الأربعاء, ديسمبر 4
Banner

مجزرة التضخّم مستمرة… والأرقام الرسمية لا تعكس حقيقة الأسعار

كتبت صحيفة ” الديار ” تقول : قد يتساءل البعض عن سبب استخدامنا لعبارة “مجزرة التضخّم” في عنوان هذا المقال وقد يرى فيه ‏البعض مبالغة، إلا أن الحقيقة الاقتصادية أن التضخّم وصل إلى مستويات أصبحت معها تداعياتها تُشبه ‏إلى حدٍ بعيد المجازر الجماعية التي تُقترف ضد الشعوب. مؤشر الأسعار على الاستهلاك (الرسمي) ‏وصل إلى أعلى مستوياته مع بلوغه 567.65 نقطة في شهر آب الماضي، مع العلم أنه كان يبلغ ‏‏108.85 في شهر أيلول من العام 2019 أي قبل بدء الإحتجاجات الشعبية‎.‎

إلا أن هذه الأرقام وعلى الرغم من فظاعتها، لا تعكس الواقع الحقيقي نظرًا إلى أن الأسعار ارتفعت ‏بعشرة أضعاف وليس بخمسة أضعاف ونصف كما تقول الأرقام الرسمية، وهو ما يضع علامة استفهام ‏على دقة هذه الأرقام. فعلى سبيل المثال صفيحة البنزين ارتفعت من 25 ألف ليرة إلى أكثر من 300 ألف ‏ليرة، وعبوة الذرة كانت بثلاثة آلاف ليرة وأصبحت بـ 32 ألف ليرة، وكيس الحليب كان بـ 20 ألف ليرة ‏وأصبح بـ 156 ألف ليرة، ولوح الشوكولا كان بـ 500 ليرة وأصبح بـ 9500 ليرة لبنانية!‏

تداعيات كارثية على كل المستويات

التداعيات لهذا الارتفاع كارثية وأولها على صعيد الفقر. فالتقرير الأخير الذي أصدرته منظّمة الإسكوا، ‏يشير إلى أن عدد العائلات القابعة تحت الفقر المُدقع (أقلّ من 1.9 دولار أميركي يوميًا للشخص الواحد) ‏هو 500 ألف عائلة على إجمالي عائلات لبنان البالغة مليونا ومئتي وخمسين عائلة. في حين أن 900 ألف ‏عائلة تقع تحت خطّ الفقر العام! وبمقارنة بسيطة بين الأرقام في العام 2019 والعام 2021، نرى أن نسبة ‏الفقر المُدقع ارتفعت من 8.23% في العام 2019 إلى 40% في العام 2021، والفقر العام من 30% ‏في العام 2019 إلى 72% في العام 2021، وهو ما يعني إضمحلال الطبقة الوسطى التي تُعتبر نواة ‏الإقتصاد والمموّل الأول لمالية الدولة من باب الضرائب مع انخفاض هذه النسبة من 46% في العام ‏‏2019 إلى 22% في العام 2021. والملفت في الأمر أن هناك ثمانية آلاف شخص (على إجمالي الشعب ‏اللبناني) انتقلوا من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الغنية بفعل الاستفادة من الأزمة ومعظم هؤلاء يأتون من ‏بيئة التجارة والأعمال الحرّة “المدعومة”.‏

الإنجاز “التاريخي” الذي قامت به حكومة الرئيس حسان دياب بوقف دفع سندات اليوروبوندز ولاحقًا ‏وقف دفع سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، كان الشرارة الأولى لإطلاق العنان للتضخّم. ويكفي النظر إلى ‏البيانات التاريخية (أنظر إلى الرسم) لمعرفة أن مُجرّد الإعلان عن وقف دفع سندات اليوروبوندز دفع ‏بالأسعار إلى مستويات هائلة ليصبح هذا الإعلان الصاعق الذي فجّر الأزمة وكسر التوازن المالي – ‏النقدي الذي كان قائمًا.‏

