جوني منيّر- الجمهورية
لا يمكن قراءة الورقة التي قدّمها وزير الخارجية الكويتي الشيخ احمد ناصر الصباح الى المسؤولين اللبنانيين خلال زيارته الى لبنان الّا وفق مفهوم بدء مرحلة جديدة في التعاطي الخليجي مع الملف اللبناني. وقد دشّن هذه المرحلة قرار الرئيس سعد الحريري بخروجه مع تيار «المستقبل» من الحياة السياسية ولو لمرحلة مؤقتة، يبدو انّها ستطول بعض الشيء. والورقة التي حملها الوزير الكويتي حرص فيها على الإعلان في وضوح بأنّها ثمرة توافق خليجي حولها.
في الواقع، فإنّ منطقة الشرق الأوسط برمتها أمام مرحلة جديدة عنوانها الشروع الفعلي في إعادة رسم خريطة النفوذ السياسي لساحاتها، بعدما شارفت المفاوضات حول الملف النووي الإيراني على نهاياتها. وهو ما يعني انّ مرحلة الضغوط الميدانية وتجميع اوراق القوة بدأت، تحضيراً لمسار تفاوضي صعب وقاسٍ.
ولاحت هذه البشائر مع الاستهداف الخطير لأبو ظبي عاصمة دولة الإمارات، وفي الوقت نفسه اشتعال الوضع في اليمن، بعد انعطافة في المسار الميداني للمعارك الدائرة، إلى جانب استعادة تنظيم «داعش» الإرهابي حيويته في العراق وسوريا، في موازاة دخول الجيش الروسي الى ميناء اللاذقية والإمساك بمفاصله، في وقت باشرت الطائرات الروسية والسورية دورياتها الجوية المشتركة عند الحدود الجنوبية، وهذا ما أقلق اسرائيل التي اعتبرت إقفال موسكو المجال الجوي السوري خطوة ضغط على واشنطن حيال تعاطيها مع الأزمة الاوكرانية. وثمة من يعتقد انّ الإشارة الروسية هي للقول إنّ روسيا جاهزة لصفقة عريضة تشمل اوكرانيا وسوريا معاً. وفي العراق صواريخ في اتجاه منزل الرئيس الجديد لمجلس النواب، بعد مُسيّرات متفجّرة طاولت قبل فترة مقرّ رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، وكادت ان تكلّفه حياته، وهو الذي يحظى بدعم اميركي.
الساحة اللبنانية بدورها لا بدّ من ان تدخل مرحلة الاهتزازات مع تجميع أوراق القوة. صحيح انّ وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن سيناقش الملف اللبناني والورقة الخليجية خلال لقائه مع نظيره الكويتي، لكن ثمة مفارقة لا بدّ من أخذها في الاعتبار وعدم الوقوع في خطأ الخلط بشأنها. فالورقة الخليجية صيغت بنودها في الخليج، وحازت قبل تسليمها للبنان على موافقة أميركية، وبالتالي فهي ليست صناعة اميركية تولّى وزير الخارجية الكويتي حملها. والفارق كبير بين الصياغة والموافقة، وهو ما يعني أنّ الورقة ستشكّل سقفاً للتفاوض لاحقاً حول ترتيب الوضع اللبناني وليس هدفاً مطلوباً بالكامل، فسقف التفاوض شيء والأهداف الواقعية المتوخاة شيئاً آخر. صحيح انّ البند الاول والمتعلق بالتمسّك باتفاق الطائف هو بند لا مجال للتراجع عنه، وبالتالي، هذا ما ينفي أي افكار حول مؤتمر تأسيسي والذهاب في اتجاه الجمهورية الثالثة. إلّا أنّ البند المتعلق بتطبيق القرارات الدولية، ولا سيما منها القرار 1559 يبدو الأصعب والأكثر دقة وحساسية، ولا بدّ من مقاربته من خلال مفاوضات صعبة وعميقة من جانب الاميركيين أصحاب القدرة في هذا المجال. وقيل إنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وعند قراءته بنود الورقة، أثار امام ضيفه وزير الخارجية الكويتي صعوبة تطبيق البند المتعلق بالقرار 1559، فأجاب الصباح بسؤال لافت حين قال: «ألستم انتم فخامة الرئيس من كان يقول إنّه أب هذا القرار؟». ولا شك في أنّ لبنان الرسمي الذي يتحضّر لكتابة الجواب اللبناني يدرك جيداً الخلفيات التي تؤشر الى بداية المرحلة الصعبة، بدليل المهلة التي أعطتها دول الخليج من خلال الكويت لتسلّم الجواب اللبناني. ولا حاجة لتوقّع «مزاج» دول الخليج خلال المؤتمر، والذي تجلّى بالقصف العنيف لليمن إثر استهداف الإمارات بالصواريخ، ولا حاجة للاستنتاج انّ دول الخليج قد تذهب الى خطوات ضاغطة اقتصادياً من خلال رفع مستوى المقاطعة في ظلّ الوضع الصعب الذي يعيشه الاقتصاد اللبناني.
