كتبت صحيفة ” الديار ” تقول : قد يتساءل البعض عن سبب استخدامنا لعبارة “مجزرة التضخّم” في عنوان هذا المقال وقد يرى فيه البعض مبالغة، إلا أن الحقيقة الاقتصادية أن التضخّم وصل إلى مستويات أصبحت معها تداعياتها تُشبه إلى حدٍ بعيد المجازر الجماعية التي تُقترف ضد الشعوب. مؤشر الأسعار على الاستهلاك (الرسمي) وصل إلى أعلى مستوياته مع بلوغه 567.65 نقطة في شهر آب الماضي، مع العلم أنه كان يبلغ 108.85 في شهر أيلول من العام 2019 أي قبل بدء الإحتجاجات الشعبية.
إلا أن هذه الأرقام وعلى الرغم من فظاعتها، لا تعكس الواقع الحقيقي نظرًا إلى أن الأسعار ارتفعت بعشرة أضعاف وليس بخمسة أضعاف ونصف كما تقول الأرقام الرسمية، وهو ما يضع علامة استفهام على دقة هذه الأرقام. فعلى سبيل المثال صفيحة البنزين ارتفعت من 25 ألف ليرة إلى أكثر من 300 ألف ليرة، وعبوة الذرة كانت بثلاثة آلاف ليرة وأصبحت بـ 32 ألف ليرة، وكيس الحليب كان بـ 20 ألف ليرة وأصبح بـ 156 ألف ليرة، ولوح الشوكولا كان بـ 500 ليرة وأصبح بـ 9500 ليرة لبنانية!
تداعيات كارثية على كل المستويات
التداعيات لهذا الارتفاع كارثية وأولها على صعيد الفقر. فالتقرير الأخير الذي أصدرته منظّمة الإسكوا، يشير إلى أن عدد العائلات القابعة تحت الفقر المُدقع (أقلّ من 1.9 دولار أميركي يوميًا للشخص الواحد) هو 500 ألف عائلة على إجمالي عائلات لبنان البالغة مليونا ومئتي وخمسين عائلة. في حين أن 900 ألف عائلة تقع تحت خطّ الفقر العام! وبمقارنة بسيطة بين الأرقام في العام 2019 والعام 2021، نرى أن نسبة الفقر المُدقع ارتفعت من 8.23% في العام 2019 إلى 40% في العام 2021، والفقر العام من 30% في العام 2019 إلى 72% في العام 2021، وهو ما يعني إضمحلال الطبقة الوسطى التي تُعتبر نواة الإقتصاد والمموّل الأول لمالية الدولة من باب الضرائب مع انخفاض هذه النسبة من 46% في العام 2019 إلى 22% في العام 2021. والملفت في الأمر أن هناك ثمانية آلاف شخص (على إجمالي الشعب اللبناني) انتقلوا من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الغنية بفعل الاستفادة من الأزمة ومعظم هؤلاء يأتون من بيئة التجارة والأعمال الحرّة “المدعومة”.
الإنجاز “التاريخي” الذي قامت به حكومة الرئيس حسان دياب بوقف دفع سندات اليوروبوندز ولاحقًا وقف دفع سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، كان الشرارة الأولى لإطلاق العنان للتضخّم. ويكفي النظر إلى البيانات التاريخية (أنظر إلى الرسم) لمعرفة أن مُجرّد الإعلان عن وقف دفع سندات اليوروبوندز دفع بالأسعار إلى مستويات هائلة ليصبح هذا الإعلان الصاعق الذي فجّر الأزمة وكسر التوازن المالي – النقدي الذي كان قائمًا.
ترجمة التضخم تمّت من خلال ارتفاع غير منطقي ولا عقلاني لأسعار السلع والبضائع حيث كان للعصابات والمافيات كلمتها الفصل في تسعير السلع والبضائع بالتكافل والتواطؤ مع أصحاب النفوذ. ودعم هذه المافيات تطبيقات على الإنترنت لم تجد الحكومة الداعي لتوقيفها إلى وقتنا هذا، مع العلم أنها – أي التطبيقات – مسيطرة على النشاط التجاري في البلد. ويسأل المراقب لماذا لا تقوم الحكومة بتوقيف التطبيقات؟ ويأتيك الجواب من المسؤولين السياسيين أن هناك استخداما لتقنيات لا مقدور للدولة اللبنانية عليها. في الواقع هذه الأجوبة بحدّ ذاتها هي إدانة للمسؤولين ولجهابذة المعلوماتية الذين أعطوا المسؤولين هذه الأجوبة، ويستشف منها “قبّة باط” لترك هذه التطبيقات تعمل على هواها!
