تكمل خالدة سعيد في الجزء الثاني من كتابها «فضاءات، يوتوبيا المدينة المثقفة» الصادر حديثاً عن «دار الساقي» ما بدأته في الجزء الأول الذي أبصر النور عام 2012. هذه المرة ترصد الكاتبة 37 شخصية ساهمت في صنع رسالة لبنان النهضوية في النصف الثاني من القرن العشرين، بهدف توجيه «تحية للأولمب اللبناني الرائد والصامد، وللمناخ اللبناني الثقافي» في هذه الفترة القاتمة، لا بل من بين الأكثر ظلمة في حياة اللبنانيين. وهي تركّز في دراستها للشخصيات على جانب تعتبره «رسولياً» في مسار المثقفين اللبنانيين، لأن «ما من مجلة أو كتاب أو مقالة أدبية، إلا وتعبر بوضوح عن هدف بعيد، هو الإسهام في الإصلاح والتنوير والارتقاء». من عبد الله العلايلي، الشيخ اللغوي الفذ، عبقري العربية والاستقراء والتحليل وانتهاء في آخر الكتاب بجورج شحادة الذي كتب بالفرنسية وترك لنا مسرحيات وقصائد، الولوج إليها هو دخول إلى عالم الأسرار، نتلمس هذا «الحضور الرسولي» و«قصدية القيام برسالة». وهو ما تعتبره الكاتبة خصيصة لبنانية، تتوجب الإضاءة عليه. بعض الدراسات تركّز على نقد الأعمال، وأخرى على المسارات. تركت الكاتبة لنفسها حرية مقاربة الشخصيات تبعاً لما تراه مناسباً. لكن أكثر ما يلفت هي الصفحات التي كرست لفيروز وجاءت مختلفة تماماً في روحها، عما قبلها وبعدها.
فالناقدة والأكاديمية التي أغنتنا بدراساتها، كانت تعمل لإصدار مؤلف خاص عن جارة القمر، لمعرفتها بها، وللدور الهائل الذي لعبته في بلورة الضمير والوجدان العربيين، ولأن «دار مركور دو فرانس» كانت ترغب في نشر هذا الكتاب.
سيرة فيروز لم تكتب
هذا المشروع لم يتم، لسوء حظنا، رغم زيارات خالدة سعيد المتكررة لمنزل فيروز. وتقول خالدة سعيد في مقابلة لها إن فيروز لم تبح، خلال تلك الجلسات، بأكثر مما هو معروف من أخبار. وتكمل: «كتابة السيرة تطلب الكلام، وإن لم يكن كلّ الكلام. لا بدّ من حكاية فيها شيء من الخصوصية والجدة قياساً إلى الشائع المعروف. الآن صرتُ في وضع صحي لا يسمح بالسّفر، ولا بالعمل على موضوع بالغ الجدية، بل هو بالنسبة إلي موضوع مقدّس. لكنه الآن مضى. تجاوزه الوقت، تجاوزني الزّمن».
منذ أواخر التسعينات، وخالدة سعيد تستدرج فيروز لكتابة هذه السيرة، ويبدو أنها قررت الاستفادة من بعض ما جمعته، لتضمنه كتابها الجديد، وإن جاءت المعلومات على قدر من التحفظ، مسايرة لفيروز ورغبتها في التكتم، إلا أنها زودتنا بإضاءات مهمة. نتعرف على فيروز «العفريتة»، التي كانت طفلة ذات حيوية كبيرة، بقدر ما كانت تحب اللعب، نجدها منضبطة في الصف، وهو ما كان يدفع إلى توكيلها بمراقبة بقية زملائها. طفولة فقيرة، لكنها مليئة بالرضا. تقول الكاتبة «كم مرة سمعنا فيروز تتندّر على حذائها الذي تغير ألوانه وفق الفصول، لأنها لا تستطيع أن تشتري غيره… وكم تكلمت عن بيت الأسرة المكون من غرفة واحدة، في حوش تحيط به بيوت مستورة، وعلى هوسها الدائم بالنظام والترتيب والنظافة».
