بقلم: أ. د. ياسين بن عبيد ـ
بأيّ طريق يفضي الإنساني إلى التجريدي؟ ما هي وسيلة المجرّد لاختزال المحسوس؟ هل هناك حدود لتوحيد الثنائية بين هذين العالمين المتباعدين بأكثر من مسافة؟
للإجابة عن هذا التساؤل، ينوء ــــــ ولا أحسن ـــــ فعلٌ شعري مُشْرَب برؤية ميتافيزيقية ناهضة على مقدار جمالي ما. هذا الذي يقترحه ــــــ في إجماله ــــــ المنجز الشعري للأديب والأكاديمي اللبناني الدكتور محمد حسين بزّي. يتوفر المنجز المذكور على حبل واصلٍ بأعمق سياقات الكتابة في المشرق العربي. تلك التي يؤثثها أداء شعري يستأنف تقاليد لا يزال لها حكم المرجعية وصِفَتُها، منطلقة ـــــــ لا شكّ ـــــ من الوضعيات المُحْدَثَة الناجمة عن المثاقفة بمعناها الشمولي، والمتهيِّئة من التقاربات الثقافية التي بدأ النظام الثقافي العربي/ الإسلامي يعرفها.
إذا كان محمد حسين بزّي لا يُشكِّل استثناءً، بما أنّ كثيرًا من مُجَايليه ومن السابقين عليهم جميعًا يسافرون ذوقيًا بين الحسّي منعطفًا نحو التجريد وملتصقًا به، وبين المُتَخَيَّل مُطَوَّعًا للقيم الحسية، فإنّ له فضيلةً حصريةً ـــــ شكلًا على الأقل ـــــ تتجه به نحو التمثيل العصيّ على المنافسة. فالموضوعة المهيمنة في آخر دواوينه (مرايا الشمس)[ii]، الموزّعة على ثلاثين نصًا مؤطَّرًا خلافيًا بين العمودي، وقصيدة التفعيلة والشعر المنثور، لا تخرج ــــــ إلّا قليلًا ـــــ عمّا سيصبح خصوصية موضوعية لافتة: المرأة !
استلهام الموروث
لا يخفى أنّ هذا المجال موطئ قدم لمن انحاز من الشعراء، أمثال محمد حسين بزي، إلى التصوّف واستلهم موروثه، فلامسوا تقليدًا أدبيًا يرفض أن يشيخ. لا عليه ــــ في منظور هؤلاء وفي أدائهم ــــــ من الماضوية ما دام متغيرًا، وعلى امتداده فهو عميق التجذّر في الوعي الشعري، فهو في نهوضه على الأنثى بوصفها وسيطًا جماليًا لا يزال يفرض نظامه وطرائقه، ويستوطن مَحالَّ المرجعية بما لا يقبل المراجعة والنقض.
وعيًا بهذه الغاية، يُهِيب الشاعر بزّي ـــــــ على امتداد منطوقه ــــــ بليلى التجريدية على طريقة من لا يُحْصَوْن من شعراء التصوّف عَرَبًا، فُرْسًا إلى حيث تنتهي الإثنية. يتخذها بؤرة للتأمّل بما يبعث على الظن بأنّها لديه كيان رمزي عميق يدفع إليه أحد شيئين: إمّا ثقافة التجريد وإمّا عدم القدرة على تجسيد الصور الساكنة في وعيه الشعري. في كلّ الحالات، ليلى بزّي (ص. 39)، مرفقة بعشتار (ص ص. 33/61) وبلقيس (ص. 81) ومريم (ص ص. 57/81) هي حمّالة بكل وضوح لسيميائية التماهي بالمفاهيمي المُتاح، بقوة الإلهام، بالمتشكل الحسّي. بعيدًا عن الشبقية، وأبعد ما يكون عن الإثارة، يركز الشاعر عميقًا على الملامح الجسدية للمرأة بوصفها حاملًا لمعانيها ووسيطًا جماليًا، بالمفهوم العلائقي، بين المحبوب والمحبّ؛ هذا الذي يقرأ ملامحها انطلاقًا من أفق انتظاره، وبتعبير بديل: بناءً على الوعي بجدلية الفيزيائي وما ليس كذلك!
تأمّلات الجسد
يتأمّل محمد حسين بزّي السياق الجسدي أكثر من تأمّله الجسد نفسه، يحيل على القيم النبيلة الطالعة من الحس الأنثوي، في أي سياق كان، أكثر من جنوحه إلى شهوانية يتوارد عليها الخطاب الأنثوي الكلاسيكي. لا المكان ولا الزمان بإمكانهما الإتيان على هذا التأثير العميق والانتقائي، الملحّ حدّ التجذّر في مراس أدبي متمحض لتأمّل الأنثى وحدها. كلّ النصوص المولودة في خرائط غير متجانسة، وفي وضعيات غير متقاربة بكل تأكيد، من بيروت إلى دبي، مرورًا بالإسكندرية وبغداد، تعكس هذا الإصرار على الإبحار في الأنثى بمركزيتها في إنجازٍ بدأ يأخذ مكانه في الزمان، يستوطن الحقل الثقافي ويلفت النقّاد على أكثر من صعيد. هل يعني ذلك أنّ شاعرية محمد حسين بزّي تدين في وجودها للانحياز إلى الأنثى وحدها؟ وهل تنهض مَلَكاتُه عليها وحدها، في وسط صريح الاحتفاء بما هو نص أنثوي أو أنثى تركب النصوص ركوب الفاتحين؟ !
في انتظار المزيد من الحفر في أعمال هذا الشاعر اللافت، سنقول إنّ الاهتمام الذي يثيره، في المشرق على وجه الخصوص، في سياق نقديّ متنوع، بالإضافة إلى حضوره الأكاديمي (رسالة دكتوراه في الفلسفة عن السهروردي) وانفتاحه على آفاق بعيدة، كلّ ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأنّ الرجل يستفيد من ملامسته للكوني أولًا، وبأنّه يستثمر في التشكل الفيزيائي ليتخذ منه ملمحًا لا غاية، وبأنّه ، في الأخير، يجهد للانخراط في تقاليد تتجاوز الآني. من أجل هذا ــــــ على الأقل ــــــ يستحق محمد حسين بزّي أن يُقرأ.
[i]أكاديمي وشاعر من الجزائر. مختص في التصوف المقارن
[ii]الصادرة عن دار الأمير، بيروت، 2016