جوني منيّر – الجمهورية
عندما زار وزير خارجية الفاتيكان بول ريتشارد غالاغير لبنان في بداية شهر شباط الماضي، سمع من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون خلال لقائه به في قصر بعبدا، أنّه يود زيارة الفاتيكان للقاء البابا فرنسيس. وبعد حوالى الاسبوع على انتهاء زيارته للبنان، باشر غالاغير الترتيبات المطلوبة من خلال السفارة اللبنانية في الفاتيكان، لتأمين حصول هذه الزيارة.
طبعاً في الأساس للبنان موقع متقدّم وحيز لدى الكرسي الرسولي. فهو البلد العربي الوحيد الذي يحظى فيه المسيحيون بموقع سياسي فاعل، وحيث انّ الرئيس اللبناني هو الرئيس العربي الوحيد الذي ينتمي الى الطائفة المسيحية. لكن الاهتمام الفاتيكاني بلبنان تضاعف مرات عدة في المرحلة الاخيرة، نتيجة المخاطر الكبيرة التي تهدّد وجود الدولة اللبنانية والمشاريع المطروحة للمنطقة، وباتت تُعرف بإعادة رسم الخريطة السياسية في الشرق الاوسط. وهذا ما دفع بالفاتيكان الى وضع لبنان بنداً متقدّماً في حركته الدولية.
الكواليس الديبلوماسية تضج بالمعلومات حول إصرار البابا فرنسيس على طرح الملف اللبناني خلال لقاءاته مع زعماء الدول المؤثرة، وقيل انّه نجح في انتزاع وعد من الرئيس الاميركي جو بايدن خلال زيارته للفاتيكان، بأن لا يدفع لبنان ثمن التسويات والترتيبات الجاري وضعها للشرق الاوسط. الفاتيكان القلق على مصير مسيحيي الشرق وخطر هجرتهم النهائي، خصوصاً بعد الأحداث التي شهدها العراق والحرب التي عصفت بسوريا، يدرك انّ المخاطر التي تتهدّد ما تبقّى من الوجود المسيحي في لبنان ليست ناجمة فقط عن التحولات الهائلة التي يعيشها الشرق الاوسط بسبب النزاع بين الدول وتضارب مصالحها، بل ايضاً بسبب سوء السلوك السياسي الحاصل على المستوى الداخلي اللبناني. ألم يندد البابا فرنسيس في ثلاث مناسبات مختلفة بالذين يضعون الأولوية لمصالحهم الخاصة على حساب المصلحة العامة؟
اخيراً عُقد مؤتمر في دمشق خُصّص لمساعدة المسيحيين على البقاء في سوريا، وشارك فيه الفاتيكان من خلال المجمع الشرقي، إضافة الى منظمات كنسية اجتماعية مثل كاريتاس.
ولكن ثمة جهوداً في لبنان أكبر لا بدّ من بذلها، ولها علاقة بالجوانب السياسية وليس فقط المساعدة الاجتماعية. وخلال المرحلة الماضية اعلن البابا فرنسيس اكثر من مرة عن نيته زيارة لبنان، ولكن من دون تحديد موعد.
الواضح انّ الفاتيكان يريد اكتمال الظروف لكي يقرّر موعد الزيارة. فالزيارة الآن ستعني الاعتراف بالوضع القائم ومن دون إعطاء الدفع المطلوب. أما حصول الزيارة مع انطلاق عهد جديد في لبنان، فسيكون لها أثر معنوي مهم، خصوصاً انّ الكلام يزداد في الأروقة الديبلوماسية عن فراغ رئاسي ينتظر لبنان، وسيحاول البعض ملؤه بنزاع قاسٍ بين القوى الاقليمية، في سعيها لإدخال تعديلات دستورية، في موازاة إقرار دستور جديد في سوريا. وهو ما يعني انّ الفاتيكان الذي يراقب ما يحصل، يريد ان تحصل الزيارة مع انطلاق مرحلة جديدة في لبنان وليس ابداً مع نهاية مرحلة حيث فوضى النزاعات تسود الساحة.