خلال «البحث عن الغنى الكامن في شخصية فيروز، ونشأتها»، ثمة إحالة إلى دور الأب الذي له شخصية «ساحرة، صامتة… شجاع، عصامي، جاء إلى لبنان بمفرده فتى يافعاً، هرباً من المجازر التي أوقعها العثمانيون بالأقليات التاريخية في شمال سوريا، وبينها أهل له». في إشارة غير واضحة إلى نوع الأذى الذي تعرضت له عائلة فيروز السورية في تلك الفترة. «تعلم والد فيروز في لبنان وعمل بصمت، وأنشأ أسرة صالحة». هذا الصمت الذي يتكرر التركيز عليه، سترثه فيروز عن والدها. هو انكفاء لم يأتها باكراً. كانت طفولتها «فوّارة سعيدة». عاشت «لعوب، ضاحكة، مشرقة» تعرف كيف تميز بين أوقات اللعب والجد. فترة بدت فيها على صغر سنها «ذات شخصية ولها سلطة وقرار». وإن كانت فيروز تسخر من ضعفها أثناء سنوات الدراسة، في الرياضيات والحساب، «لكنها نادراً ما تتكلم عن ذاكرتها الخارقة، وتميزها في دروس التاريخ، واللغة والإنشاء بشكل خاص، وبقية المواد الأدبية».
مع عاصي دخلت في الصمت
تزن الكاتبة كلماتها عن فيروز بميزان الذهب، كي لا تبوح بأكثر مما هو مسموح أو سبق نشره. لكن الميزة هذه المرة، أنه بقلم ناقدة رصينة، وموثوقة. لا نعثر على معلومات عن والدة فيروز وإنما عن جدتها لأمها التي كانت تزورها في قرية الدبية، أثناء العطلات الصيفية، وتحتفظ ذاكرتها بقصص غاية في اللطف والظرف، تترك الكاتبة لفيروز، أن ترويها لنا ذات يوم.
في المدرسة يكتشف الموسيقي محمد فليفل فيروز، حين جاء يبحث عن أصوات لتكون نواة فرقة للإنشاد الوطني. أراد إدخالها المعهد الوطني الموسيقي ثم إلى الإذاعة، وهو ما حصل فعلاً. لم يوافق الوالد، قبل أن يؤكد له فليفل أن ابنته لن تغني سوى الأغنيات الوطنية، مشترطاً أن ترافقها أمها. في الإذاعة اهتم حليم الرومي بفيروز وخيّرها بين اسمي شهرزاد وفيروز، وعبره تعرفت على عاصي الرحباني.
تشدد الكاتبة على تحول في شخصية فيروز، بعد تعرفها على عاصي، ستصبح الفتاة «العفريتة» كائناً انطوائياً. «ستصبح قليلة الكلام، كثيرة التفكير والتأمل، قليلة الظهور خارج مناسبات الأداء الفني والعرض المسرحي، وتبدأ حياتها الجديدة».
وراء المجد الذي توجها نجمة في هذه الفترة، ستسير السيدة على درب الجلجة. إعاقة ابنها هلي شكلت لها «جرحاً لا يندمل»، تطلب أحياناً أن يكون في الكواليس. تقول خالدة سعيد: «كنت أرى فيروز على المسرح متوهجة، تتدفق عطاء وتتألق تعبيراً، وحين ندخل لتحيتها بعد العرض، نرى الفتاة الحيية، وكأن ما توهج على الخشبة لم يكن تعبيرها، خاصة عندما تكون قد طلبت إحضار هلي لتراه لأنها تشتاق إليه، ولا تقدر أن تفارقه طويلاً».
فيروز هي جوهرة بذاتها، واعتبار أنها صناعة رحبانية هو أمر مبالغ فيه. «صحيح أن ألحان الرحبانيين كان لها دور مهم، لكن فيروز غنت لملحنين آخرين، جميعهم نجحوا كنجاح الرحبانيين، وأحياناً أكثر». وهي واصلت الصعود بعد غياب عاصي، وتألقت مع ابنها زياد الرحباني وفيلمون وهبي ودعيت إلى أكبر المسارح العالمية.