ترجمة التضخم تمّت من خلال ارتفاع غير منطقي ولا عقلاني لأسعار السلع والبضائع حيث كان ‏للعصابات والمافيات كلمتها الفصل في تسعير السلع والبضائع بالتكافل والتواطؤ مع أصحاب النفوذ. ‏ودعم هذه المافيات تطبيقات على الإنترنت لم تجد الحكومة الداعي لتوقيفها إلى وقتنا هذا، مع العلم أنها – ‏أي التطبيقات – مسيطرة على النشاط التجاري في البلد. ويسأل المراقب لماذا لا تقوم الحكومة بتوقيف ‏التطبيقات؟ ويأتيك الجواب من المسؤولين السياسيين أن هناك استخداما لتقنيات لا مقدور للدولة اللبنانية ‏عليها. في الواقع هذه الأجوبة بحدّ ذاتها هي إدانة للمسؤولين ولجهابذة المعلوماتية الذين أعطوا المسؤولين ‏هذه الأجوبة، ويستشف منها “قبّة باط” لترك هذه التطبيقات تعمل على هواها!‏

الاحتكار والتهريب والتسعير العشوائي… كلها ممارسات قامت بها المافيات على حساب الشعب اللبناني ‏وغرفت بيديها الاثنتين من أموال الشعب ومن المال العام من خلال الدعم الذي استمرّ على مدى عام ‏ونيّف مع دعم للـ “كافيار” والـ “فياغرا”!!! إنها قمّة الاستهتار وقعر الحوكمة. نعم هذا أقل ما يمكن ‏وصف هذه المرحلة به، وهي التي كانت لتكون أقلّ عبئًا على الشعب لو أن الحوكمة كانت موجودة ولو أن ‏القضاء كان مستقلًا لكف يدّ المرتكبين الفاسدين. لكن التاريخ وحده كفيل بإدانة هذا الأداء وإنصاف ‏أصحاب القرار.‏

ومن تداعيات التضخّم أيضاً زيادة هجرة الشباب اللبناني التي بدأت بشكل كبير، وما مؤشر طلب جوازات ‏السفر إلا دليل واضح على تداعيات الوضع الحالي. ومن المتوقّع أن ترتفع نسبة الهجرة في الأعوام ‏القادمة بحيث تُقدّر نسبة الهجرة بأكثر من 60% من فئة الشباب! وبحسب دراسة أعدتها جمعية ‏سوليداريتيي، يُتوقّع أن يغادر لبنان بين عامي 2020 و2023، 10% من عدد السكان البلاد.‏

كلّ هذا في ظلّ عجز حكومي واضح!‏

مغامرة حذف الأصفار

مع انهيار العملة اللبنانية – أو بالأحرى ضرب العملة اللبنانية – تُطرح العديد من الخيارات أمام النظام ‏اللبناني ومن بينها حذف أصفار من العملة، والذي إذا حصل سيكون سابقة في تاريخ الدولة اللبنانية.‏

المدافعون عن هذا الإجراء يقولون إن الهدف الأساسي من هذه العملية هو خلق صدمة نفسية إيجابية في ‏الأسواق. وإذا كانت هذه الحجّة صحيحة، فإن الصدمة الإيجابية لا تتوافر إلا بشروط مُحدّدة، ولكنها تبقى ‏تحت خطر إضافة خطأ جديدة إلى لائحة الأخطاء التراكمية التي قامت بها السلطة اللبنانية في السنتين ‏الماضيتين إذا لم تترافق هذه الخطوة بما من شأنه أن يحيي الثقة في السوق المحلي والاستثمار الأجنبي.‏

الأبحاث العلمية تُثبت أن العملة الوطنية هي أكثر من وسيلة تبادل في الاقتصاد. فدورها لا يقتصر على ‏التبادل التجاري فقط، بل تتمتّع أيضًا بأبعاد استراتيجية كتعزيز الهوية الوطنية وإعطاء اللون السياسي ‏للحكومات. ويتأثر الرأي العام بمستوى قوّة العملة الوطنية حيث إن توقعات دائمة بانخفاض العملة تثير ‏الرأي العام تجاه السلطة السياسية وتؤدّي – عادة ومنطقياً – إلى خسارتها في الانتخابات.‏

