غسان ريفي – سفير الشمال
أدخل الرئيس سعد الحريري ثقافة جديدة على قاموس العمل السياسي، من خلال خطوة متقدمة قد تكون غير مسبوقة في التاريخ اللبناني، وهي ″تعليق العمل في الحياة السياسية″ على المستوى الشخصي، وتجميد عمل تيار سياسي عريض عابر للطوائف والطلب من قياداته ونوابه عدم الترشح، ورفض ترشيح أي كان بإسمه.
كان متوقعا عزوف الحريري عن الترشح للانتخابات النيابية المقبلة، فالرجل لديه أزماته السياسية والشخصية والمالية، ويدرك حجم التراجع الشعبي لكل التيارات والأحزاب، بمن فيهم “تيار المستقبل”، لكن الصدمة الكبرى كانت في إعلانه إقفال بوابة البيت الأزرق وإن بشكل مؤقت تحت عنوان “التعليق” ما يعني غياب المستقبل عن الحياة السياسية في المرحلة المقبلة في حال حصلت الانتخابات النيابية ولم يتراجع الحريري عن قراره.
لا شك في أن قرارا من هذا النوع، من شأنه أن يُحدث فجوة سياسية كبرى في الساحة الوطنية عموما وفي الساحة السنية خصوصا قد يصعب ردمها في الوقت الراهن، لأن خروج كتلة كبيرة من البرلمان ومن الحياة السياسية بهذا الشكل الدراماتيكي سيؤدي الى تبدل في الخريطة السياسية التي كان “تيار المستقبل” بزعامة الحريري أحد أركانها وأحد المساهمين في حماية التوازن الوطني والمحافظين على خط الاعتدال.
ربما من المبكر التكهن بنتائج قرار الحريري، خصوصا أن الزلزال الذي أحدثه بتجميد “تيار المستقبل” سياسيا من المفترض أن يكون له هزات إرتدادية قد تظهر تباعا ويكون لها تداعيات سلبية جدا على الساحة اللبنانية ككل، علما وكما بدا واضحا أن كل الوساطات والضغوط والتمنيات التي جرت مع الحريري ومورست عليه من قبل الحلفاء لا سيما الرئيس نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لم تجد نفعا، لكنها ربما هي التي أدت في النهاية الى إعتماد الحريري لـ عبارة: “تعليق العمل في الحياة السياسية” وليس الخروج منها أو إعتزالها بالكامل، ما قد يترك الباب مفتوحا أمام العودة عندما تصبح الظروف مؤاتية أو في حال حصول متغيرات متوقعة وربما تكون قريبة في المنطقة قد تنعكس إيجابا على لبنان وتعيد الحريري الى أن يلعب الدور الوطني المنوط به.
لا شك في أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، ما يعني أن المساحة الواسعة التي سيتركها الحريري في حال أصر على موقفه ولم يتراجع عنها، لا بد أن تملأها جهات معينة، سواء بوجوه “مستقبلية” (يمكن إعتبارها سابقة) بعد تجميد عمل التيار، قد تتخذ قرارها بالترشح وتشكيل كتلة موازية، أو بقوى سنية سيادية قد تستفيد من غياب الحريري فتسعى الى إستمالة الشارع بالمواقف التصعيدية لا سيما ضد إيران وحزب الله، أو بقوى وسطية معتدلة قد تشكل البديل المنطقي في الشارع السني المفطور على الاعتدال والوسطية، أو بقوى سنية من قوى 8 آذار قد تعمل على تشكيل كتلة وازنة في البرلمان، أو بقوى إسلامية قد تجد الفرصة سانحة للاعلان عن نفسها، أو من الوجوه الثورية التي برزت ونشطت في تحركات 17 تشرين.
لكن قبل الحديث عن ملء الفراغ، ثمة أسئلة كثيرة جدا تطرح نفسها في هذا المجال من أبرزها: من سيقود الشارع السني بعد تعليق الحريري لعمله السياسي مع تياره الأزرق؟، وهل يؤدي هذا القرار الى تأجيل الانتخابات النيابية؟، وهل يحتمل لبنان في هذه الظروف خروج كتلة سنية وازنة ككتلة المستقبل من المشهد السياسي؟، هل نتجه الى إحباط سني شبيه بالاحباط المسيحي عام 1992؟، وهل ستقاطع الأكثرية السنية الانتخابات؟، وكيف سيتعاطى الحلفاء والخصوم مع هذه المستجدات؟، وهل يؤدي هذا القرار الى خلط أوراق قد تقود الى إنتاج نظام جديد؟، وماذا عن إتفاق الطائف الذي دعت ورقة الثوابت الخليجية الى التمسك به وتنفيذه؟..
تشير مصادر مواكبة الى أن الحريري وجه رسائل سياسية داخلية مبطنة الى الخصوم والحلفاء من دون تسمية أحد، ولعل كثير من “المستقبليين” الذين عبروا عن غضبهم في الشارع وقطعوا الطرقات إحتجاجا على قرار “التعليق” قد فهموا معناها فصبوا جام غضبهم على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع متهمين إياه بالغدر، ومؤكدين أن بهاء الحريري لا يمكن أن يكون البديل، وأن قرار الحريري من شأنه أن يربك الجميع بدون إستثناء وسيضع الانتخابات النيابية على المحك، ولا بدّ من التراجع عنه!..