فيروز فاعلة في المشروع الرحباني
لم تكن فيروز مجرد مؤدية، هي أيضاً موحية. «عاصي الرحباني كان يستوحي شخصيتها ويرسم الدور لها… ثمة تناغم وانسجام بين معظم الشخصيات التي مثلتها وشخصها». وتقول خالدة سعيد حرفياً ما يمكن أن يثير بلبلة كبيرة: «إن جميع الأدوار المسرحية التي لعبتها، جميعها من تأليف عاصي، حتى في المرحلة الأولى من مرضه، كانت أدواراً تستوحي شخصية فيروز أو ترسم خصيصاً لشخصها». وهو ما يعيد السؤال إلى مسألة توقيع الأخوين رحباني لـ22 مسرحية من بطولة فيروز. في هذه الحالة ما الذي كان يكتبه منصور، إن كانت شخصية فيروز هي بقلم عاصي؟
لم تتحول فيروز إلى أيقونة لأدائها المسرحي أو لجمال صوتها بل لـ«دورها الفعّال» في صناعة الإرث الرحباني. فيروز لم تكن مجرد مؤدية لهذه الشخصيات، بل «آمنت بتحققها، ومنحتها حياتها، غامرت فيها بكيانها، كما يقتضي الفن العظيم. نقلت شخصياتها من حيز الخيال إلى الحياة. وكانت مسيرتها خلال سنوات الحرب الطويلة، تمسكاً بقيم تلك (الشخصيات) أو (الأدوار) من وعد وإيمان بجدارة الفن في إنقاذ العالم».
القدر لم يكن رحيماً بفيروز، إضافة إلى مأساة هلي، كانت إصابة عاصي وانتقال القرار إلى منصور، وتباين الآراء، ووفاة ابنتها ليال قبل أن تبلغ الثامنة والعشرين.
قبل يومين فقط من إصابة عاصي بنزف في الدماغ في 29 سبتمبر (أيلول) 1972. كانت فيروز قد أدخلت المستشفى، بسبب حالة من الإرهاق الشديد، «لقد انهار النسران في وقت واحد، ولهذا ما لا يحد من المعاني والدلالات».
وضع عاصي كان شديد الخطورة، ما أنقذه، بحسب طبيبه الجراح، أن حجم دماغه كان أكبر من الحجم المعتاد لمرضى آخرين. وبعد شهرين من العملية، لحن لفيروز أغنيتها الشهيرة «ليالي الشمال الحزينة»، التي غنتها في مسرحية «المحطة» وتابع التلحين، مع أنه فقد قدرته على الكتابة والتعامل مع الحروف والنوتات.
بعد انتقال القرار إلى منصور، بقيت فيروز «ست سنوات من الصبر والانتظار بين عامي 1973 و1979 بينت لها أن الاستمرار في هذا الوضع لا يحتمل. مما جعلها تغادر منزلها في الرابية ومعه المكتب أو الاستوديو الفني تاركة وراءها كل شيء، تراث عمرها وعمر عاصي».
عاصي وفيروز علاقة لم تنقطع
وهنا تؤكد خالدة على عكس ما يتردد «بقيت فيروز على علاقة طيبة مع عاصي، الذي ظل يزورها في بيتهما الصيفي في بكفيا، مصطحباً ولدهما هلي. ثم انتقل في المرحلة الأخيرة من مرضه إلى بيتهما في الروشة، حيث أمضى بقية أيامه قبل رحلته الأخيرة إلى المستشفى ووفاته في 21 يونيو (حزيران) 1986».
ظلت فيروز في لبنان طوال فترة الحرب، قائلة: «أفضّل العيش في بيروت مع الخوف، على أن أكون تعيسة إذا غادرتها». وهو حضور كان زاخراً بالمعاني والرسائل التي تلقاها الناس، وحتى المقاتلين. فمما لا نعرفه أنها في عز الحرب كانت «تعبر الحواجز المسلحة بين بيروت الشرقية والغربية، فيحييها المقاتلون من المعسكرين ويفتحون لها الطريق».
والكتاب فيه دارسات عن كل من سعيد تقي الدين، ميشال أسمر والندوة اللبنانية، فينوس خوري غاتا، خليل سعادة، سهيل إدريس، أنسي الحاج، مارون عبود، مونسنيور ميشال الحايك، شفيق جحا، يمنى العيد، عادل ضاهر، دسلوى نصّار، صلاح ستيتية، سعاد الحكيم، منى السعوديّ، أمين الريحانيّ، غسّان تويني، يوسف حبشي الأشقر، هلن خال، عبّاس بيضون، فاطمة الحاج، ألبير أديب، هدى بركات، إلياس خوري، سعيد عقل، صفية سعادة، عقل العويط، إيليا أبي ماضي، أديب مظهر، صلاح لبكي، فوزي المعلوف، شفيق المعلوف، إلياس أبي شبكة، يوسف غصوب. عن كل شخصية تمكنت الكاتبة من قطف بعض الثمر الذي يستحق التوقف عنده، غير أننا وجدنا فيما كتبته عن فيروز أهمية خاصة، رغم التحفظ الشديد في السرد.
سوسن الأبطح – الشرق الأوسط