الاحتكار والتهريب والتسعير العشوائي… كلها ممارسات قامت بها المافيات على حساب الشعب اللبناني وغرفت بيديها الاثنتين من أموال الشعب ومن المال العام من خلال الدعم الذي استمرّ على مدى عام ونيّف مع دعم للـ “كافيار” والـ “فياغرا”!!! إنها قمّة الاستهتار وقعر الحوكمة. نعم هذا أقل ما يمكن وصف هذه المرحلة به، وهي التي كانت لتكون أقلّ عبئًا على الشعب لو أن الحوكمة كانت موجودة ولو أن القضاء كان مستقلًا لكف يدّ المرتكبين الفاسدين. لكن التاريخ وحده كفيل بإدانة هذا الأداء وإنصاف أصحاب القرار.
ومن تداعيات التضخّم أيضاً زيادة هجرة الشباب اللبناني التي بدأت بشكل كبير، وما مؤشر طلب جوازات السفر إلا دليل واضح على تداعيات الوضع الحالي. ومن المتوقّع أن ترتفع نسبة الهجرة في الأعوام القادمة بحيث تُقدّر نسبة الهجرة بأكثر من 60% من فئة الشباب! وبحسب دراسة أعدتها جمعية سوليداريتيي، يُتوقّع أن يغادر لبنان بين عامي 2020 و2023، 10% من عدد السكان البلاد.
كلّ هذا في ظلّ عجز حكومي واضح!
مغامرة حذف الأصفار
مع انهيار العملة اللبنانية – أو بالأحرى ضرب العملة اللبنانية – تُطرح العديد من الخيارات أمام النظام اللبناني ومن بينها حذف أصفار من العملة، والذي إذا حصل سيكون سابقة في تاريخ الدولة اللبنانية.
المدافعون عن هذا الإجراء يقولون إن الهدف الأساسي من هذه العملية هو خلق صدمة نفسية إيجابية في الأسواق. وإذا كانت هذه الحجّة صحيحة، فإن الصدمة الإيجابية لا تتوافر إلا بشروط مُحدّدة، ولكنها تبقى تحت خطر إضافة خطأ جديدة إلى لائحة الأخطاء التراكمية التي قامت بها السلطة اللبنانية في السنتين الماضيتين إذا لم تترافق هذه الخطوة بما من شأنه أن يحيي الثقة في السوق المحلي والاستثمار الأجنبي.
الأبحاث العلمية تُثبت أن العملة الوطنية هي أكثر من وسيلة تبادل في الاقتصاد. فدورها لا يقتصر على التبادل التجاري فقط، بل تتمتّع أيضًا بأبعاد استراتيجية كتعزيز الهوية الوطنية وإعطاء اللون السياسي للحكومات. ويتأثر الرأي العام بمستوى قوّة العملة الوطنية حيث إن توقعات دائمة بانخفاض العملة تثير الرأي العام تجاه السلطة السياسية وتؤدّي – عادة ومنطقياً – إلى خسارتها في الانتخابات.
وتشير النظرية الاقتصادية إلى أن قيمة العملة الوطنية تتأثر بعدد كبير من العوامل، منها ما هو اقتصادي مثل السياسة الاقتصادية للحكومة، ومنها ما هو سياسي مثل سياسة الحكومة الداخلية والخارجية، ومنها ما هو نقدي مثل السياسة النقدية، ومنها ما هو مالي مثل عجز الموازنة ، ومنها ما هو قانوني مثل القوانين المرعية الإجراء.
ويأتي سوء هذه العوامل ليؤثّر بشكل مباشر في قيمة العملة التي قد تخسر من قيمتها مقابل العملات العالمية، مما يؤدّي إلى تداعيات على الصعيد الإجتماعي. أيضًا لهذا الانخفاض في قيمة العملة تداعيات نفسية على المواطن من ناحية شعوره بالإذلال. وكردّة فعل، يعمد المواطن إلى شراء العملة الأجنبية عبر التخلّص من العملة الوطنية، مما يخلق ضغطًا مضاعفاً على هذه العملة وتصبح السلطة السياسية رهينة الأسواق المالية. لذا يظهر حذف الأصفار من العملة الوطنية كإحدى الوسائل المتاحة أمام الحكومة (حذف الأصفار هو عمل سياسي بامتياز) لمنع اختراق العملات الأجنبية، وتهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي ودعم السياسة النقدية.
ويسمح حذف الأصفار من العملة، إذا ما تمّ بظروف ملائمة، بكسب مصداقية دولية، وجذب الاستثمارات الخارجية، والسيطرة على سوق القطع، وخفض الضغوطات التضخّمية، وزيادة الثقة بالنظام السياسي الحاكم، وتعزيز الهوية الوطنية.
لكّن فعّالية حذف الأصفار تبقى رهينة عدد من العوامل مثل الاستقرار الماكرو اقتصادي، وخفض التضخّم ثم ضبط الأسعار، واستقرار سعر صرف العملة الوطنية، ولجم الإنفاق الحكومي، والدعم الشعبي للحكومة في سياستها، والأهمّ الاندماج السلِس في الاقتصاد العالمي. وبالنتيجة فإن الدوّل التي قامت بحذف أصفار من عملتها من دون تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة ومفهومة من قبل الشعب والأسواق، لم تُعط المفعول المرتقب فحسب، بل أدّت إلى تدهور العملة من جديد بعد فترة وجيزة وبشكل دراماتيكي.
