ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وعلى جميع الانبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.
قال تعالى في كتابه العزيز (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ(، ليس هناك من شك في أهمية الإنجاز الحضاري الذي حققه الإسلام على الصعيد الفكري والثقافي والاجتماعي، اذ رسم خطاً فاصلاً بين مرحلتين تاريخيتين: مرحلة ما قبل الإسلام ومرحلة ما بعد الإسلام ،ولم تقتصر على بقعة جغرافية معينة أو مرحلة زمنية معينة، وإنما تأثيرها تعدى الجغرافيا والزمن والاعراق والشعوب المختلفة ذات التمايز الثقافي والاجتماعي المتعددة العادات واللغات ليجعل منها امة واحدة أشار إليها في كتابه العزيز في قوله تعالى (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ، فهي بنص الكتاب الكريم أمة واحدة على الرغم من هذه الفوارق الهائلة بين الشعوب المختلفة التي اندمجت في ما بينها جاعلةً من هذه الفوارق أمراً ثانوياً غير ذي أثر، واستطاعت بهذا الاندماج أن تكون قوة هائلة وأن تشق طريقها بين قوتين عالميتين كانتا تتقاسمان النفوذ وتشكلان مانعاً أمام نشوء أي قوة أخرى تهدد مصالحهما ونفوذهما.
وقد شكّل العامل العقدي والإيماني (الإسلام) الالهام لهذه الشعوب التكامل والاجتماع حيث خاطب الإسلام فطرتها التي و ان اختلفت اعراقها وعاداتها وثقافاتها، ولكنها في العمق تتوحد في ادراكاتها الفطرية وجاء الإسلام لينبه هذه الفطرة وينفض عنها الغبار الذي حجبها عن الظهور والفعالية تحت عوامل التخلف والانحطاط الأخلاقي وتضارب المصالح، فكانت رسالة الإسلام بوضوحها ونقائها وما حملته من حقائق لامست المشاعر وأثارت النفوس بعد العقول وما دعت إليه من مواجهة للظلم والانحراف وتطبيق للعدل واحقاق للحق. فكانت رسالة الإسلام بمثابة الامل المرتجى لهذه الشعوب التي تلقفته بسرعة ودون انتظار. وليس هناك من تفسير آخر لهذا الانتشار السريع للإسلام في هذه البقعة الجغرافية الواسعة مما يدحض القول بان ذلك كان بفعل الغزو العسكري. وهذا لا يعني نفي وقوع مواجهات عسكرية مع قوى الأنظمة المعادية للإسلام والتي افتقدت دعم شعوبها بسبب ما كانت تمارسه من مظالم في حقها فتخلت هذه الشعوب عن الدفاع عنها خصوصا ان ما وصلها عن الدين الجديد وما يحمله من دعوة الى العدالة والانصاف والسلام وأنه لا يحملها على تغيير اديانها وعقائدها وان لها الحرية في ممارسة طقوسها والتمسك بعقائدها وأن الدعوة الى الدين الجديد ليس بالإكراه والفرض. فالمواجهة كانت مع الأنظمة الحاكمة لهذه الشعوب وليس مع هذه الشعوب التي وجدت في الدين الجديد ما كانت تفتقر اليه من العدالة والحرية مما دفعها لما رأته من سماحة الإسلام الى الاعتقاد به والدفاع عنه تالياً بكل ما اوتيت من قوة لتكون جزءاً هاماً من هذا المجتمع ومن هذه الأمة تحمل رايته ومشروعه ودعوته الى العالم.
