كتب خالد ابوشقرا- نداء الوطن : تمديد عقد الشراكة مع “ألفاريز آند مارسال” ثلاثة أشهر أفسح المجال أمام تطوير الخلافات وليس تسريع تقديم الملفات. المهلة المعطاة أضافت المزيد من عناصر التشويق إلى القضية المحورية. فاستعر الخلاف بين وزيرة العدل ولجنة المال والموازنة النيابية. وأعيد الحديث عن فوضى حسابات الدولة في مصرف لبنان. فيما الجناة يرفعون الأنخاب ويحتفلون بنجاح تفشيلهم التدقيق الجنائي.
إنفجار الخلاف على رفع السرية المصرفية عن حسابات الدولة، والتحجج به لتعطيل التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، ما هو في الحقيقة إلاّ “ذر للرماد في العيون”، الهدف منه التعمية عن مكمن الخلل الأساسي، وإلهاء الرأي العام بقضية لا تقدم ولا تؤخر فعلياً، وليست هي بيت القصيد. “فحسابات الدولة خاضعة حكماً لتدقيق جنائي خاص بها بموجب القرار 17 لمجلس الوزراء الذي جرى إقراره بتاريخ 12/5/2020. والتدبير رقم 2 أخضح مؤسسات الدولة وعقودها الموقعة مع المقاولين والملتزمين للتدقيق الجنائي”، يقول عضو لجنة كبار خبراء الأمم المتحدة لمعايير الشفافية والضرائب المحامي كريم ضاهر. و”سواء كان حساب وزارة المالية الشهير رقم 36 في مصرف لبنان، أو حسابات بقية المجالس والإدارات والمؤسسات والشركات العامة، فهي خاضعة لهذا التدقيق. ومن حق الدولة ومن ينوب عنها الإطلاع عليها عبر مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان تبعاً للمواد 42 و43 و44..
لماذا إذاً يجري التركيز على رفع السرية المصرفية عن حسابات الدولة تحديداً؟ ولماذا نشهد هذا التراشق وتبادل الاتهامات والصلاحيات بين “المركزي” ووزارتي المال والعدل ولجنة المال النيابية؟
الجواب بسيط، لأن “لا أحد يريد التدقيق الجنائي. ولا نية فعلية عند بعض الأفرقاء السياسيين وبعض النافذين في القطاع الخاص بوصوله إلى خواتيمه السعيدة”، بحسب ضاهر. “في الوقت الذي يعرب فيه الكل عن ايمانهم بالتدقيق الجنائي تعكس تصرفاتهم عكس ذلك. أما اقراره، فلم يكن إلا لأسباب شكلية تتعلق بارضاء المجتمع الدولي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحديداً، مع نيتهم المسبقة بتفخيخه بمختلف الوسائل القادرين عليها”. فالكل يعلم ان مهلة العشرة أسابيع المعطاة لشركة “الفاريز”، لا تكفي للتدقيق في حسابات القطاع العام ولا الخاص. إنما فقط للتدقيق في حسابات مصرف لبنان وحوكمته والعمليات التي تظهر أسباب الفجوة الهائلة التي أدت إلى تضييع 170 مليار دولار”، يقول ضاهر. ذلك ان المهلة المعطاة قصيرة جداً خصوصاً بالنسبة إلى شركة ليست ذات إختصاص ولا تتمتع بكفاءة الشركة التي رفضت سابقاً مثل “كرول”. ومع هذا فانه، على سبيل المثال، تطلّب التدقيق الجنائي من قبل شركة مملوكة من الدولة في الموزنبيق 6 أشهر، فماذا ستستطيع “ألفاريز” ان تفعل في 10 أسابيع؟
المركزي يدعّم خطوط دفاعه
لا يعود الفضل في صمود خط الدفاع الأول للمركزي أمام هجمة التدقيق الجنائي إلى وجود قانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف، إنما إلى عدم ترتيب صفوف “حملة” التدقيق، وتمكين دفاعاتها. حيث “استعجلت الحكومة توقيع العقد من دون أن تذلل عقبة السرية المصرفية، أو ان تضمن على الأقل حلاً سريعاً يمكّنها من تخطي هذه العقبة في حال واجهت الشركة. كأن تحضّر مشروع قانون معجل مكرر من مادة واحدة مع ضمان أكثرية نيابية لضمان إقرار القانون”، يقول ضاهر. “وعلى العكس من ذلك، فالحكومة لم تستفد من وجود دورة استثنائية مفتوحة لمجلس النواب يوم توقيع العقد مع “ألفاريز”. وقام رئيس الجمهورية برد مشروع قانون رفع السرية المصرفية إلى المجلس النيابي لقراءة ثانية”.
