جبل نُقُم الذي يحملُ صنعاء بين ذراعيه منذ آلاف السنين خوفًا عليها من الغرق، ثمّة مكتبة في قمته أقدمُ من الأزل تفتحُ أبوابها مرة في العام.
المختارون يعلمون أنها تبيعُ صنفًا نادرًا من الكتب، تكون متاحة لساعات محدودة، من غروب الشمس وحتى الفجر، في الليلة التي توافق الذكرى الحزينة لمقتل البطل الأسطوري سيف بن ذي يزن على يد حراسه الأحباش.
جمع غفير من المغامرين يحجّون إلى الجبل في تلك الليلة المرصودة، يصعدون بِهمّة عالية وهم يهزجون بالأناشيد الحماسية.
أحيانًا، في السنوات ذات الطالع السعيد ينيرُ البدر دروب الجبل، لكن في هذه الليلة كان القمر غائبًا – قيل مقتولاً وجثته أسفل الوادي مخضبة بالدماء – والظلام حالكًا.
تسلقتُ حافيًا، والأشواك تنهشُ ساقيَّ، إذ ليس مسموحًا لنا حمل كشاف أو حتى يَرَاعَة مضيئة. وصلتُ إلى القمة مجهدًا، ولجتُ المكتبة وذاكرتي ترفض بعناد تذكّر عنوان الكتاب الذي أسعى وراءه. اشتكيتُ للبائع الباهت البشرة من رواغ ذاكرتي، فإذا به يُفعفع كراعٍ يزجر غنمه: “أهو الكتاب الذي اشتريتَ منه عشر نُسخ في العام الماضي؟”، انشرح صدري لأنه عرفني كما يعرفُ الراعي شاته الشاردة: “نعم هو، لقد وزعتُ النسخ العشر على أصدقائي ونسيتُ أن أحتفظ بواحدة منها لنفسي”. فَغَر البائع فاه حتى طقطقتْ الرفوف الخشبية من دويّ ضحكاته الجوفاء اللا مسموعة: “الكتاب الذي تبتغيه عنوانه المصير، لكن عليَّ تنبيهك، ملك اليمن سيف بن ذي يزن لم يفرغ من تأليفه بعد”.
خجلتُ من تلويث البلاط بالدم النازف من قدميّ: “ومتى ينتهي منه؟”، رد بحيوية: “إنه يكتبُ لكلّ قارئ مصيرًا خاصة به، لا نسخةً تشبه الأخرى، لذلك سيظلُ يعملُ عليه إلى الأبد”، قلتُ: “حسنًا سأبحث عن النسخة التي تخصني بنفسي”، غمزني البائع بعينه وتركني لشأني.
شعرتُ بالراحة عندما انصرف، كنت أخشى أن يسألني عن اسمي، لأنني نسيته مع الأسف. مددتُ يدي إلى رفّ وتناولتُ كتابًا غلافه وردي مزوق بورود اعتراها التلف، فتحت الصفحة الأولى فاختفى رأسي! أعدته إلى موضعه، وأخذتُ كتابًا أزرق بخطوط بيضاء، فتحته من المنتصف فتناثر جسمي إلى آلاف الأشلاء، رددته مفزوعًا، وسحبتُ كتابًا ثالثًا غلافه قرمزي منقط بنقاط سوداء، فظهرتْ ثقوب في صدري، فقلت في نفسي لا بأس بهذا، أهون من سابقيه”.
ثم ناديتُ البائع ونقدته قيمته وخرجت.كان عليّ النزول عدْوًا قبل انبلاج أضواء الفجر، لكن رجلاً لا أعرفه اعترضني، تحسس الثقوب التي في صدري وتنهد: “أعده، لقد خدعك، أنا لم أكتب عنك شيئًا.. عليك أن تكتب مصيرك بنفسك”.
ترددتُ، لأنني واحد من القطيع ولا أملك القدرة على قيادة مصيري بنفسي. وكأنه قرأ ما يجول في خاطري: “هل تعرف لماذا هذا الكون موجود؟”، أجبته: “سمعتُ أنه موجود لأجْلي”، ردّ محدقًا فيّ بنظرة تضطرمُ غضبًا: “أيها التافه، يأتي هذا الكون الجليل من أجلك ويهب نفسك لك بلا مقابل، فتتركه كمتاعٍ لا قيمة له، وتضعُ مصيرك تحت قدمَيّ شخص آخر؟؟ العدم خير منك!”.
أوجعتني كلماته، فأسرعتُ عائدًا إلى المكتبة التي أخذتْ تتذبذبُ موشكة على التفكك إلى ذرات تسبحُ في الأثير، قذفتُ الكتاب القرمزي إلى الداخل بكل قوتي، لكن البائع المنحوس ظهر في مجال رميتي وهو يهم بإغلاق مصراعي باب المكتبة.. نشب طرف الكتاب في قلبه كأنه حربة، فسقط ميتًا على الفور، وردّدت الجبال أصداءً تذكر أن أحد قتلة الملك قد لقي حتفه.
ركضتُ مبتعدًا، وعلى ضوء الصباح رأيتُ أنّ الثقوب التي كانت في صدري قد زالت.
*قاص وروائي يمني