وكما كانت العقيدة الأساس الأهم لقيام هذه الامة كانت أيضاً اهم عوامل قوتها واقتدارها وتعاضدها التي تشد ازرها وتقوي بنيانها وتشكل حاجزاً متيناً أمام التحديات التي تواجه بقاءها ودعوتها واختراقها، وهذا ما جعلها عصية على كل محاولات تفكيكها المحمومة بالرغم من كل حالات الضغط التي انتابتها ومرت بها فواجهت حتى وهي في قمة الضعف والتراجع القوى المعادية مع كل ما تتمتع به هذه القوى من امتيازات ميدانية و عسكرية وإعلامية وأفشلت في كثير من المحطات أهدافها الخبيثة بما أبدته من قوة في الدفاع عن مبادئها بخوض حرب فكرية لا هوادة فيها سجلت لنفسها في النهاية نصراً مؤزراً رغم عدم التكافؤ في الامكانات مع عدم حرية الحركة حيث حوصر قاداتها ومفكروها والقوى الناشطة فيها، فضلا عن إقدام الأنظمة العميلة على ارهابها وسجن وقتل المتميزين فيها كما حصل مع السادة الابرار الإمام محمد باقر الصدر في العراق ومع الإمام الخميني في ايران(قدس سرهما) ومع الامام موسى الصدر في لبنان(اعاده الله) الذين تقدّموا الصفوف الى جانب آخرين فكرياً وسياسياً وثورياً واستطاعوا قلب المعادلة لصالح الأمة في هذه المواجهة غير المتكافئة، وأعادوا للإسلام ألقَه من جديد ليصنع للأمة فجراً جديداً تمثل في انتصارات عادت بنا الى ذكريات انطلاقة الإسلام الأولى التي كانت تجاربها في المدينة المنورة و أسست للمجتمع المتعدد الديانات والثقافات والتي ما كانت لتنتهي لولا خيانة اليهود لعهودهم ونقضهم لمواثيقهم التي على أساسها قامت تجربة الإسلام الأولى على يد رسول الله (ص).
لقد كانت حركة الإمام موسى الصدر في لبنان تعكس فكر الإسلام الأصيل في بناء دولة الإنسان على القاعدة الإسلامية المحمدية التي عبّر عنها الامام علي بن أبي طالب (ع) الحاكم والخليفة حينما عبّر عن غضبه من التمييز الظالم الذي مورس بحقّ أحد رعيّته من المنتمين الى الديانة المسيحية فقال (ع): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بيت المال راتباً”، وهو الذي اوصى في عهده الى حاكمه في مصر فقال: “اعلم يا مالك ان الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، والذي استجاب لخطابه أعني الامام موسى الصدر و اطلق صحوة انسانية تلقفها اللبنانيون الطيبون الذين حرّك فيهم الشعور بالإخوة الإنسانية والشعور بالمواطنية ونبّههم على أن الخطر الحقيقي لا يأتي من التعدّد الطائفي والديني والمذهبي وأن الوجود المسيحي في لبنان نعمة يجب التمّسك بها، وهكذا لم ينخرط الشيعة اللبنانيون في الحروب الاهلية الداخلية التي دمرت لبنان وكانت عملاً تآمرياً سعى لوقف مشروعه الوطني الذي رأي فيه إفشالاً للمخطط الصهيوني الإنعزالي الذي يهدف الى تبرير وجوده من خلال إيجاد الشرخ بين المكونات التي تتكون منه المجتمعات العربية وأنه لا إمكانية لاندماج هذه الشعوب وانصهارها في بوتقة واحدة. أضف الى ذلك القضاء على القضية الفلسطينية وإنهائها كقضية جامعة وانتهى الامر الى اختطاف الإمام الصدر على يد الغدر القذافي ليحقّق بذلك هذا المشروع الخطير.
إننا نكرّر اليوم هذا الحديث لنؤكّد على القول بأنه ليس أمام اللبنانيين من خلاص سوى أن يعودوا الى عقولهم وأن يعرفوا أهمية بلدهم وما يختزنه من طاقات كبرى استطاعت بعض قواهم ان تصنع المستحيل بما صنعته ايدي المقاومين الأبطال والتي أعطت لهذا البلد موقعاً مميزاً في العالم، فكيف اذا اجتمعت إرادات الجميع الى جانب الكفاءات التي يتمتع بها أبناء هذا البلد من كافة الفئات لو استغلت لأدهشت العالم.
لقد أثبتت التجارب ان كل المحاولات لتفتيت هذا البلد باءت بالفشل، كما أن كل الرهانات على الخارج والتآمر على فئة طليعية مضحية من أجل لبنان لن يفيد في شيء، وإنما يزيد من الخسائر ويصب فقط في مصلحة العدو الإسرائيلي ولن يكون فيه أي مكسب مادي او معنوي للبنان، لذلك فالأمل معقود على الشعب اللبناني و على القوى الحية فيه أن تعقد العزم وان تتخلى عن الاستجابة للأصوات الداعية لزيادة الشرخ بين اللبنانيين بصناعة الخوف بينهم وزرع الشقاق بين أبناء هذا البلد العزيز وأن يقف المتنورون منهم صفاً واحداً ليظهروا وجه لبنان الحق المنتصر لقضيته الحقة في وجه العدو الحقيقي الذي يمارس فعل الإرهاب ليس على لبنان فقط وإنما على المنطقة بشكل كامل، وليرجموا الدعوات المشبوهة التي تشكّل بظاهرها دعوة من اجل سيادة لبنان باتهام من يدافع عنها ويحققها فعلاً بمقاومته وجيشه وشعبه.
