مع ان “الحدث الدراماتيكي” المتواصل الفصول والمتمثل بالتهاب سعر الدولار في السوق السوداء، بحيث لامس مساء وتجاوز أيضا سقف الـ 25 ألف ليرة، فإنه لم يحجب التطور القضائي البالغ الدلالة، قضائياً وقانونياً وسياسياً أيضاً، الذي برز مع ستة قرارات لأعلى هيئة قضائية صبّت كلها في مصلحة الحسم الإيجابي لمصلحة المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار. هذه القرارات وإن كانت في شكلها ومضمونها قضائية وقانونية، فإن دلالاتها لن تتأخر عن احداث دوي في خلفية المواجهة السياسية – القضائية التي فجّرها التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، ومن ثم تطور إلى حدود اندفاع فريق الثنائي الشيعي إلى شلّ جلسات مجلس الوزراء ولا تزال المواجهة في ذروتها. ولذا ستشكل هذه القرارات منعطفاً أساسياً في هذه المواجهة حيث يبدو القضاء إنتصر لنفسه أولاً من دون اغفال ما يمكن ان يرتبه ذلك من تداعيات على صعيد السلطة والسياسيين.
والواقع ان الهيئة العامة لمحكمة التمييز وضعت أمس، في خمسة قرارات أصدرتها بالإجماع بعدم قبولها دعاوى مخاصمة الدولة المقدمة أمامها من الرئيس حسان دياب والنواب نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل عن أعمال المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في ملف إنفجار المرفأ، حداً لفوضى المراجعات العالقة في متفرعات هذا الملف أمام القضاء. وحدّدت على صعيد دعاوى مخاصمة الدولة التي قررت عدم قبولها، ان مداعاة الدولة تنحصر أمام الهيئة العامة في الأحكام الصادرة أو القرارات القضائية التي تحوز على الصفة المبرمة، وفي الإجراءات التي يصح الطعن بها وإستنفدت تجاهها وسائل المراجعة المتاحة قانوناً. ولفتت في أحد هذه القرارات إلى أن ما عرضه المدعي في الاستحضار، وفي ضوء الأسباب التي يسند إليها دعواه والمتعلقة بإنتفاء صلاحية المحقق العدلي، لم يستنفد ما أتيح له من وسائل قانونية تجاه القرار المشكو منه قبل سلوك المراجعة الراهنة، وتكون بالتالي هذه المراجعة غير مقبولة، وغرّمت الهيئة كل من مقدمي هذه الدعاوى مليون ليرة.
وفي قرار سادس للهيئة العامة، صدر بالإجماع أيضا برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود وعضوية المستشارين القضاة روكز رزق وسهير الحركة وعفيف الحكيم وجمال الحجار، حسم من هو المرجع الصالح لرد المحقق العدلي، تبعاً للطلب المقدم من وكيل النائبين خليل وزعيتر. وإعتبرت ان محكمة التمييز مختصة للنظر في هذا الطلب والعائد أمر النظر فيه في الحالة الحاضرة إلى الغرفة الأولى لمحكمة التمييز. وتبعاً لهذا القرار الصادر عن أعلى هيئة قضائية، تعتبر الطلبات المقدمة أمام محكمة الإستئناف في موضوع رد القاضي البيطار بلا طائل بما فيها القرار الصادر عن القاضي حبيب مزهر المتعلق بوقف المحقق العدلي تحقيقاته إلى حين بت طلب رد البيطار.
البابا وميقاتي
اما في المشهد السياسي فاتجهت الأنظار إلى زيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الفاتيكان أمس وسط اشتداد الانسداد الذي يحاصر حكومته. واستقبل البابا فرنسيس ميقاتي داعياً امامه إلى “تعاون جميع اللبنانيين من أجل إنقاذ وطنهم، وطن الرسالة، كما وصفه سلفه القديس يوحنا بولس الثاني”. كما دعا إلى”ان يستعيد لبنان دوره كنموذج للحوار والتلاقي بين الشرق والغرب”، مؤكداً ان “هموم لبنان كثيرة وأنا سأحمله في صلاتي من اجل ان يخلّصه الله من كل الأزمات”.
من جانبه، أكد ميقاتي خلال اللقاء مع البابا “اننا في هذه الاوقات الصعبة في أمس الحاجة إلى دعم الاصدقاء على كل الصعد، خصوصاً على الصعد الاقتصادية والاجتماعية”. وتناول موضوع المسيحيين في الشرق “الذين كانوا من دعائم الحريات وحقوق الانسان وحرية المعتقد، وقد وجدوا على الدوام الملاذ الآمن في لبنان، وبقدر ما يشعر المسيحيون في لبنان بالأمان بقدر ما ينعكس ذلك على جميع المسيحيين في الشرق”. وقال بعد اللقاء “طمأنت قداسة البابا والمسؤولين في الكرسي الرسولي الذين التقيتهم أن لبنان سيبقى ملتقى للحضارات والثقافات المتعددة، وان التعايش الاسلامي والمسيحي فيه قيمة كبرى يحرص اللبنانيون، إلى أي طائفة انتموا، على حمايتها وتعزيزها لأنها أثبتت أنها قادرة، على رغم ما تعرض له لبنان في تاريخه القديم والحديث، على إعادة إنتاج الصيغ التوافقية التي نهضت بلبنان من الكبوات التي مني بها.”. وقال: “لقد سمعت من المسؤولين في الكرسي الرسولي كلاماً مشجعاً حول أهمية المحافظة على الوفاق الوطني بين اللبنانيين وضرورة توفير كل مقومات النجاح له، لأن به خلاص اللبنانيين… ولمست ارتياحاً بابوياً لما نقوم به من جهد في المحافظة على الامن والاستقرار في لبنان ومعالجة الصعوبات الهائلة التي يمر بها، وتشجيعاً على المحافظة على الاستقرار وعلى الاستمرار في التزام الخيارات الوطنية التي يجمع عليها اللبنانيون، فضلاً عن تعزيز العلاقات بين لبنان والعالم”.
