عماد مرمل – الجمورية
يبدو رئيس الجمهورية ميشال عون في الجزء الأخير من ولايته وكأنه قرر ان يتحرر تدريجاً من «اتيكيت» الرئاسة، وان يستعيد تباعاً أدبيات الرابية الأقرب الى طبعه وطبيعته.
يوحي عون أنه استدعى «الجنرال» الكامن في داخله الى الخدمة مجدداً، لزوم المواجهات التي يخوضها على جبهات عدة والمرشحة الى مزيد من التصاعد. وأم المعارك وأبوها هي التي اطلق شرارتها ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في إشارة الى ان الاشهر الأخيرة من عهده لن تكون لـ»تصريف الأعمال» بل لمحاولة إنجاز ما فاته خلال خمس سنوات وأربعة أشهر.
ولا يتوقف هجوم عون هنا، بل يشمل أيضا خصومه السياسيين وفي طليعتهم وليد جنبلاط وسمير جعجع، بعدما اختار ان يرد بعنف على انتقاداتهما الأخيرة له.. فماذا قال رئيس الجمهورية خلال نقاش مستفيض معه على امتداد نحو ساعتين في قصر بعبدا؟
نستفسر من عون عن محتوى الرد اللبناني على الورقة الخليجية، فيؤكد ان لبنان «تعاطى بإيجابية» معها، موضحا «انً هناك بنوداً وافقنا عليها وهناك بنود أخرى تنطوي على نقاط دقيقة اقترحنا ان تتم مناقشتها مع لجنة خليجية مشتركة».
ويشير الى ان الرد الأولي للوسيط الكويتي على الجواب اللبناني كان إيجابيا ومتفهما، «ونحن ننتظر حاليا رد السعودية والإمارات».
وينفي ان يكون قد اقترح على أمير الكويت إدارة حوار لبناني ـ لبناني، لافتا الى ان الدقيق هو أنه تمنى عليه في رسالة نقلها وزير الخارجية زيارة لبنان للترحيب به، وبطبيعة الحال يمكن آنذاك البحث في كل المواضيع التي تهم البلدين ومنها العلاقات مع الدول الخليجية.
غضب وغليان
ويُبدي عون تأثره حيال الوضع الاجتماعي الصعب الذي آل اليه كثير من اللبنانيين نتيجة «الإفقار المتعمد الذي تعرضوا له»، مؤكدا انه يعرف جيدا معاناة الفقراء في هذه الظروف القاسية «وانا الذي خرجت من بينهم أصلاً ولا تصدقوا انني منقطع عما يجري من حولي كما يروّج أصحاب حملات التشويه»، مضيفا: «انا منحاز الى جانب المواطنين المتعبين ولا أقبل بأن يتم تدفيعهم ثمن ما اقترفته المصارف وحاكمية مصرف لبنان. واذا وجدتني أبتسم قليلاً في بعض الأوقات فلا يخدعك الأمر، إذ اكون كالطير الذي يرقص مذبوحا من الألم. انها ضحكة من فئة «المبكي المضحك» والتي تخفي خلفها غضبا وغليانا».
تحذير لسلامة
على جبهة المصرف المركزي، يقول عون ان على حاكمه رياض سلامة أن يلبّي كل طلبات شركة التدقيق «الفاريس اند مارسال» وان أمامه مهلة لا تتجاوز هذا الأسبوع للتجاوب، لافتا الى ان كيله طفح من المماطلة والمناورة منذ أن قرر مجلس الوزراء التعاقد مع شركة تدقيق في حسابات مصرف لبنان في آذار 2020، «وسلامة منذ ذلك الحين يتملّص بذرائع مختلفة من طلبات الشركة، وكنت في كل مرة أتدخل لإزالة الذريعة تلو الأخرى». ويضيف: «على الجميع أن يعرف ان مهلة السماح انتهت، وان الوقت اصبح ثمينا جدا بالنسبة إلي، ولم يعد في استطاعتي ان أصبر وأتساهل إزاء الامعان في إضاعته وإهداره عن سابق تصور وتصميم. انا جاد في موقفي اكثر مما يتصور البعض وأعني ما أقوله، والبيان الذي صدر عن رئاسة الجمهورية قبل أيام هو إنذار».
