سلوى بعلبكي – النهار
تلقّى سعر صرف الدولار الاميركي الاسبوع الماضي صدمتين ايجابيتين، الاولى اقتصادية نقدية عبر فتح خزائن مصرف لبنان بشكل أوسع أمام المصارف والمودعين عبر تعديل في بنية التعميم 161 في خطوة منسقة سياسيا، بغية “تجفيف” الاسواق ما أمكن من الليرة اللبنانية لخفض منسوب التضخم الى الحدود الدنيا الممكنة لمحاصرة المتلاعبين بسعر الصرف. اما الصدمة الثانية فسياسية تمثلت بفكّ الثنائي الشيعي أسْر مجلس الوزراء وموافقته على حضور اي جلسة يدعى اليها وتناقش حصراً مشروع الموازنة العامة وخطة التعافي الاقتصادي، وإفساح المجال لتوسع مجلس الوزراء في مناقشة كل ما يتعلق بتحسين الوضعين المعيشي والحياتي للبنانيين.
هاتان الصدمتان قصمتا ظهر الدولار قليلا، فهل سيستمر بالانحناء أكثر… أم ستعود “حليمة” تراقص سعر الصرف الى عادتها القديمة؟ الثابت ان التطورات المتسارعة تشي بـأن قطار الحكومة قد انطلق على سكة الضرورات الاقتصادية وبسرعة تسابق وصول وفد صندوق النقد الدولي والنقاش المعمّق المتوقع معه.
قانصو: التحسن رهن باستدامة تعميم “المركزي”
خلال الأسبوع الماضي، أدخل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعديلا على التعميم 161 المتعلّق باجراءات استثنائية للسحوبات النقدية، بحيث جرت إضافة بند يعطي الحقّ للمصارف بزيادة عن “الكوتا” التي يحق لها شهريا سحبها بالليرة اللبنانية، وأصبحت تأخذها بالدولار الأميركي على منصة “صيرفة”، أي أن تشتري الدولار الورقي من مصرف لبنان مقابل الليرات اللبنانية التي بحوزتها أو لدى عملائها على سعر المنصة، من دون سقف محدد. ووفق حاكم مصرف لبنان، فإن التعميم 161 يهدف الى تقليص حجم الأوراق النقدية بالليرة المتداولة، وعملية التقليص هذه ستكون بين المصرف المركزي والمصارف التجارية، وذلك في محاولة لتخفيف الضغط قدر المستطاع على سعر الصرف في السوق السوداء بعدما بلغ مستويات قياسية جديدة متجاوزاً عتبة الـ33 ألف ليرة للدولار، قبل أن يتراجع إلى حدود 23 ألف ليرة للدولار في أعقاب صدور هذا التعديل.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تصمد المفاعيل الإيجابية الآنية لهذا التعميم في لجم سعر الصرف أمام جنون الدولار ومساره العام التصاعدي؟ يشكك مدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو في ما إذا كانت المصارف ستتجاوب بشكل مطلق مع التعميم نظراً إلى عطشها الدائم للدولارات الطازجة، وما إذا كانت ستلتزم سقوفاً معيّنة بشكل استنسابي بين مصرف وآخر وبين مودع وآخر أو حتى بين زبائنها الشركات والأفراد. ويقول: “قد نشهد عملية حرق لنحو 300 مليون دولار في وقت نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى كل دولار، في ظل عملية توزيع قد لا تكون عادلة وفي وقت قد تذهب فيه هذه الدولارات إلى جيوب المضاربين والصرافين والتجار”.
فإذا كانت هذه الدولارات متأتية من الاحتياط الإلزامي أو من حقوق السحب الخاصة (SDRs)، فهذا يشكل، وفق قانصو، مزيدا من “الاستنزاف للمخزون الاستراتيجي بالعملات الصعبة في وقت نحن بحاجة ملحّة إلى كلّ دولار لتمويل الإصلاحات المرجوة في ما بعد، أما إذا كانت متأتية من السوق السوداء أو من شركات تحويل الأموال، فهذا يعني أننا قد نشهد موجة جديدة من ضخ الليرة لشراء الدولار من السوق لتمويل هذا التعميم، بما قد يرفع سعر الصرف، في موجة جديدة تشبه الموجة السابقة التي رفعت سعر صرف الدولار إلى 33 ألف ليرة”.
وبالافتراض ان ضخ الدولار من مصرف لبنان يتأتى من شركات تحويل الأموال أو من السوق الموازية، وبما أن الطلب الحقيقي على الدولار يفوق حكماً العرض الحقيقي له، فمع شحّ الدولار المرتقب في السوق، خصوصا إذا ما ذهبت دولارات “المركزي” إلى جيوب المضاربين عوضاً عن المودعين، قد نشهد، برأي قانصو، “موجات جديدة لشراء الدولار بأسعار مرتفعة جدا، خصوصا مع انعدام الثقة، إذا ما بقي الوضع السياسي والاقتصادي على ما هو”.
