جوني منيّر – الجمهورية
عندما ركّزت إدارة جو بايدن أقدامها وباشرت رسم استراتيجيتها للسياسة الخارجية، كان واضحاً انّها تسعى الى إنهاء ارتباطها بالمشكلات المعقّدة للشرق الاوسط. فهي اعتبرت انّ الساحة الشرق اوسطية هي مقبرة للجهود الاميركية ومكاناً لاستنزاف قوتها وقدرتها، وانّ الاهتمام يجب ان ينّصب فقط وكأولوية، على إنجاز التفاهم النووي مع ايران، قبل الانتقال والتفرّغ لملف احتواء التمدّد الصيني في العالم. الّا انّ إدارة بايدن اكتشفت لاحقاً أنّ المنطقة تختزن أحداثاً هائلة، بقيت تطارد صنّاع السياسة الاميركية، وترفض فك ارتباطها بالاهتمام الاميركي.
السفير الاميركي السابق في اسرائيل مارتن أنديك الديموقراطي الهوى والخبير في تعقيدات الشرق الاوسط، علّق على انعكاسات أزمة اوكرانيا على الشرق الاوسط، معتبراً انّ ادارة بايدن استيقظت على حقيقة غير سارة في الشرق الاوسط، تمثلت في عدم استعداد حلفائها وشركائها في الشرق الاوسط الى اتخاذ موقف ضدّ روسيا. وأضاف انديك، انّ هذا ما يعكس مدى التغيير الحاصل في الشرق الاوسط، بسبب القرار الذي اتخذه الرئيس السابق باراك اوباما وتبنّاه من بعده دونالد ترامب وينفّذه الآن جو بايدن، في وضع الشرق الاوسط في أسفل قائمة اولويات السياسة الخارجية الاميركية.
ومع اقتراب موعد الانتخابات النصفية الاميركية، من الطبيعي ان تميل الإدارة الاميركية الى إنجاز الصفقات وتجنّب المخاطر. وهذا ما قد يكون يحصل في كواليس التفاهمات حول الشرق الاوسط. فمع اتضاح الصورة في اوكرانيا بأنّ الحرب ليست حتمية، وانّ ما يحصل هو أقرب الى لعبة ليّ الأذرع وتحسين المواقع والمواقف، تمهيداً لإنجاز صفقة سياسية، عاد الحديث الى قرب الإعلان عن التفاهم حول الملف النووي بين واشنطن وطهران.
لكن الأهم هي الترتيبات المتسارعة التي تجري في موازاة ذلك على مختلف ساحات الشرق الاوسط، ولبنان من ضمنها طبعاً.
ففي الخليج، سعي دؤوب لاستكمال بناء حلف اسرائيلي ـ خليجي في وجه الحلف الذي بنته ايران. ويُحكى انّ زيارات لمسؤولين خليجيين كبار ستحصل الى اسرائيل، وعلى رأس هؤلاء ولي عهد البحرين وولي عهد الامارات. في وقت يدور الحديث عن انّ السعودية أصبحت اكثر جهوزية للانضمام الرسمي والعلني لخطوة التطبيع مع اسرائيل.
وثمة كلام عن أنّ ذكرى «يوم التأسيس» في السعودية في 22 شباط ستشهد إجراءات تتضمن تعزيز دور ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان على مستوى السلطة. الخليج يتغيّر وهذا واضح، ومن المفترض ان يترافق ذلك مع صيغ جديدة في العالم العربي، تواكب النظام الاقليمي الجديد ولعقود عدة. والإعلان عن إنجاز الملف النووي الايراني سيشكّل صافرة الانطلاق لترتيب اوضاع الساحات المشتعلة، وهو ما يرفع مستوى «الشبهة» من أنّ المفاوضات بين واشنطن وايران لم تكن «نووية» صافية، بل قد تكون واكبتها مفاوضات أصعب وأكثر سرية، طاولت تفاهمات حول المنطقة. فالعمليات العسكرية التي شهدت تقلّبات دراماتيكية ومفاجئة في اليمن، هدأت فجأة، ليبدأ الحديث الجدّي حول تحريك ملف التسوية السياسية.
وفي سوريا مزيد من المؤشرات اللافتة، وكان آخرها تعزيز القوة الجوية الروسية ورفع مستوى التدريبات البحرية بذريعة مواجهة القطع البحرية الاميركية في البحر المتوسط. وهو ما يعني إمساكاً اكبر بالساحل السوري، فيما طالب الأكراد المحسوبون على الاميركيين، بمنح الدروز في جنوب سوريا إدارة ذاتية، كحلّ للاضطرابات المستمرة في الآونة الاخيرة.
