عبدالله قمح – ليبانون ديبايت
منسوب النزاع السياسي ترتفع وتيرته تدريجياً في الداخل، وكلّ الذي يحصل وما نشهده من اشتباكات يتمّ تحت عنوانين عريضين: الحكومة والخلاف على وضعية المحقق العدلي في تفجير المرفأ طارق البيطار. عملياً هما عنوانان خارجيان يخفيان في صلبهما حقيقة النزاع الداخلي على شكل الدولة التي سترث الجثة الحالية.
الإشتباكُ في ظاهره إذاً، يدور في حلقة واحدة: رئيس الجمهورية ميشال عون غاضبٌ من تلكؤ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، عن الدعوة إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء، وقد شكاه إلى الفرنسيين حين زارته السفيرة آن غريو. بدوره الميقاتي يشكو حاله مع الثنائي الشيعي الرافض لحضور جلسة إلاّ إذ بحثت في مستقبل البيطار وتحقيقات المرفأ، وهو يفضّل عدم الدعوة لكونه عالمٌ بنتائجها سلفاً، وقد بلغه أن أي دعوة من هذا القبيل ستستدرج اشتباكاً أقسى من الدائر حالياً. “حزب الله” بدوره ، عاتب على الميقاتي ويطالبه بالدعوة إلى جلسة لبتّ مصير البيطار، لكون الثنائي يعتقد أن القصة موضوعة في عهدة مجلس الوزراء وعليه حسمها، ولا يمكن فهم اعتبارات الميقاتي، إلاّ من زاوية أنه يُساير من رفّع البيطار إلى قاضٍ فوق المحاسبة.
زد على ذلك أن اختلق الميقاتي أزمة من لا شيء من وراء المؤتمر الصحفي الذي عقده حقوقيون بحارنة في بيروت، ومطالبته بملاحقتهم قد تسبّب بإنزعاج حزب الله، الذي اعتبر أن المسألة غير قابلة للسكوت عنها لكون الحكومة اللبنانية تتصرف بوجهين. فحين تتّصل القضية بمخالفات خليجية كمثل دخول فريق رياضي إماراتي بمواكبة مسلحة خارجية تصمت دون تعليق، وحين ترتبط القضية باعتراضات خليجية، تبادر الحكومة ورئيسها إلى “الزحف” و التودد لبعض الدول على حساب المصلحة اللبنانية وجديدها ضرب صورة بيروت على كونها منبراً حراً. إذاً وباختصار ، تلفّ الدائرة وتدور لتستقرّ في النهاية عند الميقاتي، بصفته أحد أسباب الخلل الذي يعتري كل ما يحصل، وهذا إنما ينمّ عن ضعفٍ في موقع القرار لدى مؤسسة الرئاسة الثالثة، أي الضعف الذي ما برحَ الميقاتي يشكو منه حين كان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري يقف عليه، وهو ضعفٌ ينسحب على كل شيء في الدولة، ويعيد تمظهر الخلافات بصورتها الحالية التي توضح العجز والخلل الذي يعتري طبيعة آليات الحكم في النظام.
إذاً الخلاف بجوهره على قضية الإدارة في لبنان وموقف الدولة، المشتّت بين أكثر من رأي وتوجّه والمتنازع عليه بين جهات مختلفة. فحين يبادر الميقاتي إلى اتخاذ موقفٍ من قضية ما، يبادر إلى ذلك من دون التنسيق مع المعنيين، كذلك يفعل الآخرون، وأحياناً يخرج عن الدولة أكثر من رأي في مقاربة قضية واحدة، ما يعرّيها أمام الخارج ويكشف مدى ضعفها.
هذا الضعف إنما يظهر حالة عطب في آلية اتخاذ القرار ضمن الدولة، ويحتاج إلى معالجة جذرية من بين حزمة معالجات دفعت الأزمة الإقتصادية الحالية إلى طرحها. والضعف نفسه لا ينسحب فقط على القضايا الخارجية، فكذا الداخلية ويُعدّ رأس هرمها اليوم، الخلاف ليس على وضعية البيطار أو الحكومة فحسب، وإنما أبلغ وتنزلق إلى البحث في مصير استحقاقات أساسية كالإنتخابات النيابية وربط مصير الإستحقاق بمسائل تبدو طاغية كـ”مشروع التسوية” المتصّل بشروط انتخابات رئاسة الجمهورية، التي يبدو أن ثمة من دفع بها إلى الأمام، وسط حراكٍ آيلٍ نحو إجراء تعديلات على مواعيدها، وهذا إنما لا يخرج عن طبيعة “المساومات” التي تعجّ فيها السلطة خلال فترة الأزمات. إذاً كلّ المشاكل تدفع إلى البحث والنقاش في آلية النظام وضرورة إيجاد تفسير واحد، وهذا لا يمكن الوصول إليه من دون إنجاز معاملات ذات طابع تغييري على هيكلية النظام من اصله، والمطروح هنا طرح النظام على النقاش، والذي يعتقد البعض أن الأزمة الحالية دفعته إلى الأمام وجعلته من الأولويات.
وخلال الأيام الماضية، أُعيدت “تنمية” الإحتمال القائل بإجراء تسوية سياسية موضوعية، مفادها تقريب موعد الإنتخابات الرئاسية حتى تحصل في آذار مقابل “دفش” الإنتخابات النيابية إلى أيار، وهذا يوفّر إنجاز الإستحقاقين ويكون مجلس النواب الحالي هو المبادر إلى إنتخاب الرئيس. وتتمثّل الخشية التي تعيد الدفع مرة أخرى صوب هذا الإحتمال، بأن يحمل مجلس النواب المقبل –في حال أُجريت الإنتخابات- تغييرات تُطيح بحالة التوازن السياسي القائمة، وقد توفر أسباباً مانعة لانتخاب رئيس الجمهورية المقبل، ما يعني دخول البلاد في فراغٍ نتيجة التجاذبات الداخلية والخارجية والتشعّبات النامية بين عشب القوى الرئيسية في الداخل والخارج، وقد يكون هناك سببٌ آخر.
ففي حال سارت الفرق السياسية بمشروع تمديدٍ لمجلس النواب “لأسباب قاهرة” لا يخفى أن البعض ينبش عنها، قد يكون انتخاب رئيسٍ حين يختم رئيس الجمهورية الحالي ولايته في العام المقبل صعباً، نتيجة رفض الخارج وقسم في الداخل إجراء انتخابات عبر مجلس نواب فاقدٍ للشرعية، ما سيُدخل لبنان في مدارات من الفراغ الشامل في كافة القلاع الإدارية، وصعوبته أنه يختلف بزمانه ووضعيته الحالية عما كان قد حدث ما بين أعوام 2013 – 2016.
كذلك هناك قضية تفرّخ بين الأزمات عادة، كصعوبة تقريب الإنتخابات الرئاسية إلى آذار، لأن الفرضية أصلاً لم تختمر بعد، وزِد عليها أن مجلس النواب يكون حينها في فترة عدم انعقاد، نتيجة انتهاء العقد العادي الحالي ولا أفق لتوقيع الرئيس على عقد استثنائي. يحدث ذلك كله في وقتٍ لا زالت أوساط سياسية تكرّر نفس المعزوفة: “لا انتخابات نيابية قبل بتّ مصير الإنتخابات الرئاسية”، وهذا تقابله فرضية “ألعن” وتستبطن جواباً أشمل: “لا انتخابات نيابية قبل بتّ مصير النظام في وضعيته الحالية”.