إنّ إنقاذ لبنان الحقيقي لن يكون بالتآمر على جزء من شعبه قاوم وضحى واستشهد أبناؤه من أجل لبنان كل لبنان، وإنما بالتضامن معاً من أجل دفع العدو عن التجرؤ على استباحة لبنان أرضاً وشعباً ومياهاً وثروات، فليس صحيحاً ولا عدلاً أن نتهم من ضحى وقاوم واستشهد في سبيل أرضه وعرضه ووطنه ثم نبرئ العدو ونعبّر عنه بالجار بدل أن نعبّر عنه بالعدو، فهذا خلل فاضح ولا يجوز أن يصدر عن لبناني مخلص.
هذه هي مشكلة لبنان التي يجب التركيز عليها، لأنها أساس كل العلل، وما حصل و يحصل من خراب ودمار وكوارث يعاني اللبنانيون منها الآن سببها هذه الرؤية الخاطئة وعدم القبول بشراكة الآخرين في تحديد مصير هذا الوطن والتنكّر لحقوقهم ومواطنيتهم وتضحياتهم واتهامهم فوق ذلك بوطنيتهم وأنهم مستخدمون كعملاء للخارج، فهذا غير مقبول على الإطلاق.
لن أتحدث عن الاقتصاد ولا عن الغلاء ولا عن الاحتكار، فإنّ كل ذلك صنيعة أولئك الذين يمارسون هذا التنكر والتجاهل والأنانية التي لا تمت الى الإنسانية بصلة ولا الى المواطنية ولا الى الحق والعدالة وكل الأمور ستسير على أفضل حال حين يستقيم الأمر هنا.
وما قضية القاضي البيطار وجريمتي الطيونة والشهداء إلا نتيجة لهذه السياسة العرجاء التي تريد ان تأخذ الأمور بالتضليل والتهويل والاتهام الباطل الى هذه النتيجة وهو استمرار في الغيّ وإسفاف في الخطاب الديني والسياسي يريد أصحابه أخذ البلد الى مزيد من الخراب والمواطنين الى مزيد من القهر حيث يمارسون هذا النهج ويضيعون الحقوق بالضغط على القضاء لإخراج بعض المتورطين.
ان مصلحة الوطن المهدد بالفوضى وشلل المؤسسات والغرق في اتون الفتن المتنقلة تستدعي تشاور القوى السياسية لإيجاد تفاهمات تصوب مسار العدالة في قضيتي المرفأ والطيونة فلا تضيع دماء الشهداء هدرا ولا تطمس الحقيقة التي نعتبر ان كشفها امام اللبنانيين يشكل المدخل الصحيح للوصول الى العدالة التي ينشدها كل اللبنانيين.
ومع تفاقم الازمات المعيشية المتراكمة التي تخنق المواطنين لا بد من اطلاق خطة انقاذ حكومية تتجاوز البطاقة التمويلية التي نعتبرها مسكنا لاوجاع اللبنانيين الذين أصبحوا في غالبيتهم تحت خط الفقر ، فالمطلوب اطلاق ورش العمل الحكومية في مختلف المناطق اللبنانية والافراج عن اموال المودعين ومكافحة الفساد واستغلال حاجات الناس للكهرباء والدواء والغذاء حتى تستعيد البلاد حيويتها وتشعر الناس بالاستقرار الاجتماعي والمعيشي من خلال انعاش الحركة الاقتصادية ودعم المشاريع الإنتاجية والاستثمارية التي توفر فرص عمل جديدة وتخفف عن الناس معاناتها، فلا يجوز ان يتحول المواطنون الى طالبي مساعدة تموينية وحاملي بطاقة تمويلية فيما لبنان ينعم بثروات نفطية وطبيعية ويمتلك اموالا طائلة نهبها لصوص المال واحتجزت بعضها المصارف بالتواطؤ مع طبقة سياسية فاسدة تماهت مع الحصار الأميركي والعقوبات المفروضة على لبنان في عملية ممنهجة لتجويع اللبنانيين وتحريضهم على المقاومة التي بذلت اعظم التضحيات ووفرت البنية الاساسية للاستثمار في مختلف القطاعات الإنتاجية التي تنعش الاقتصاد الوطني وتنهي مقولة قوة لبنان في ضعفه.