والساحة اللبنانية لم تشذ بدورها عن التقلّبات المتسارعة الحاصلة في المنطقة. فليست مسألة سهلة ان يخرج الممثل السياسي للطائفة السنّية هو وحزبه من الحياة السياسية. فعدا عن انّها سابقة، فإنّ اكثر ما لفت هو هذا الصمت الدولي الذي رافق هذه الخطوة، وربما على قاعدة: السكوت علامة الرضى. وبعيداً من تبريرات الرئيس سعد الحريري، فإنّ الانطباع الغالب هو أنّه انصاع لضغط كبير، وإلّا فكيف يمكن تفسير اندفاعه قبل أشهر في عمق اللعبة مع سعيه لتشكيل حكومة؟ فالظروف والتوازنات اللبنانية لم تتبدّل خلال بضعة اشهر لكي يُقال لاحقاً انّ خطوة الانسحاب من العمل السياسي هي بسبب المخاطر الموجودة. لكن الإشارة المثيرة للقلق، والتي لا بدّ من قراءتها جيداً، هي أنّ الجهة الاقليمية الكبرى التي دفعت الحريري للانسحاب لم تسعَ ولم تدرس حتى طريقة ملء الفراغ السياسي من بعده، فيما البلاد على عتبة الاستحقاق النيابي. وثمة علامات استفهام واستغراب كثيرة لا بدّ من طرحها هنا.
وفي التوقيت نفسه، تفاهم يحمل تنازلات كانت محرّمة سابقاً يجري التمديد له حول ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يهمّ الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل. ولم تصدر أي تعليقات اقليمية او محلية وازنة حيال ذلك، وهنا ايضاً يصح القول إنّ السكوت علامة الرضى، وانّ السكوت آتٍ من تفاهمات لا بدّ انّها واكبت مفاوضات النووي.
حتى الانتخابات النيابية، والتي أثارت كثيراً من القلق والشحن الداخلي والشغب السياسي، اصبحت فجأة بلا صخب. وهو ما يعيدنا الى الأجواء السرية التي رافقت انتخابات العام 2009 في عزّ الانقسام والشحن بين فريقي 8 و14 آذار.
يومها تمّ نزع «سموم» الاحتقان من خلال تفاهم سرّي جرى في أروقة الدوحة، وقضى بأن يتولّى الثلث الحكومي المعطّل من يخسر الغالبية النيابية. وهذا ما يدفع الى التساؤل عمّا اذا كان قد تمّ ترتيب سريع في الأروقة الإقليمية؟
في الأمس تحدث الامين العام لـ«حزب الله» «هازئاً» من رافعي شعار «الهيلاهو» ومطمئناً من نتائج الانتخابات النيابية. وفي الوقت نفسه وبخلاف الترويج الإعلامي، بدت مجموعات التغييريين من دون أي دعم مالي. صحيح انّ اخطاء فظيعة ترتكبها بعض المجموعات المعارضة، من خلال الشغب على بعضها، وصولاً الى التحالف مع نواب حاليين رفضوا الاستقالة ولديهم سجل حافل في الفساد، وتوخي أي خطاب سياسي يبقيهم في السلطة، لكن هنالك مجموعات اخرى حافظت على «نقاوة» خياراتها، ورغم ذلك تتعرّض للحصار المالي منذ اكثر من شهر ونصف الشهر. وهذا ما يدفع الى التساؤل عن الخلفية الحقيقية التي تقف وراء ذلك. فثمة شعور بدأ يراود البعض بأنّ الصورة الجديدة الجاري رسمها للبنان، انسجاماً مع الخريطة السياسية الجديدة في المنطقة، ستشهد سقوط كثير من الضحايا السياسيين. أضف الى ذلك، انّ من يعتقد انّه يقف على الضفة الرابحة، سيجد نفسه خارج اللعبة ايضاً من خلال رزمة عقوبات قاسية قد لا تتأخّر. قد تكون المرحلة المقبلة تتطلب وجوهاً جديدة يميناً ويساراً، وغياب كثير من الصور عن الشاشات، ودوراً جديداً لـ«حزب الله» بالزي السياسي لا العسكري، تماماً كما شكّلت انتخابات العام 1992 بداية لمرحلة طويلة حملت العنوان السوري يومها، فيما المرحلة المقبلة ستحمل عنواناً دولياً بالتفاهم مع «حزب الله».
والمفارقة انّ في العام 1992 بدأت المرحلة على أنقاض مشاركة مسيحية ضعيفة لا بل ضئيلة في الانتخابات النيابية. والسؤال اليوم هو عن نسبة المشاركة السنّية. والأهم، انّ الانتخابات الرئاسية جارٍ رسمها في الكواليس، الى جانب تحضير دفتر شروط لتفاهمات واسعة ستكون صورة لبنان للعقود المقبلة.