واما التطور الاخر في المواقف الخارجية من لبنان، فبرز عبر رسالة التهنئة بذكرى الاستقلال التي بعث بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى الرئيس ميشال عون اذ بدا لافتاً انها تجاوزت الإطار البروتوكولي الشكلي للمناسبة وتوغلت في عمق المشهد اللبناني المأزوم حاملة رسائل جديدة حازمة لماكرون إلى عون والمسؤولين اللبنانيين. واكد ماكرون ان “فرنسا تولي أهمية قصوى لاستقرار لبنان واستقلاله وأمنه وسيادته. هذا الوطن الذي لطالما كان مثال انفتاح وحرية لكل المنطقة. وانني، وانطلاقاً من هذا السبب الوجيه، اود ان اعبّر بقوة عن مدى قلقي من الازمة التي يغرق فيها بلدكم في الآونة الأخيرة، والتي ارتدت طابعاً متعدداً بوجوهه الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والانسانية، إضافة إلى الوجه السياسي”. وشدد على “الإصلاحات التي يجب على الحكومة إنجازها، ويجب ان يتم إطلاق ورشها بالسرعة القصوى، بما يتلاقى مع متطلبات جميع الاصدقاء الحقيقيين للبنان”، وعلى ان “نهوض لبنان يجب ان يمرّ عبر هذا الطريق، وما من احد يأمل بسلوك طريق مواز، قد يعرّض المصلحة العامة للبنانيين، وحتى استقرار البلاد، لاي مخاطر”. وحذر من “إن المحطات العنفية الأخيرة تظهر بوضوح حجم المخاطر المرتبطة بمواصلة شلّ السلطات الرسمية تجاه التحديات التي يواجهها لبنان. وقد آن الأوان ان يتم اظهار دليل حسّي لاحترام معنى التاريخ من جهة، ولروح المسؤولية التي اعرف انكم تتحلون بها للخروج ببلدكم من الازمة الراهنة. وكونوا على ثقة بأن جميع شركاء لبنان الحقيقيين في المجتمع الدولي جاهزون لتقديم أي مساعدة لكم. ولكن من دون إجراءات قوية ضرورية من قبل المسؤولين اللبنانيين بهدف استعادة الثقة، فإن لبنان يخشى مضاعفة عزلته الإقليمية، علماً ان فرنسا ترغب في مساعدته على الخروج منها”.
حمى
وسط كل هذه المواقف والمناخات مضى الدولار في تسجيل قفزاته المحمومة في السوق السوداء وسجل مساء أمس ارتفاعاً قياسياً تجاوز سقف الـ25 الف ليرة. “الوجبة الأولى” الفورية لتداعيات هذه الحمّى كانت في إطلاق شائعات ربما تمهّد واقعياً لرفع سعر ربطة الخبز إلى عشرة الاف ليرة وسارعت وزارة الاقتصاد إلى نفيها، فيما ستكون أسعار المحروقات “الوجبة الثانية” اذ أعلن ممثل موزّعي المحروقات فادي أبو شقرا عن جدول أسعار جديد سيصدر اليوم، محذرا من أن “البلد ذاهب نحو الهاوية إذا لم يستقر سعر الدولار”.
ولكن معلومات أفادت مساء ان منشآت النفط في الزهراني وطرابلس وبموافقة وزير الطاقة وحرصاً منها على الحفاظ على دورها كناظم للسوق ستبيع طن المازوت اليوم أقل بستة دولارات عن السعر المعتمد في جدول تركيب الأسعار.
وفي الإطار المالي أيضا افيد ان رئيس الجمهورية ميشال عون اطلع خلال لقائه في قصر بعبدا امس نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي على مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتبلغ منه ان المفاوضات التقنية مع الصندوق انتهت تقريبا “ودخلت في مرحلة المفاوضات على السياسات النقدية والاقتصادية كي نبدأ بالمفاوضات بشكل جدي مع فريق الصندوق”. وأضاف الشامي: “هدفنا لا يزال التوصل إلى اتفاق مبدئي قبل أواخر السنة، على ان نتوصل بعد ذلك كما هو مفروض إلى اتفاق نهائي في كانون الثاني من العام المقبل”.
النهار