تتزايد الدعاوى القضائية بحق عدد من المصارف، ولبنك عودة النصيب الأكبر منها، بتهمة “الخداع” والاستيلاء على الأموال. وليست تهمة الاستيلاء على الأموال بالجديدة أو الفريدة. إذ ارتكبت كافة المصارف من دون استثناء جريمة الاستيلاء على الأموال منذ تاريخ “تفجر” الأزمة المالية نهاية العام 2019. أما تهمة “الخداع” فتنطبق على عمليات قامت بها بعض المصارف، اعتمدت في إبرام عقودها على الخداع لتمريرها وإغراء الزبائن ببعض منتجاتها، من دون إطلاعهم على حجم المخاطر، ما يشير إلى نيتها بالخداع في سبيل استحواذها على أموالهم في مقابل تبرئة ذمتها.
تعود عمليات “الخداع” تلك إلى العام 2020، حين تخلّفت الحكومة اللبنانية عن دفع سندات اليوروبوند السيادية. وحين أصبحت تلك السندات غير قابلة للاستحقاق، عمد عدد من المصارف ومنها بنك عودة إلى محاولة التخلّص من السندات التي تملكها، فقامت بسداد بعض الودائع عند استحقاقها عبر تمليك أصحابها سندات اليوروبوند الفاقدة للقيمة، ونجحت في عدة حالات بنقل عبء المخاطر إلى المودعين.
وردت أكثر من شكوى إلى رابطة المودعين من عملاء مصرفيين، يدّعون بأن بنك عودة أوهمهم بجدوى إبرام عقود Credit linked deposit وانتفاعهم من فوائد عالية، من دون إطلاعهم على حجم المخاطر المرتبطة بالاستثمار المذكور. فانتهى بهم الأمر بخسارة أموالهم التي باتت تساوي قيمتها سندات يوروبوندز، وهي الفاقدة لأكثر من 85 في المئة من قيمتها. فما صحة الحديث عن خداع الزبائن؟ وهل يحمي القانون عملاء مصرفيين وقعوا عقوداً بملء إرادتهم مهما كانت مفاعيلها؟
منتج “مخادع”
سوّق بنك عودة كما غيره من المصارف، لمنتج سبق أن استحوذ على موافقة مصرف لبنان Credit linked deposit يقضي باستثمار العميل مبلغ من المال عبر المصرف، وتقاضي فائدة عالية، مقابل توقيعه تصريحاً خطياً يتضمن إقراراً بالموافقة على إمكانية استعادة المبلغ موضوع الاستثمار، بموجب سندات دين بالدولار مصدرة من الدولة اللبنانية (يوروبوندز) بدلاً من تسديد أصل المبلغ، على أن يعود للمصرف اتخاذ أحد الخيارين وبشكل استنسابي.
هذا المنتج كان من الممكن أن يحقق المكاسب للموقعين عليه، ما لم تنهر قيمة سندات الدين، من نحو 95 دولاراً في العام 2018 إلى نحو 14 دولاراً في العام 2021. لكن في الوقت عينه، كان من الممكن أن يرتدع كثر من الموقعين عليه، فيما لو أوضح لهم المصرف حجم المخاطر المحدقة به، والتي قد تسلبهم أموالهم. وهو ما حصل فعلاً عند تخلف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها.
أين القانون؟
من وجهة نظر المصارف، يرى محامي متخصص بالقضايا المصرفية في حديث إلى “المدن”، أن المصارف -ومنها بنك عودة- لم تُرغم أي عميل على التوقيع على ذلك المنتج (Credit linked deposit). أما بعد انهيار قيمة السندات عقب تخلف الدولة عن التزاماتها فقد علت صرخة العملاء، لكن ذلك لا يعني أن المصارف أخطأت. إنما ماذا عن استغفال العميل وعدم مراعاة المصرف لمبدأ الملاءمة، بمعنى عدم تحديد مدى إطلاع العميل وفهمه للحيثيات المالية ومفاعيل العقد الموقع من قبله؟ يقول المحامي “قد تكون بعض المصارف تغاضت عن هذا الجانب، خصوصاً قبل صدور تعميم واضح بهذا الشأن في العام 2016. وتعود المسؤولية في ضبط هذه الأمور إلى هيئة الأسواق المالية”.
ويشرح المحامي التعميم الذي يفرض على المصارف الالتزام بمسألة الملاءمة وبقواعد العمل بالاسواق، مشدداً على مسألة تصنيف الزبون بأحد التصنيفات التالية: إما زبون عادي أو عميل محترف لديه خبرة بالأسواق المالية، ولديه رصيد مالي كبير، أو مؤسسة محترفة كالمصرف والمؤسسة المالية وغيرها.. وبناء على تحديد هوية العميل، يتم التعامل معه بالمنتج المذكور سابقاً، فلا يتم تطبيقه على زبون عادي من دون إطلاعه تفصيلياً على المخاطر المحدقة بالاستثمار أو الإيداع.