وعندما يُسأل عون عما يمكن أن يفعله اذا لم يتجاوب سلامة معه، يجيب: «عندها يكون في موضع مخالفة قرار مجلس الوزراء، وهذا أمر يرتّب تبعات قانونية وسياسية».
ولكن انت مقيد سياسيا وليست لديك اكثرية الثلثين في مجلس الوزراء حتى تدفع نحو إقالة «الحاكم»؟
يصمت عون لبرهة ثم يجيب: «عندما نصل الى هذا الوضع فلكل حادث حديث».
ويلفت الى ان لسلامة مشكلات قضائية مع سبع دول أوروبية، نافياً ان يكون هناك توزيع ادوار بينه وبين القاضية غادة عون، وجازماً بأنه لا يضغط عليها ولا يتدخل في ملفاتها او ملفات قضاة آخرين، «والدليل انني عرفت في هذه اللحظة من المستشار الاعلامي رفيق شلالا انها اصدرت مذكرة إحضار في حق رياض سلامة».
لغز الدولار
ويتوقف عون عند ما يسميه «يويو» الدولار، متسائلا: «أليس مستغرباً هذا الصعود والهبوط السريعين في سعره؟ وهل لأحد أن يفسر كيف انه ارتفع ذات يوم أحد الى حدود 34 ألف ليرة ثم وصل في أحد آخر الى حدود الـ20 الفاً؟ ليس على علمي انه تم في الأسابيع الأخيرة تطوير الصناعة والزراعة وتفعيل السياحة والتجارة وان العملات الصعبة تدفقت الى لبنان فجأة، ولذلك لا يوجد سوى تفسير وحيد لهذا التلاعب بالدولار وهو ان هناك من يواصل سرقة الشعب وانا لا أعلم كيف أن البعض مقتنع بأن السارق يمكن ان يكون منقذاً».
يا للوقاحة
ويسحب عون من بين أوراقه فوق المكتب مشروعاً حول طريقة توزيع الخسائر، رُفع اليه من إحد المراجع الرسمية ليدرسه ويعطي رأيه فيه. يلوّح عون بالصفحة الأولى التي تحوي خانات ملونة توزعت عليها الجهات التي ستتحمل الخسائر، ثم يعلق بلهجة حادة: «ما هذه الوقاحة.. إنهم يلقون على المودعين الجزء الأكبر من الاعباء، فيما من أهدر أموال الناس يتحمّل الجزء الأصغر. كيف سنطلب من الناس القبول بمزيد من التذويب لودائعهم وحقوقهم بينما لا يوجد بعد في السجن ولو شخص واحد من اولئك الذين سطوا عليها وتسببوا في إفقار أصحابها، وليكن معلوما انني لن أقبل بأن يدفع المودعون الثمن الأكبر للحل كما دفعوا الثمن الأقسى للأزمة».
جنبلاط يحيّرني
ولكن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط اتهمك بأنك انت من أحرقت البلد وأوصلته الى الانهيار بسبب سياساتك، فإلى اي حد تقرّ بأن عهدك شريك في تفاقم معاناة الشعب؟
يرد عون مُستهجنا: «هل انا الذي وضعت يدي على المال العام؟ هل انا الذي كنت شريكا في السياسات الاقتصادية والمالية الملتوية المعتمدة من عام 1992 وحتى الأمس القريب؟ هل انا من يحمي مهندس الإفلاس والانهيار؟ هل انا من تورط في الفساد ام انني أحاربه عبر الاصرار على التدقيق الجنائي؟». ويتابع: «أصلاً تحتار مع اي وليد جنبلاط ينبغي أن تتكلم، وهو الذي يصح فيه القول: اذا كان معك انتظره ان يتركك واذا كان مع غيرك انتظره ان يعود إليك. الأكيد ان المزاجية لا تبني دولة».
إنجازات جعجع
امّا هجوم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع المتكرر على عون، فيرد عليه رئيس الجمهورية أيضا بالاسئلة الآتية: «هل انا آذيتُ احداً؟ هل انا بنيت قصراً؟ هل انا غدرت بحليف؟ هل انا احترفتُ التحريض؟».
