عماد مرمل – الجمهورية
بينما كان الواقع اللبناني عموماً، والحكومي خصوصاً، يترنّح تحت وطأة مفاعيل أحداث الطيونة الدامية والخلاف حول القاضي طارق البيطار، أتت العقوبات الديبلوماسية والاقتصادية السعودية في حق لبنان لتزيد في الطين بلة، ولتفرض تحدياً صعباً على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
صار محسوماً لدى الجميع في لبنان وخارجه انّ الازمة المندلعة بين بيروت من جهة والرياض وحلفائها الخليجيين من جهة أخرى، لا يمكن اختزالها بالمواقف التي أطلقها وزير الإعلام جورج قرداحي حيال حرب اليمن، قبل تعيينه في منصبه الرسمي، بل هي تعود إلى مجموعة عوامل متداخلة، بعضها مستجد وبعضها الآخر متراكم. وبالتالي، لو لم يُدلِ قرداحي بما أدلى به لكانت أي «قدّاحة» أخرى ستشعل الحريق.
ويؤكد العارفون ان الرياض لم تستسغ حكومة ميقاتي ولم تهضمها منذ لحظة ولادتها، بل ان السفير السعودي وليد البخاري شَنّ، بعد تشكيلها بأيام قليلة، هجوما عنيفا على عدد كبير من وزرائها خلال لقاء بعيد من الأضواء مع بعض الشخصيات اللبنانية التي كانت تزوره في مقر إقامته، حيث تولى تشريح سيرة أولئك الوزراء، شارحاً بالتفصيل كيف أنهم لا يناسبون الحقائب التي أوكلت إليهم.
ووفق محضر تلك الجلسة بين البخاري وزواره، اعتبر ان التشكيلة الحكومية خيّبت الآمال ولا يمكن أن تكسب الثقة السعودية، مؤكدا ان أبواب المملكة مقفلة أمامها وان عليها ان تعلم ان سياسة التسوّل لم تعد مجدية.
حينها، أبدى البخاري أمام ضيوفه اقتناعه بأنّ معظم الوزراء الجدد لا ينالون رضى اللبنانيين بالدرجة الأولى، وكان لافتاً انه توقّف منذ ذلك الوقت عند اسم قرداحي، معتبراً ان الرئيس السوري بشار الأسد هو الذي دفعَ نحو اختياره وزيراً.
وليس خافياً ان حكومة ميقاتي وُلدت اساساً بفِعل تقاطع أميركي – فرنسي – إيراني، وهذا ما يفسر مُسارعة واشنطن وباريس الى «التقاطها» قبل أن تقع تحت تأثير الضربة القاسية التي تلقتها من السعودية والدول الخليجية المتضامنة معها، إذ أصبح واضحاً ان الغرب يرفض استقالة رئيس الحكومة، ويحاول تأمين التغطية اللازمة له لكي يصمد حتى موعد إجراء الانتخابات النيابية.
لكنّ لسان حال ميقاتي يقول: من يأكل العصي ليس كَمَن يعدّها، والجمرة لا تحرق الا مكانها. وبالتالي، فهو يشعر بأنه ليس سهلا الاستمرار في ترؤس حكومة منبوذة من الرياض وغالبية دول الخليج، خصوصا انه لا يستطيع أن يتجاهل حيثيته السنية وتعاطف البيئة التي ينتمي اليها مع المملكة.
من هنا، يوحي ميقاتي بأنه يحتاج الى الحصول على «قرض سياسي» لاحتواء العاصفة السعودية، متمثّلاً وفق حساباته في استقالة قرداحي التي يعلم انها لا تكفي لإعادة وصل ما انقطع، لكنها يمكن أن تشكّل، في رأيه، مبادرة حسن نية تؤسّس لحوار جدي وحقيقي مع الرياض.
في المقابل، يرفض المحور الداخلي الداعم لقرداحي، كما الوزير نفسه، إهداء المملكة استقالة عبثية ومجانية ستمنحها انتصارا معنويا من دون أن يكون له مردود على لبنان لجهة تجميد التدابير العقابية المُتّخذة في حقه، بل يخشى هذا المحور ان تكرّ بعد ذلك سُبحة المطالب لانتزاع تنازلات إضافية، علماً ان قرداحي أبلغ إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي انه جاهز للاستقالة فوراً اذا كانت ستؤدي الى تراجع السعودية عن إجراءاتها الأخيرة، وهو الأمر الذي لا يستطيع أحد أن يضمنه وسط امتناع الرياض عن اعطاء أي إشارة واضحة الى ان استقالة وزير الإعلام او إقالته ستحقق انفراجاً في العلاقات المتدهورة، خصوصا بعدما أعلن وزير الخارجية السعودي ان المشكلة الحقيقية هي أكبر من قرداحي وتتعلق بما سمّاها «هيمنة «حزب الله» على لبنان».
وعليه، باتت المعادلة الراهنة كالآتي: «الحكومة باقية بإرادة دولية وقرداحي باق بإرادة محلية»، الا اذا قرر ميقاتي، بعد استنفاد محاولات تدوير الزوايا، ان يقلب الطاولة ويخرج من المواجهة حتى لا يضع نفسه في «بوز» المدفع، وإن كان هناك من يظن أن «بوليصة التأمين» الغربية قد تشجعه على الصمود.
واللافت في الأزمة المستجدة هو انّ الرياض تتهم الحكومة بأنها خاضعة لنفوذ «حزب الله» او هيمنته، في حين ان فرنسا واميركا (التي تعادي الحزب بشراسة) هما الأشد تمسكاً بها والأكثر إصراراً على استمرارها، ولولاهما لاستقال ميقاتي بلا تأخير، «فهل انّ واشنطن وباريس تدافعان عن حكومة السيد حسن نصرالله وتمنعان سقوطها؟». تتساءَل بتعجّب أوساط قريبة من أحد المكونات الوزارية، مُبدية تخوفها من ان يدفع لبنان هذه المرة ثمن التجاذب السعودي – الأميركي – الفرنسي، الى جانب التجاذب «التقليدي» بين الرياض وطهران.
وتشير الاوساط الى ان الحلفاء اللبنانيين المشتركين لواشنطن والرياض هم الآن في موقع لا يُحسدون عليه، لأنّ جانباً من المشكلة الحالية يتعلق بحسابات متضاربة داخل الخط الاستراتيجي الواحد.