صحيح انّ «حزب الله» لم يعلّق رسمياً على الورقة الخليجية، لكن البعض ربط الاعتداء الثالث الذي تعرّضت له قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان («اليونيفيل») خلال شهر واحد، بالرسالة الجوابية على البند المتعلق بالقرار 1559. اذاً، فإنّ لبنان امام مرحلة مختلفة عنوانها الضغط تمهيداً للتفاوض وصولاً الى إعادة ترتيب خريطة سياسية جديدة أسوة بما هو حاصل في ساحات المنطقة. وبالتالي فإنّ خروج الحريري من اللعبة السياسية في المرحلة الحالية هو خروج لسياسة المهادنة التي انتهجها، خصوصاً منذ تاريخ عودته الى السلطة عام 2016. الحريري اشار الى ذلك بوضوح في خطابه الوداعي المقتضب. هو تحدث بشيء من التفصيل عن خلفية التسويات التي عقدها بهدف تجنيب لبنان الحرب الاهلية. وفي نهاية كلمته اشار الى صعوبة الوضع في ظل الواقع الإيراني في لبنان، ربطه ليس في حاجة الى تفسير.
في الواقع ثمة قلق وتهيّب لدى السلطات الأمنية في لبنان حول الوضع الامني، في ظل الاحتقان والتشنجات التي بدأت تظهر. فهنالك من يخشى تحرّك بعض المجموعات المحسوبة سياسياً على بعض القوى الاقليمية، الشمال منطقة حساسة بالطبع، والبقاع قد يصبح منطقة حساسة بدوره كما منطقة خلدة. فهنالك تناقض في الولاءات بين مجموعات او عشائر من أطياف مختلفة. تكفي الإشارة الى انّ خروج الحريري لم يلقَ ردود فعل دولية، رغم وقعه الكبير، باستثناء ردّ يتيم جاء من فرنسا بعد 24 ساعة، والتي كان رئيسها قد أصدر بياناً مشتركاً مع السعودية بعد زيارته لها، وتضمن التذكير بالقرارات الدولية، ولا سيما منها القرار 1559. الردّ الفرنسي على موقف الحريري جاء بارداً، وبأنّ القرار يعود للحريري، ومشدّداً على وجوب إجراء الانتخابات النيابية، تماماً كما ورد في أحد بنود الورقة الكويتية. وهو ما يعني أنّ هذه الانتخابات يجب ان تحصل وهي مطلب دولي وهنالك عواقب كبيرة في حال عرقلتها، ولا بدّ من ان يكون قد وصل الى مسامع العواصم الغربية عودة السعي الى إيجاد مخرج ما لتعديل قانون الانتخابات الحالي، من خلال جعل المغتربين يقترعون من ضمن دائرة خاصة وليس على مستوى مقاعد الدوائر الـ15.
وقيل انّ ضغوطاً تُمارس على رئيس المجلس النيابي نبيه بري من خلال رفع قانون معجّل بهذا التعديل، وهو ما سيعني حكماً تأجيل الانتخابات بسبب وجوب وضع مِهَل جديدة، كون فتح ابواب الترشيح حصل على أساس القانون الحالي. في اختصار سيعني ذلك حصول فوضى ورمي الانتخابات في مهبّ الريح. ومعه، فإنّ أي سعي لتمديد ولاية مجلس النواب ولو ليوم واحد، سيؤدي الى استقالات جماعية لنواب «المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية» وقد تكرّ السبحة.
في الواقع لا أحد ينكر مقدار الهلع الذي تعيشه الطبقة السياسية من نتائج الانتخابات. فهي تدرك انّ تلاعبها لم يعد ينطلي على السواد الاعظم من الناس. فها هو لبنان يحتل أدنى ترتيب الدول العربية حول مؤشر الفساد في أحدث تقرير دولي في هذا الشأن. وها هو البنك الدولي يعتبر وبعبارات صريحة، أنّ الازمة الاقتصادية التي يمرّ فيها لبنان، وتُعتبر الاسوأ منذ خمسينات القرن الماضي، سببها فساد متعمّد ومدبّر من الطبقة السياسية التي استولت على الدولة منذ فترة طويلة وعاشت من ريعها الاقتصادي.
لهذا تبدو الطبقة السياسية مرتعبة من نتائج الانتخابات، في وقت تصبح الساحة اللبنانية مفتوحة على كافة انواع المخاطر في مرحلة إعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة ومن ضمنها الساحة اللبنانية.