في هذا الوقت الضائع يضغط “المركزي” من خلال شبكة علاقاته المالية والقانونية والسياسية على أن يكون قانون رفع السرية المصرفية محصوراً بالمال العام. وفي هذا “فخ كبير جداً”، برأي ضاهر. حيث يُمنع التدقيق بأي مخالفة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية الواقعة تحت الحالات التي يلحظها قانون العقوبات 351، أي سوء استعمال السلطة والوظيفة أو الإختلاس أو الرشوة. أو تلك الملحوظة بقانون المعلومات المميزة 160/2011. وبامكان “المركزي” رفض إعطاء أي معلومات تتعلق بحسابات الغير واسمائهم حتى من دون الرجوع اليهم أو ترك الخيار لهم برفع السرية من عدمه. وبالتالي فان “عدم تفكيك قواعد الخط الدفاعي الثاني للمركزي من خلال قانون عام لرفع السرية المصرفية لن يوصل الى النتيجة المرجوة”، برأي ضاهر.
أما ثالث خطوط الدفاع لمصرف لبنان، فسيكون إمكانية او حقه بعدم استقبال فريق عمل شركة “ألفاريز” في مكاتبه وتسهيل وصلهم بنظام المعلوماتية، والتدقيق بالحوكمة والأمور اللوجستية، وذلك بناء على المادة 13 من قانون النقد والتسليف. حيث تنص هذه المادة على ان “المصرف” شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي. وهو يعتبر تاجراً في علاقاته مع الغير. ويجري عملياته وينظم حساباته وفقاً للقواعد التجارية والمصرفية وللعرف التجاري والمصرفي. ولا يخضع لقواعد الادارة وتسيير الاعمال وللرقابات التي تخضع لها مؤسسات القطاع العام، ولا سيما لاحكام المراسيم الاشتراعية رقم 114 و115 و117 و118 تاريخ 12 حزيران سنة 1959 ولا تطبق عليه احكام قانون التجارة المتعلقة بالتسجيل في سجل التجارة.
حلٌ يعرّي الجميع ويؤمّن الحقيقة
ما تقدم يظهر ان المركزي لديه من الدفاعات ما يكفي لرد كل الهجمات وتضييع الوقت قبل الوصول الى النتيجة المطلوبة. وهذا من دون أن نأخذ في الاعتبار “نجاح الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة ووقوفه العلني في صف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة”، بحسب ضاهر. “وبالتالي هناك حل واحد لا يسهّل التدقيق الجنائي فحسب، انما يعرّي كل اولئك المدافعين عنه من رأس الهرم إلى أسفله، ويُظهر موقفهم الحقيقي”. ويتمثل في استخدام رئيس الجمهورية الفقرة 10 من المادة 53 وتوجيه رسالة إلى مجلس النواب، يطلب فيها بمادة وحيدة الّا تحول السرية المصرفية دون اتمام التدقيق الجنائي مهما كانت الاسباب والحسابات. وان يصوت النواب على اقتراح القانون وفق ضميرهم وبأسرع وقت ممكن”. وبهذا يكون الرئيس قد قدم مشروع قانون معجل مكرر بمادة واحدة، وقطع الطريق أمام رئيس المجلس لرده على اللجان أو حتى التأخير في طلب عقد جلسة تصويت، لان في هذه الحالة يكون رئيس المجلس هو من يتخاذل. وفي الجلسة يجري التصويت على المقترح بالمناداة وعلنية، وتنقل الجلسة على وسائل الاعلام وفقاً لمبدأ حق الوصول إلى المعلومات. عندها يتظّهر موقف الجميع من التدقيق الجنائي. والأهم في هذا الطرح الذي قد يتأمن أيضاً باقتراح مجموعة من النواب مشروع القانون، هو سرعته وامكانية بدء التدقيق الفعلي بعد أسبوع من الآن. فهل يفعلها المسؤولون؟
الجواب برهن القادم من الأيام، وبالطريقة التي سيتعامل بها السياسيون مع رفع السرية المصرفية. فاذا حُصرت بالقطاع العام فستكون غير ذات جدوى ومضيعة للوقت. ولن يصل التدقيق الجنائي إلى الحقائق المطلوبة. فالمشكلة وإن كانت كبيرة في حسابات الدولة فهي اكبر في حسابات المركزي مع القطاع الخاص أي المصارف وعملائهم وهناك تكمن المخالفات والاخطاء القاتلة.