وبنظرة إلى التجارب العالمية في هذا المجال، نرى أنه ومنذ العام 1960، اضطرت الحكومات النامية في 71 حالة إلى إزالة عدد من الأصفار من عملاتها الوطنية. وخلال الستين سنة الماضية، قامت 20 دولة بحذف أصفار من عملاتها الوطنية (9 بلدان قامت بذلك مرتين ودولة قامت به ثلاث مرّات). وتم حذف الأصفار من العملات الوطنية 4 مرات في الأرجنتين، 5 مرات في يوغوسلافيا السابقة، 6 مرات في البرازيل، مرتين في بوليفيا، 3 مرات في أوكرانيا، روسيا، بولندا وبلجيكا، ومرة في تركيا، كوريا، وغانا. وأخر هذه العمليات هو حذف فنزويلا ستة أصفار من عملتها. وتبقى البرازيل البلد الأوّل في العالم من ناحية إزالة الأصفار، إذ إن عدد الأصفار التي قامت بإزالتها من عملتها هي 18 صفرًا!
وعليه، فإن سلبيات حذف الأصفار قد تكون كارثية كتأثير التضخم الناتج عن تدوير الأسعار، تكلفة القائمة (Menu cost)، التأثير النفسي للنقص في الأجور، عودة الأصفار المحذوفة بعد فترة وجيزة، تكاليف إعادة إصدار العملة الجديدة، مشاكل في تحديد الأسعار على الأمد القصير، تدهور العملة وظهور التضخم، فشل المشروع في حالة عدم دعمه من قبل الناس، انخفاض الصادرات نتيجة لارتفاع قيمة العملة الوطنية…
من هذا المُنطلق، نرى أن حذف أصفار من العملة اللبنانية (مثلا عشرة آلاف ليرة لبنانية قديمة = ليرة جديدة = نصف دولار أميركي) لن يكون فعالًا إلا إذا اقترن بخطّة اقتصادية واضحة وسياسات مكافحة التضخم وإجراءات تقشفية في الإنفاق العام والانتظام المالي للدولة كما ومحاولة التخلّص من العجز الطويل الأمد في الميزانية، ضمان استقلالية المصرف المركزي، إعادة رسملة البنوك، إقفال المصارف التي تعاني من مشاكل حادّة، إعادة هيكلة المؤسسات العامة… خطوات تأتي في سياق خطّة إصلاحية ضمن إطار التفاوض مع صندوق النقد الدولي وفي ظل إطار سياسي ثابت وواضح المعالم.
في الواقع اللبناني، نرى أن عملية حذف الأصفار في لبنان مصيرها الفشل، وسيئاتها أكثر من حسناتها، نظرًا إلى وجود عقوبات أميركية مرجّحة للازدياد، إضافة إلى مشكلة لبنان مع الخليج، وأيضًا في ظل وجود استحقاق مالي ضخم – عنيت الدين العام البالغ 97 مليار دولار أميركي – وهو ما يجعل من شبه المستحيل على لبنان تنفيذ عملية حذف أصفار بنجاح أو حتّى لجم تدهور الليرة اللبنانية، مما يعني أن الحلّ الوحيد الباقي أمام السلّطة السياسية هو تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، والتي ما زالت إلى حينه لم تخط خطوة عملية واحدة إلى الأمام، وإنما تصاريح ووعود وتمنيات…
معطيات جيوسياسية غير مطمّئنة
المعطيات الجيوسياسية القائمة، وعلى رأسها إعادة ترسيم العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية الإقليمية، لا تبشر بالخير في ظلّ نشاط سياسي دولي – إقليمي غير مسبوق وتحوّلات في العلاقات الإقليمية بين الدول (مثل التقارب الإماراتي – السوري)، وفي ظلّ تبعية سياسية كبيرة للبنان لبعض الدول الأخرى. هذه التبعية تربط أي حلّ للأزمة المحلّية الحالية المتعدّدة الأبعاد (سياسية، اقتصادية، مالية، نقدية، اجتماعية) بالحلول الإقليمية. وكلّ أحاديث التراشق الداخلية للبعض على البعض الأخر، وتبرئة النفس من هول الواقعة الراهنة، عبث ولهو يلهي كل من المعنيين جمهوره لحرف النظر أو التكلم عن خطة أو سعي لمعالجة الأوضاع المعيشية التي تتردّى يومًا بعد يوم وتشمل كل المكوّنات.
لذا يبقى الحلّ المنطقي للأزمة الاقتصادية الحالية من خلال أكثرية نيابية ذات رؤية اقتصادية علمية ناجحة وموحدة. وأما في ظل وجود أكثرية تمتهن المماطلة وتمعن في إقرار وقوننة مبدأ المحاصصات، ولا رادع داخلي ولا دولي، فلبنان لا بد قادم على فترة صعبة جدًا على كل الأصعدة، ومن سيىء إلى أسوأ، وللأسف.