كتب خضر حسان – المدن : سقطت المصارف كما البلاد بكامل قطاعاتها ومؤسساتها وأفرادها. وفي معرض السقوط، راح كل طرفٍ يبحث عن طوق النجاة الخاص به، وإن عنى ذلك الدَوسَ على رؤوس الآخرين، وأوّلهم الحلقة الأضعف، وهي صغار المودعين والمقترضين.
وإن كان للمودعين والمقترضين من يحاول إغراقهم للنجاة على حسابهم، فللمصارف مَن يضمر لها ذلك، وهو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يبحث عن شمّاعة ليعلّق عليها أخطاءه. فماذا تفعل المصارف حيال هذا الضغط، وهل يدفع المودع الثمن مرّة جديدة؟.
مؤشّرات السقوط
أدرَكَت المصارف باكراً صورة نهاية امبراطوريّتها، وحذَّرَت من تبعات السياسات النقدية بخجل، فهي لم تكن تريد خسارة شلاّل الذهب الذي يُغدِقها بالأموال، بقوّة تلك السياسات. غير أنَّ المكابرة لم تعد تنفع، فبدأت المصارف تلتمس مؤشِّرات السقوط بشكل كبير منذ العام 2017 “حين بدأت تظهر أزمة الثقة بين القطاع الخاص عموماً والقطاع المصرفي بشكل خاص، والحكومة والناس والمغتربين، بفعل سلسلة الضرائب التي أقرّتها الحكومة في ظل عجز ميزان المدفوعات وتزايد الإنفاق العام غير المدروس، وفي مقدّمته إقرار سلسلة الرتب والرواتب. فضلاً عن زيادة الانكماش الاقتصادي الذي سجَّلَ في العام 2017 نسبة 1.9 بالمئة فيما يسجَّل اليوم بين 25 و27 بالمئة”، وفق ما يراه رئيس وحدة الدراسات في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، خلال حديث لـ”المدن”.
ومَع أنَّ بعض المصرفيين حذَّروا من انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، منذ العام 2016، وكانت التوقّعات تشير الى تخطّي سعر صرف الدولار 5000 ليرة، إلاَّ أنَّ السياسات النقدية والمالية استمرَّت على حالها. القطاع المصرفي استمرَّ برفد مصرف لبنان بأموال المودعين مستفيداً من الفوائد المرتفعة، وحافَظَ المصرف المركزي على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة من خلال استعمال دولارات المودعين. وعلى كلّ حال، لم يكن بإمكان المركزي وقف استعمال أموال المودعين لأن هذه الخطوة من شأن تسريع وقوع الأزمة.
في نهاية المطاف، سجَّلَ القطاع المالي في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، انخفاضَ صافي أصوله الأجنبية بمعدَّل 9.6 مليار دولار، فيما انخفضت ودائع القطاع الخاص بمعدّل 30.4 مليار دولار.
ضغط المركزي والدولة
يُبعِد رياض سلامة مسؤولية الحلّ عن نفسه ويلقيها على عاتق المصارف والمساهمين فيها. ففي نظره، “حان الوقت لتتحمل المصارف والمساهمون مسؤولياتهم بإعادة تكوين التزاماتهم، عبر تطبيق تعاميم مصرف لبنان المتعلّقة بزيادة المصارف رساميلها بنسبة 20 بالمئة وإعادة الأموال المحوَّلة بنسبة 15 إلى 30 بالمئة، وإعادة تكوين نسبة 3 بالمئة في حساباتها لدى البنوك المراسلة”.
على المصارف مسؤوليات أساسية تجاه ما يحصل في لبنان على المستوى الاقتصادي والنقدي. وهذا أمر لا جدال فيه. لكنّه لا يبرِّر تنصّل المركزي من مسؤولياته وإصداره لنفسه صكّ براءة. فالسياسات الموضوعة على عجل لمواجهة الأزمة، عشوائية لدرجة أنَّ المصارف وقعت في حالةٍ من الضبابية والضياع، وبعضها يدرس احتمال عدم التجاوب مع قرارات المركزي، وإن كان الثمن هو الخروج من السوق. ويزيد استخفاف السلطة السياسية الوضع سوءاً، فالمصارف “تنتظر اتّخاذ السلطة خطوات سريعة، على رأسها تشكيل حكومة وتقرير مصير التفاوض مع صندوق النقد”، حسب غبريل، الذي يؤكّد أنَّ “حسم مسألة التفاوض مع الصندوق عن طريق اتّخاذ إجراءات فعلية، من شأنه تسهيل مهمّة المصارف لجهة اتخاذ قراراتها. فالمصارف منقسمة اليوم إلى ثلاث فئات. في الأولى، مصارف قادرة على زيادة رساميلها وتقوم بإجراء ما يلزَم لذلك. وفي الثانية، مصارف تقوم بالإجراءات لكنّها قد لا تستطيع تنفيذها. وفي الثالثة، مصارف تريد الخروج من السوق. لكن من المبكر جداً حسم النتائج”.
المودعون ضحيّة دائمة
لا تريد المصارف رمي أموالها في المجهول، لذلك لا تريد الإسراع في زيادة رساميلها لدى مصرف لبنان أو إعادة تكوين حساباتها لدى البنوك المراسلة. لكن متى وصلت السلطة السياسية إلى صيغة ما لتشكيل الحكومة، ستسارع المصارف لتطبيق قرارات مصرف لبنان، وحينها سيزيد الخناق على المودعين، أفراداً ومؤسسات، فالرساميل لن تزداد من جيب المصارف وإنما من جيب المودعين، وإن لم تعلن المصارف ذلك. ومِن غير المستبعد حينها، خروج المصارف بسلسلة من القرارات التي تقوِّض عمليات السحب، وأهمّها خفض سقف السحوبات اليومية والشهرية، بهدف توفير كميات إضافية من السيولة. وهذا الإجراء مرتبط بالمساعي السياسية لوضع تصوُّر لتوحيد سعر صرف الدولار، واتّخاذ قرار بشأن تحرير سعر الصرف وإعادة تكوين احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية ومصير سندات الخزينة بالدولار والليرة.. وغير ذلك.
حتّى اللحظة، لا شيء واضحاً سوى المزيد من السلبية سياسياً ونقدياً، مِن قِبَل السلطة والمصرف المركزي. ما يزيد ارتباك المودعين ومؤسسات القطاع الخاص. وهؤلاء يطاردهم رياض سلامة ويحسدهم على دولاراتهم التي حَفِظوها من خلال إخراجها من المصارف، إما نقداً أو سداد ديون بواسطتها. فحاكم المصرف المركزي يضع نصب عينيه “كتلة نقدية بقيمة 10 مليارات دولار، قادرة على إعادة التوازن إلى السوق”، وهي مجموع الكتلة النقدية التي يُقدِّر سلامة أنها مخزَّنة في المنازل أو صُرِفَ بعضها.
مقابل ترقُّب المودعين قرارات جديدة مِن مصرف لبنان والمصارف، تنتظر الأخيرة قدوم شهر شباط 2021 لترى ما سيقرِّره المركزي حيال المهلة الزمنية المعطاة للمصارف لزيادة رساميلها، فهل ستُمَدَّد المهل على وقع الوقت الضائع وعدم التفاوض مع صندوق النقد، أم سيباشر المركزي إجراءاته سريعاً ويباغت القطاع المصرفي بالاستحواذ على المتخلّفين، وبالتالي سيطلق عدّاد التداعيات السلبية الإضافية على الاقتصاد والليرة؟