وتشير النظرية الاقتصادية إلى أن قيمة العملة الوطنية تتأثر بعدد كبير من العوامل، منها ما هو اقتصادي ‏مثل السياسة الاقتصادية للحكومة، ومنها ما هو سياسي مثل سياسة الحكومة الداخلية والخارجية، ومنها ما ‏هو نقدي مثل السياسة النقدية، ومنها ما هو مالي مثل عجز الموازنة ، ومنها ما هو قانوني مثل القوانين ‏المرعية الإجراء.‏

ويأتي سوء هذه العوامل ليؤثّر بشكل مباشر في قيمة العملة التي قد تخسر من قيمتها مقابل العملات ‏العالمية، مما يؤدّي إلى تداعيات على الصعيد الإجتماعي. أيضًا لهذا الانخفاض في قيمة العملة تداعيات ‏نفسية على المواطن من ناحية شعوره بالإذلال. وكردّة فعل، يعمد المواطن إلى شراء العملة الأجنبية عبر ‏التخلّص من العملة الوطنية، مما يخلق ضغطًا مضاعفاً على هذه العملة وتصبح السلطة السياسية رهينة ‏الأسواق المالية. لذا يظهر حذف الأصفار من العملة الوطنية كإحدى الوسائل المتاحة أمام الحكومة (حذف ‏الأصفار هو عمل سياسي بامتياز) لمنع اختراق العملات الأجنبية، وتهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي ‏ودعم السياسة النقدية.‏

ويسمح حذف الأصفار من العملة، إذا ما تمّ بظروف ملائمة، بكسب مصداقية دولية، وجذب الاستثمارات ‏الخارجية، والسيطرة على سوق القطع، وخفض الضغوطات التضخّمية، وزيادة الثقة بالنظام السياسي ‏الحاكم، وتعزيز الهوية الوطنية.‏

لكّن فعّالية حذف الأصفار تبقى رهينة عدد من العوامل مثل الاستقرار الماكرو اقتصادي، وخفض ‏التضخّم ثم ضبط الأسعار، واستقرار سعر صرف العملة الوطنية، ولجم الإنفاق الحكومي، والدعم الشعبي ‏للحكومة في سياستها، والأهمّ الاندماج السلِس في الاقتصاد العالمي. وبالنتيجة فإن الدوّل التي قامت ‏بحذف أصفار من عملتها من دون تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة ومفهومة من قبل الشعب والأسواق، لم ‏تُعط المفعول المرتقب فحسب، بل أدّت إلى تدهور العملة من جديد بعد فترة وجيزة وبشكل دراماتيكي.‏

وبنظرة إلى التجارب العالمية في هذا المجال، نرى أنه ومنذ العام 1960، اضطرت الحكومات النامية في ‏‏71 حالة إلى إزالة عدد من الأصفار من عملاتها الوطنية. وخلال الستين سنة الماضية، قامت 20 دولة ‏بحذف أصفار من عملاتها الوطنية (9 بلدان قامت بذلك مرتين ودولة قامت به ثلاث مرّات). وتم حذف ‏الأصفار من العملات الوطنية 4 مرات في الأرجنتين، 5 مرات في يوغوسلافيا السابقة، 6 مرات في ‏البرازيل، مرتين في بوليفيا، 3 مرات في أوكرانيا، روسيا، بولندا وبلجيكا، ومرة في تركيا، كوريا، وغانا. ‏وأخر هذه العمليات هو حذف فنزويلا ستة أصفار من عملتها. وتبقى البرازيل البلد الأوّل في العالم من ‏ناحية إزالة الأصفار، إذ إن عدد الأصفار التي قامت بإزالتها من عملتها هي 18 صفرًا!‏