وجهة نظر مقابلة، ترى أن العقود المذكورة أعلاه مشكوك بقانونيتها، لا بل يمكن فسخها حتى وإن نالت موافقة وتوقيع العميل، في حال تعرّض للخداع أو التغرير به. وحسب مرافعة قانونية أعدتها “المفكرة القانونية” لتكون أداة بيد المودعين، للتصدّي للممارسات الخادعة التي تمارسها المصارف، وتحديداً لطلب إبطال البنود التعسّفيّة التي تضيفها المصارف إلى عقود الإيداع، وتسمح لها بتسديد الودائع عبر تمليك المودعين سندات يوروبوند بدل تسديدها نقداً، فإن عدم قانونية العقود تعود إلى مخالفة المصارف العديد من المبادئ القانونية، منها مبدأ إعلام العميل حسب قانون الموجبات والعقود. وهو موجب جوهري يفرض على المصارف تجاه عملائها في كل التعاملات المالية التي تجريها، ويشتد هذا الموجب كلما قلّت نسبة الاحتراف لدى العميل.
من جهته، المحامي المتخصص في القضايا المالية، كريم ضاهر، يرى في حديث إلى “المدن” أنه من حيث المبدأ لا يمكن للعميل النكث بما يتضمن العقد الموقع من قبله. لكن من الواضح أن هناك إشكالية بالعقد لجهة تقاضي العميل أصل المبلغ بموجب سندات دين بالدولار، على نحو يكون فيه مجموع قيمتها الإسمية موازياً لقيمة أصل المبلغ، مع طرح المصرف إمكان التوصل إلى صيغة بديلة يتم التفاوض عليها مع الزبون. وهنا يشير ضاهر إلى أن المصرف في طرحه هذا يستهدف الاستحصال من المودع على براءة ذمة عن كامل الفترة الماضية، وإلزام العميل بالاعتراف بأن الحال التي وصلنا إليها ناجمة عن قوة قاهرة، سببها السلطات الرسمية وليس المصارف، وباعتراف أنه بات هناك ما يسمى بالدولار المصرفي أو اللولار وليس الدولار الحقيقي. وبذلك تكون المصارف قد أسقطت عن نفسها كل مسؤولية واستحصلت على كامل شروطها من خلال ترغيب الزبون. أضف إلى أن المصارف تحاول بشتى الطرق نقل القضايا التي تطالها من أمام القضاء الأجنبي ووضعها بين يدي القضاء اللبناني.
ويشدد ضاهر على مسؤولية المصارف لجهة تطبيق المعايير بتصنيف الزبائن، لجهة إلمامهم بالقضايا المالية. فالمصارف ضللت العملاء ولم توجههم في الاتجاه السليم، ومن الممكن للعميل الادعاء على المصرف بأن العقود تشوبها عيوب الرضا. بمعنى أنه تم التغرير بالعميل وتم إيهامه وتضليله من قبل المصرف، الذي لم يقم بموجب العناية اللازمة.
ضحية الخداع
إحدى المتضررات من المنتج المذكور والواقعين ضحية “خداع” المصرف، سيدة مسنة لا تفقه بالأمور المالية شيئاً. من هنا، يرى المحامي فؤاد الدبس من “رابطة المودعين”، في حديث إلى “المدن”، أن المخاطر التي تحيط بهذه العقود تتركز على عدم تمتع العميل بالوعي المالي، في ظل تخلف المصرف عن ممارسة واجبه، لجهة التوضيح للعميل مخاطر العقد وشرح تفاصيله “فهناك الكثير من العملاء غير ملمّين بالأمور المالية وقعوا ضحية هذه الممارسات، لاسيما في بنك عودة”.
ويلفت الدبس إلى أن المصرف وبعد أن استفاد على مدار سنوات من العقود والسندات والفوائد وغيرها، لجأ إلى نقل المخاطر إلى عملائه عقب خسارة السندات لنحو 90 في المئة من قيمتها. مذكّراً بأن المصرف عمد إلى تقديم عروض لمودعين تتمثل بسداد 25 في المئة من قيمة المبلغ المودع باللولار (أو الدولار المصرفي) و25 المئة بعد 4 سنوات، و50 في المئة بعد 9 سنوات، أو أن يتقاضاهم سندات بكامل المبلغ.
عزة الحاج حسن – المدن
Follow Us: