عبدالله قمح – ليبانون ديبايت
أواخر العام 2019، قضت السلطة السياسية على الحراك الشعبي ولم يحصل ذلك بمعزل عن “مصلحة” جماعة “المتسلّقين” من نشطاء وغيرهم وإنما أتى في خدمتهم، ومنذ ذلك التاريخ “فلتت” الأزمة على نحو ما نشهد حالياً، ولا ريب أن ذلك صبّ، بشكلٍ أو بآخر، في خدمة أولئك المدّعين، فسلبوا الإنتفاضة قدرتها على إرباك السلطة وطوّعوها في خدمة مشروع واحدٍ: الإنتخابات…
الآن، حلّ زمان الإنتخابات والمعارضون لا زالوا سكارى وتحت تأثير “لحظة تشرين” أو أنهم أسرى لها، يتخبّطون في ما بينهم، و “تفرّخ” المجموعات يومياً، وكما هو واضح، السلطة التي “ارتاحت جداً” حين قضت على “جنس” الإعتراض عام 2019، تحضّر نفسها للإجهاز على استحقاق 2022، متى أن هذا الإستحقاق لا يصبّ في خدمتها.
غالباً الظنّ أن ذلك لا يأتي بفضل قدرة “الجسم المعارض” الذي تكوّن على ظهر من نزلوا إلى الساحات، على إحداث تغييرٍ طالما أن جميع الإحصاءات تؤكد أن القدرة لا زالت محدودة ومقيّدة بعدة عوامل مذهبية طائفية وغيرها، وإنما تأتي الرغبة في “تطيير” الإستحقاق من منطلق أن نسب الإقتراع لن تصل إلى حدّ ما يطمح أركان المنظومة، نتيجة حالة “القرف” التي تعتري عامة الشعب، ومن الطبيعي أن “هشاشة الأرقام” ستأتي على “شرعية الفوز” طالما أن قدرات الإختراق لا زالت “خجولة” وتُحسب بالمقعد، أي أن لا قدرة بعد على إحداث توازن مع سلطة “الضرب بالميت” أو “جرفٍ شامل”، وبهذا المعنى لماذا لا يتمّ تأجيل الإستحقاق؟
عملياً، ثمة اعتقادٌ راسخ لدى أكثر من سفير دولي حول بلوغ بعض من في السلطة أو تحضيراتهم لبلوغ اتجاهات من هذا النوع، تتوزّع بين الأسلوبين الناعم والخشن، ولم يعد سراً أن جانباً من هؤلاء السفراء، أبلغ دوائر محلية وخارجية أن معظم القوى السياسية اللبنانية، لا تريد حصول الإنتخابات النيابية في موعدها ولو أنها تدّعي العكس وتمارس نقيض ذلك تماماً.
من الأمثلة التي تُحسب كمفارقات، أنه ومنذ أن فُتح باب الترشيحات في العاشر من الجاري لم يبادر أحد إلى تقديم ملف! بخلاف الإستحقاقات الماضية حيث كان ينتظر المرشحون “بالدور”! هذا الفعل وإن كان ينمّ لدى متابعين عن عدم رغبة في الإنخراط سريعاً في مجال الترشيحات ويظهر “برودةً” إنتخابية، له أسباب أخرى، كتأخّر المصرف المركزي في إصدار تعميمٍ يجيز فتح حسابات خاصة بالمرشحين، وهذه علامة “ناقصة”، ومتى كان المصرف في آخر المطاف يصبّ في “نهر” السلطة، عندها لا يمكن إعفاؤه من محاولات “التخريب”.
ثمة قضية أخرى لا تقلّ أهمية. فمثلاً، يُفترض بأي عملية إنتخابية أن تقود إلى عملية إصلاح حقيقي لمشكلة قائمة. حالياً، المشكلة “الراكبة” لبنانياً ضربت وتعمّقت كثيراً وبات يصعب حلّها عن طريق الإنتخابات، فلماذا تكون الإنتخابات إذاً ولأي غرض؟
هذا النقاش “العريض” يبدأ من عوامل عدة، متفرّقة ومتنّوعة، فالأزمة اليوم في لبنان، لا يمكن ربطها فقط بمسارات داخلية عبارة عن حالات فساد سياسي طويل الأمد، مستشري ومترامي الأطراف، كذلك لا يمكن تحميلها إلى الخارج الذي يفرض عقوبات ويضيّق لأهداف سياسية، إنها أزمة عميقة، بيّنتها الأزمة المالية التي ضربت عام 2019، تتّصل بأزمة سلطة و نظام كامل يحتاج ليس إلى تحديث وإنما إلى استبدال وتغيير.
إذاً متى كان أن الأزمة في واقعها كناية عن أزمة اقتصاد، أزمة نقد ومال، أزمة كهرباء وسيولة وعملة، أزمة قطاعين صحي ومصرفي، أزمة هوية وولاء، أزمة قضاء وأمن وعسكر وأحزاب، أزمة مجتمعية خلقت فجوةً اجتماعيةً سحيقةً ما بين أصحاب الليرة و أصحاب الدولار، أزمة إدارة وتوظيف ورواتب وتعويضات، أزمة إنترنت واتصالات… نصبح إذاً أمام أزمة تتجاوز الإنتخابات و ليس من قدرةٍ لهذه الإنتخابات على تحقيق حلول لها متى أن الضمانة حول “تصحيح” المسار من خلال إنتاج بديلٍ ليس متوفراً.
من هنا، عاد الحديث في قصر بعبدا عن الحوار، وأخذ رئيس الجمهورية علماً بالتحرك. يدرك الرئيس ومن معه، أن الحلّ في لبنان بات يتجاوز مسألة الإنتخابات، لكن الإختلاف كان قائماً في الدعوة إلى الحوار قبل الإنتخابات أم بعدها، أو تحديداً أكثر، قبل ضمور كتلة “التيار الوطني الحر” شريك العهد على صورتها الحالية أو بعده؟
التباين الذي نشأ بين الرئيس ميشال عون والآخرين الذين يطرحون “الحوار” على شكل موسّع في الخارج كان هنا. هذا الخارج، يريد “مأسسة” طاولة لبنانية على شاكلة سان كلو أو الدوحة لا فرق، تكون بُعيد الإنتخابات اللبنانية، وفي الغالب الدور الفرنسي مؤمّن وسيحظى بهامش واسع، على أن تُبحث عدة أمور. لكن القصر شاء استباق اللحظة من خلال محاولة خوضه التجربة من مجال المشاركة في ترتيب الخارطة اللبنانية تمهيداً لساعة الصفر، فأخطأ القراءة والحساب.
صحيح أن العهد الحالي يسأل عن أسباب الأزمة من خلفية حضوره في سدّة المسؤولية، لكنه ليس المسؤول الوحيد وإنما هناك مجموعة متورطين، وبالتالي إن أي طاولة يفترض أن تضم الجميع، لتحميلهم طبعاً المسؤولية.
قد يقول البعض، ولعلّ غالبيتهم من جبهة “النيو معارضة”: “كيف تأتون إلى طاولة بمن سرق ودمّر؟؟” عظيم، هذا السؤال لا بدّ أن يفرّخ سؤالاً آخر أشدّ عمقاً: “إن لم يؤتَ بهم، إذاً كيف ستوزّع الخسائر والمسؤوليات؟؟”.
في المرحلة المقبلة، الجميع عليه أن يتحمّل المسؤولية عن الدور الذي أدّاه طيلة فترة طويلة، من دون أن يتمّ إشراك هذا الجميع في “مشروع النهوض” وإنما انتقاء الأخيار منهم والإتفاق على خطوطه العريضة التي لا بدّ أن تكون “محلية الصنع”. في النتيجة لبنان بلد تسويات، والأحزاب المتّهمة اليوم، لا يمكن الشكّ بتمثيلها الشعبي، لكن متى تمّ تأمين التوازن في التمثيل، تصبح قدرة المناورة والحضور أقلّ، وهذا هو المطلوب.