وعليه، فإن سلبيات حذف الأصفار قد تكون كارثية كتأثير التضخم الناتج عن تدوير الأسعار، تكلفة القائمة ‏‏(‏Menu cost‏)، التأثير النفسي للنقص في الأجور، عودة الأصفار المحذوفة بعد فترة وجيزة، تكاليف ‏إعادة إصدار العملة الجديدة، مشاكل في تحديد الأسعار على الأمد القصير، تدهور العملة وظهور ‏التضخم، فشل المشروع في حالة عدم دعمه من قبل الناس، انخفاض الصادرات نتيجة لارتفاع قيمة العملة ‏الوطنية…‏

من هذا المُنطلق، نرى أن حذف أصفار من العملة اللبنانية (مثلا عشرة آلاف ليرة لبنانية قديمة = ليرة ‏جديدة = نصف دولار أميركي) لن يكون فعالًا إلا إذا اقترن بخطّة اقتصادية واضحة وسياسات مكافحة ‏التضخم وإجراءات تقشفية في الإنفاق العام والانتظام المالي للدولة كما ومحاولة التخلّص من العجز ‏الطويل الأمد في الميزانية، ضمان استقلالية المصرف المركزي، إعادة رسملة البنوك، إقفال المصارف ‏التي تعاني من مشاكل حادّة، إعادة هيكلة المؤسسات العامة… خطوات تأتي في سياق خطّة إصلاحية ‏ضمن إطار التفاوض مع صندوق النقد الدولي وفي ظل إطار سياسي ثابت وواضح المعالم.‏

في الواقع اللبناني، نرى أن عملية حذف الأصفار في لبنان مصيرها الفشل، وسيئاتها أكثر من حسناتها، ‏نظرًا إلى وجود عقوبات أميركية مرجّحة للازدياد، إضافة إلى مشكلة لبنان مع الخليج، وأيضًا في ظل ‏وجود استحقاق مالي ضخم – عنيت الدين العام البالغ 97 مليار دولار أميركي – وهو ما يجعل من شبه ‏المستحيل على لبنان تنفيذ عملية حذف أصفار بنجاح أو حتّى لجم تدهور الليرة اللبنانية، مما يعني أن الحلّ ‏الوحيد الباقي أمام السلّطة السياسية هو تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، والتي ما زالت إلى حينه لم ‏تخط خطوة عملية واحدة إلى الأمام، وإنما تصاريح ووعود وتمنيات…‏

معطيات جيوسياسية غير مطمّئنة

المعطيات الجيوسياسية القائمة، وعلى رأسها إعادة ترسيم العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية الإقليمية، لا ‏تبشر بالخير في ظلّ نشاط سياسي دولي – إقليمي غير مسبوق وتحوّلات في العلاقات الإقليمية بين الدول ‏‏(مثل التقارب الإماراتي – السوري)، وفي ظلّ تبعية سياسية كبيرة للبنان لبعض الدول الأخرى. هذه ‏التبعية تربط أي حلّ للأزمة المحلّية الحالية المتعدّدة الأبعاد (سياسية، اقتصادية، مالية، نقدية، اجتماعية) ‏بالحلول الإقليمية. وكلّ أحاديث التراشق الداخلية للبعض على البعض الأخر، وتبرئة النفس من هول ‏الواقعة الراهنة، عبث ولهو يلهي كل من المعنيين جمهوره لحرف النظر أو التكلم عن خطة أو سعي ‏لمعالجة الأوضاع المعيشية التي تتردّى يومًا بعد يوم وتشمل كل المكوّنات.‏

لذا يبقى الحلّ المنطقي للأزمة الاقتصادية الحالية من خلال أكثرية نيابية ذات رؤية اقتصادية علمية ناجحة ‏وموحدة. وأما في ظل وجود أكثرية تمتهن المماطلة وتمعن في إقرار وقوننة مبدأ المحاصصات، ولا رادع ‏داخلي ولا دولي، فلبنان لا بد قادم على فترة صعبة جدًا على كل الأصعدة، ومن سيىء إلى أسوأ، وللأسف.‏

Leave A Reply