الزاوية تجدر قراءة مشىاركة القائم بأعمال السفارة الأميركية في لبنان ريتشارد مايكلز، لمدة نصف ساعة في اجتماع خلية الأزمة الذي انعقد في وزارة الخارجية.