ويضيف: «ليخبرنا سمير جعجع عن «إنجازاته». فلتكن لديه جرأة ان يجري جردة حساب ويخبرنا ماذا حقق للبلد وما هي المشاريع الايجابية التي نفذها؟ شغله الشاغل التحريض والدعوة الى التنحي. تصوّر انه كان قد التزم مرة بأن يمنح الرئيس سعد الحريري أصوات «القوات اللبنانية» خلال مشاورات التكليف، فنام الرجل رئيسا مكلفا ثم استفاق منسحبا بعدما خَذله جعجع وتراجع عن تأييده. هو الآن يظن انه سيستطيع وراثة القاعدة السنية، إنما لا اعتقد ان سنّة بيروت سيجارونه بعد الذي فعله مع زعيمهم، ولا سنّة طرابلس سيدعمونه بعد الذي فعله مع زعيمهم أيضاً قبل عقود». ويتابع: «الخصومة السياسية الشريفة مشروعة، ولكن لماذا خطاب الكراهية والشحن ضد الآخر؟».
متمسك بـ«التفاهم»
عشيّة ذكرى توقيعك وثيقة التفاهم مع الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في 6 شباط 2006.. هل يمكن الاستنتاج بأن مفعول التفاهم انتهى؟
يجيب عون جازما: «التفاهم مستمر ولا فراق بيننا وبين الحزب. نعم، يحصل احيانا برود او جمود كما جرى أخيرا نتيجة تباينات في مقاربة بعض الملفات الداخلية، وأحياناً استغرب بعض خياراته في ما يتعلق بقضايا إصلاح الدولة ولكن المطلوب ان نعالج الالتباسات ونطور التفاهم، لا ان نلغيه. وبالتالي، فإنّ الأمور لا تصل إلى درجة الافتراق. يكفي هذا التفاهم انه صمّام امان ضد الفتنة الداخلية والحرب الأهلية، وبفضله تجاوزنا بنجاح اكثر من اختبار صعب، وجبران باسيل وُضع على لائحة العقوبات لأنه رفض طلب واشنطن ان ينقلب على الحزب، وهو ارتضى العقوبات الأميركية على الانزلاق الى مستنقع النزاع الاهلي. وعليه، فإنّ التفاهم لا يزال ضرورة وطنية الا اذا كان المطلوب ان يكون البديل عنه نموذج التعبئة البغيضة وإهانة معتقدات الآخر وخصوصيته».
– وهل تخشى من ان تنتزع «القوات» الأكثرية المسيحية من «التيار الوطني الحر» في الانتخابات النيابية المقبلة؟
يشير عون الى «ان هناك حملة تضليل واسعة تحصل حالياً، وستشتد تباعاً للعب على عواطف الناس وأخذهم الى خيارات غير واقعية، ولكنني على ثقة تامة في أن قواعد التيار تعرف الحقيقة وتعرف كيف تختار».
مصير الانتخابات
وهل الانتخابات حاصلة حُكماً ام تخشى من حدثٍ يؤجلها، خصوصا ان هناك من يتهمكم بالسعي ضمناً الى تطييرها لأنّ نتائجها لن تكون في مصلحتكم؟
يؤكد عون «ان كل التدابير اللوجستية والتقنية التي تتطلبها الانتخابات صارت جاهزة او هي قيد الإتمام، وبالتالي نحن نتصرف على اساس ان نكون مستعدين لإجراء هذا الاستحقاق الديموقراطي في موعده، وانا كرئيس للجمهورية لا أقاربه من زاوية حسابات سياسية ومصلحية بل أتعامل معه كواجب وطني ودستوري، الا اذا استجد سبب قاهر، داخلي او خارجي، يفرض التأجيل. وهذا ما لا اتمناه».