ومع تراجع سعر الصرف في السوق السوداء إلى مستوى سعر منصة “صيرفة”، فإن المكاسب المحققة نتيجة الهامش الذي كان سائدا بين السعرين، قد اضمحلت نسبيا، الامر الذي من شأنه أن يكبح نوعاً ما التهافت الحاصل على المصارف لشراء الدولار، ما يعني خروج شريحة واسعة من المستفيدين من جنّة التعميم 161. التعميم ساري المفعول لفترة زمنية محددة حتى هذه الساعة، ما يعني، وفق قانصو، أن “مفعوله أشبه بإبرة مورفين مرحلية، مع شكوك بقدرة مصرف لبنان على الاستمرار بهذا التعميم طويلاً وضخ مزيد من الدولارات من دون أن يؤثر سلبا على احتياطاته النقدية أو على سعر الصرف في السوق السوداء من جراء عملية سحب الدولارات من السوق، وعندما يتوقف المصرف عن ضخ الدولار سيعود سعر الصرف للتحليق مجددا الى ما فوق الثلاثين الفاً وأكثر”.
باختصار، يعتبر قانصو “ان ما شهدناه من تراجع في سعر الصرف في السوق السوداء في الأيام الفائتة ناجم أولاً عن تعديل التعميم 161 عبر الحديث عن ضخ مرتقب لما يوازي 300 مليون دولار من مصرف لبنان، وثانياً عن اندفاعة حاملي الدولار إلى بيع دولاراتهم سعياً الى تحقيق بعض المكاسب من جراء الهامش الذي بات ضيقا بين سعر صرف السوق السوداء وسعر منصة صيرفة، ومن جراء المخاوف من مزيد من التراجع في سعر الصرف مع عودة الثنائي الشيعي إلى مجلس الوزراء، ما خلق عرضاً لا بأس به من الدولار، وإن لا يزال الطلب يتجاوز العرض، ولكن سرعان ما ستتبدد مفاعيل هذا التعميم في ظل الشكوك حول القدرة على استدامة هذا الاجراء الذي يتطلب توافر الدولار من مصرف لبنان بشكل مستمر مع غياب الحلول الجذرية، في استمرار واضح لعملية شراء الوقت منذ نحو عامين بانتظار الحل الجذري السياسي والاقتصادي لأزمة تُعتبر من بين أسوأ الأزمات الاقتصادية حول العالم منذ ما يقارب قرناً من الزمن”.
الدولار الى مزيد من الانخفاض؟
يربط الخبير الاقتصادي باتريك مارديني ما بين التعميمين 151 و161 على اعتبار “انهما يسمحان لمصرف لبنان بتحديد كمية الليرات المتوافرة في السوق. فالتعميم 151 الذي يتعلق بكوتا الليرة التي يعطيها المصرف المركزي للمصارف، يمكّن المركزي من ضخ الليره في السوق، في حين يسمح التعميم 161 للمركزي بسحب الليرة من السوق عن طريق شرائها مقابل الدولار. وبذلك يتمكن المركزي من التحكم بالطلب على الدولار والتأثير في سعر صرف الدولار”. ولكن ضخ الليرة عن طريق التعميم 151 يؤدي، برأيه، الى “انهيار سعر صرفها فيما سحبها لاحقا عن طريق التعميم 161 يؤدي الى خسارة احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية، اي ما تبقّى من اموال المودعين”. لذا يرى مارديني أنه كان من الاجدى لمصرف لبنان عدم ضخ الليرة بالاساس لعدم الاضطرار إلى سحبها لاحقا عن طريق خسارة احتياطه.
للمرة الأولى في تاريخ الأزمة يحدث هذا التدهور الدراماتيكي للدولار وبهذا المسار الإنحداري. فمن سعر صرف تخطى الـ 33 الف ليرة لكل دولار، انخفض الى حدود الـ 23 الفا بنسبة تخطت 30% وهو مستمر بانخفاضه، ويعود ذلك برأي الأكاديمي والباحث الاقتصادي الدكتور أيمن عمر لسببين رئيسيين: “أولهما التوسع بالتعميم 161 ووصوله إلى حد تبديل 100 مليون ليرة مقابل دولارات بحسب سعر المنصة، وثانياً قرار الثنائي الشيعي بالعودة إلى اجتماعات مجلس الوزراء كدليل على الحلحلة السياسية، وما لذلك من إحداث ضغط نفسي على المودعين فيدفعهم إلى بيع دولاراتهم المخبأة في المنازل خوفاً من الخسارة نتيجة الانخفاض، في إشارة واضحة الى إمكان معالجة التدهور في قيمة الليرة إذا أرادت السلطات النقدية ذلك، مع نوع من الاستقرار والتوافقات السياسية بهدف تحسين قيمة الليرة، اضافة إلى سد الفجوة بين سعر منصة صيرفة وسعر السوق الموازية”.
ويعتبر عمر أنه “إذا كان ارتفاع سعر صرف الدولار ظاهرة غير صحية فإن انخفاضه بهذه الطريقة الهستيرية أيضاً هو غير صحي بسبب إحداثه إختلالا في توازن سوق السلع والخدمات وفي تغذية بيئة المضاربات”، مؤكدا ان “هذا التحسن في قيمة الليرة هو موقت طالما لم يُصر الى معالجات جذرية مرتبطة بميزان المدفوعات والاستثمارات الاجنبية وودائع القطاع الخاص غير المقيم، إلا إذا استمر مصرف لبنان بضخّ دولارات في السوق عبر الاحتياط الإلزامي (13 مليار دولار) أو عبر حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي (1.135 مليار دولار)، ولكن هذا يعني ضياع أموال المودعين وهدر الحقوق”، لافتا الى أن “الرهان المستقبلي هو على ضخ الدولار الانتخابي”.