إبراهيم نصر الله – القدس العربي
صباح الخير يا هشام، صباح فلسطين كلّها من نهرها إلى بحرها…
وهنيئاً لك ولفلسطين انتصارك، هنيئاً لكلّ قرية تمّ محوها ولم تزل تتململ تحت الأنقاض، وكل طفلة قتلتْ ولم تزل متشبثة بأطراف ثوب أمّها وحقيبتها المدرسية ونشيدها الوطني وشمس اليوم التالي، وهنيئاً لكلّ زيتونة اجتُثتْ ولم يعرف الغاصبون الصهاينة أن جذورها لم تزل حيّة تحت التراب، وهنيئاً لأسرانا في سجون العنصرية الصهيونية، الذين ظلّت أيديهم محتضنة قلوبهم، وهم يتضرعون إلى الله أن تنتصر، وأنت تشقُّ نفق حريتك في ليالي الجوع ونهاراتها، كما شقّ من قبْلِكَ كل أسير نفق حريته، حين صمد، وحين قاوم سنوات القهر، وحين شقّ النفق إلى ألف شمس فيه.
فيكَ ما في شعبك يا هشام، حين قررتَ أن تبدأ، حين قررتَ أن تبدأ رحلتك الكبرى. هل كنت تتوقّع أن تبلغ اليوم الثاني والأربعين بعد المائة مضرباً عن الطعام، ورافضاً أن تكون لقمة الخبز وهُزال الجسد وطريق الآلام حواجزَ أخرى في طريق حريتك؟
لقد بدأتَ، وأنت تعرف ما الذي قام به كل من أضرب عن الطعام، وكل مدى بلغَهُ، وإلى أين وصل.
أنا على يقين يا هشام أنك تكره الموت، كما كرهه شباب فلسطين الذين أنشدوا ذات يوم أمام بحر غزّة:
«لا أقول لكَ الآن إنّي سأمضي إلى الموتْ
لا أعشقُ الموتَ
لكنه سُلَّمي للحياة»
لقد بدأت وأنت على يقين من أن «عليك أن تبدأ لكي تعرف أنك تستطيع، أما إذا لم تبدأ فإن أبسط الأمور سيظلّ مستحيلاً لأنكَ لم تحاول». هذا ما قالته ذات يوم بيت ساحور في عصيانها الكبير ضد القوة الصهيونية الغاشمة، هذا ما قالته غزة، وهذا ما قالتْه جنين وبيت لحم، وهذا ما قالتْه بيروت والشقيف، وقالته القسطل من قبل، وكل ذرّة تراب في وطنك، وقاله شهيد معركة «الشجرة» عبد الرحيم محمود وهو يُنشد:
«سأحملُ روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العِدا»
فيك يا هشام ما في شعبك الذي لم يكن عابراً في التاريخ، وفيك ما في وطنك الذي لم يكن كثبان رمل في الجغرافيا، وفيك ما في جمال ثقافتك التي تضيء الأرواح حيثما وصلت، وتشق طريق الأمل للنور كي يبلغ مصبه في الحرية.
فيك ما في إرادة شعبك يا هشام.
منذ النكبة وما قبلها يراهنون على أن يروا راية استسلام هذا الشعب. هل تعرف يا هشام ما الذي فعلتَه بصمودك هذا، لقد أعطيت شعبك القوة كما أعطاه كل مقاتل وأسير وطفل في الانتفاضة، كما أعطته كل ابتسامة شابة وشاب في هبّة باب العمود، هبة فلسطين كلها. لقد أرسلتَ رسالتك إلى كل العالم يا هشام مكتوبة بالجوع والغضب والإصرار، لتقول لعدوّك إن هذا الشعب غير قابل للكسر، وتقول لأصدقاء شعبك إن الحياة تستحقّ أن نمنحها كل ما فينا لأنها الحياة.
لقد كسَرْتهم، كل هؤلاء الضباع الذين كانوا يسترقون النظر إليك عبر شاشات المراقبة، وهم يتمنون أن يروا يدك ترتفع طالبة راية استسلام: لقمة من خبز أو كوب عصير، أو كلمة تخرج من بين شفتيك المُتعبتَين مُعلنة وقف إضرابك.
لقد هزمتهم يا هشام، مثلما هزمهم شعبك غير القابل للموت، كما هزمهم نشيد لا ينحني وهم يطلقون الرصاص عليه وعلى مُنشدهِ، وكما هزمتْهم امرأة بطلة من شعبك في باحات القدس، في قاموسها كلمتان:
الحرية، و»انقلعوا».
لم تعد يا هشام قابلاً أن ترضى وتَقنَع بلعبتهم وهم يجدِّدون اعتقالك مرّة تلو أخرى، متمسكاً بأمل مريض يعِدكَ أنهم سيطلقون سراحك ذات يوم. فهذا ما فعلوه بشعبك دائماً يا هشام، حين سوّقوا الأمل المريض مرّة تلو أخرى أيضاً، بقرار يتلوه قرار يتلوه قرار، وبيان يتلوه بيان يتلوه بيان، منذ أن سوّقوا بلاغة صمت البندقية وأعلوه فوق رصاص ثورة شعبك الكبرى عام 1936، وحين روّجوا بعار القرن العشرين: «أوسلو» لنصف وطن وربع وطن وخمس وطن في طريقهم للترويج لواحد بالمائة منه، وهم يتبادلون الهدايا، ويقبلون هدية من سجّانيك وقاتلي شعبهم، عبارة عن قارورة من زيت الزيتون، من شجر الزيتون الذي زرعته أمّك وأمي وأبوك وجدك وجدي.
أتحدث عن هؤلاء يا هشام، عن سلطة ضيّقت الزنازين حول أجساد أسرانا وأسيراتنا بصمتها وتسويقها لوهم الحرية الذي لا يُصرف في كتب التاريخ ولا في حقول دماء الشهداء ولا في جداول دموع الأمهات والأطفال والرجال؛ فللرجال أن يبكوا أيضاً.
صباح حريتك يا هشام، وأنت تعيد إلينا الأمل العَفيّ في أن نبكي فرحاً في يوم حريتك، ثم نمسح دمعة الفرح ونضحك، كي نقول إن انتصارك الذي حققتَهُ وكل انتصار يحققه أبناء شعبك هو راية في طريق الحرية، طريق الشعوب العظيمة، والضمائر اليقظة التي ستظل ترى هذا الكيان العنصري الغاصب، خطأ في كتاب التاريخ وسخرية من سخريات القدر.