الاستحقاق الرئاسي
وماذا عن الانتخابات الرئاسية المقبلة. الى اي درجة تتخوف من شغور محتمل في الموقع إذا تعذر التوافق على مرشح رئاسي؟
يوضح عون ان ما يعنيه بالدرجة الأولى هو انّ ولايته تنتهي في 31 تشرين الأول المقبل «وانا سأغادر القصر الجمهوري حتماً في هذا التاريخ، حتى لو لم يتم فورا انتخاب الرئيس الجديد. المهم ان تكون الحكومة موجودة لكي تملأ الفراغ، إن وقع، في انتظار الانتخاب. وعندما أغادر القصر سيكون من حقي طبعاً ان أطرح مقاربتي للرئيس المطلوب، الا اذا كان هناك من يريد أن ينتزع حقوقي السياسية».
وعندما يقال له ان البعض يفترض انّ اسمي رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون هما الأوفر حظاً للرئاسة، يعلّق عون مبتسما: «صَحتين على قلبن.. بس صدّقوني القصة مش أكلة»، وغداً من سيجلس مكاني على هذا الكرسي سيكتشف انني كنت مصيباً في رأيي. الا ان المفارقة هي ان الفراشة تدرك ان الضوء يحرقها ولكنها تظل تحوم حوله».
صلابة باسيل
وماذا عن فرص جبران باسيل؟
يقول عون: «ما تحمّله باسيل لا يتحمله الا أصحاب الشخصيات الصلبة. اذا «تفركش» أحدهم على الدرج او وقع خلاف بين شخصين، تُلقى المسؤولية فوراً على جبران. لم يتركوا شعارا مسيئا له على المستويين الشخصي والسياسي الّا واستخدموه ضده الا انه بقي ثابتا على قناعاته ووفياً لها، وهذا هو المهم بمعزل عن الموقع الذي يمكن أن يشغله».
المفتي والحريري
وماذا عن تداعيات تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي والنيابي؟
يشير عون الى انه يفصل بين خلافه السياسي المعروف مع الحريري وبين مقتضيات التوازن الوطني التي تحتّم عدم القبول بانكفاء مكوّن اساسي. ويضيف: «انطلاقاً من هذا المبدأ زرت مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان وشرحتُ له انه وعلى رغم انني كنت على خلاف مع الرئيس سعد الحريري الا انه من الضروري الآن ان نفكر وطنياً، وعليكم ان لا تخلوا الساحة، وإلا فإنّ السيبة الميثاقية التي تستند الى ركائز متوازنة سيختلّ توازنها».
شبه وحيد
وكيف تفسر انك على خصومة مع معظم القوى الداخلية بحيث تبدو في عزلة سياسية؟
يستعين عون بواقعة كفيلة، وفق رأيه، في شرح الاسباب الكامنة خلف كثرة خصومه، قائلاً: «في آخر إفطار رمضاني استضفته في القصر الجمهوري، كان المسؤولون الكبار حاضرون والرؤساء السابقون ورؤساء الطوائف والنواب والوزراء والاعلاميون، وألقيت يومها خطابا شددت فيه على انني سأحارب الفساد والفاسدين، فعلا التصفيق الحار الذي اهتزّت له القاعة، ولكن ما ان طرحت التدقيق الجنائي حتى اكتشفت انني شبه وحيد واختفى المصفقون. وانت عليك ان تستنتج العبرة من هذه المفارقة».
زيارة سوريا
وما احتمال ان تزور سوريا قبل نهاية عهدك؟
يوضح عون انه «مستعد لزيارة سوريا ولا مانع أمام حصولها اذا وجدت ان هناك موجباً لها».
العلاقة بميقاتي
ويعرب عن ارتياحه الى سلوك الحكومة، مشدداً على «انّ وزراءها أوادم»، وانّ علاقته مع الرئيس نجيب ميقاتي جيدة. ويؤكد انه ينطلق من الدستور في كل قراراته ومواقفه، «وأنا لا أعتدي على صلاحيات أحد وأريد من الآخرين ان يحترموا الصلاحيات التي أناطها الدستور برئيس الجمهورية ولا يعتدوا عليها». (ثم يأتي بالدستور ويقرأ المواد التي تتعلق بصلاحيات الرئيس بعدما يستبدل نظّارته بأخرى مخصصة للقراءة)