لذلك، هنالك من يفسّر الزيارة التي قام بها الرئيس ميشال عون الى الفاتيكان بمثابة إشارة بديلة او جائزة ترضية لعدم حصول زيارة البابا للبنان في عهد عون.
الوفد اللبناني الذي رافق رئيس الجمهورية في زيارته للفاتيكان سمع في اجتماعات العمل المشتركة تركيزاً على ملف النازحين السوريين في لبنان. ولكن، الوفد لمس أنّ معالجة هذا الملف معقّدة ولها جوانب كثيرة تبدأ في سوريا ولا تنتهي في الولايات المتحدة الاميركية والنزاعات القائمة في الشرق الاوسط ولبنان. ذلك انّ الموقف الاميركي لا يزال رافضاً إعادة النازحين السوريين الآن الى سوريا، وهو ما جعل البعض يستنتج وكأنّ المطلوب توظيف هذا الحضور على الساحة اللبنانية في إطار التوازن او ربما الضغط على «حزب الله»، خصوصاً وانّ هنالك عشرات الآلاف من النازحين كانوا قد أتمّوا خدمتهم العسكرية الإلزامية واصبحوا اقرب لجيش من الاحتياط قابل للاستخدام عند منعطفات أساسية.
كذلك في الاجتماع المشترك اللبناني ـ الفاتيكاني تكرار لضرورة حصول الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية. وانّ أي عرقلة لذلك بمثابة الخطأ الفادح، وبالتالي فإنّ هذه الانتخابات يجب ان تحصل في موعدها وبنحو شفاف ونزيه. وقد تكون الرسالة الأهم لزيارة الفاتيكان هي إعادة تصويب الاهتمام الفاتيكاني وبالتالي الدولي في اتجاه لبنان، بعد ان ادّت الحرب المندلعة في اوكرانيا الى الاستئثار بكل الاهتمامات الاوروبية والدولية.
قبل ذلك، كان وزير الخارجية الفاتيكاني أكثر صراحة خلال لقاء مغلق له لدى زيارته لبنان الشهر الماضي. غالاغير كشف في هذه الجلسة عن تكليف الفاتيكان لمندوبه في الامم المتحدة السفير المونسنيور كاتشا بالتواصل والتنسيق مع المندوب الفرنسي الدائم، إضافة الى سفراء دول اخرى، لإيجاد السبل المطلوبة لتحييد لبنان عن النزاعات.
وفي المناسبة، فإنّ كاتشيا كان سفيراً في لبنان قبل انتقاله الى الامم المتحدة. ووفق غالاغير، فإنّ توصيف حياد لبنان قد لا يكون مناسباً او علمياً وواقعياً بسبب وضعه مع اسرائيل. فلو كانت هنالك اتفاقية سلام لكان عنوان الحياد مناسباً، لكن الوضع مختلف وهو ما يستوجب التركيز على تحييد لبنان لا حياده.
وبخلاف ما راج أخيراً حول لقاء وزير خارجية الفاتيكان مع موفد لـ»حزب الله»، او حتى ما قيل حول الدفع في اتجاه علاقة مميزة معه، فإنّ الاوساط المطلعة تنفي كل ذلك، وتضعه في إطار الإثارة الاعلامية بهدف الاستثمار الانتخابي.
في الواقع، شجّع غالاغير على الحفاظ على تواصل دائم بين جميع المكونات اللبنانية بما فيها المكون الشيعي. وهو في الوقت نفسه حذّر من إثارة توترات او مواجهات بين المكونات اللبنانية، ستؤدي الى الإساءة اكثر الى الأزمات والكوارث التي يعيشها لبنان. صحيح انّ علاقة الفاتيكان بإيران شهدت بعض التراجع خلال الصيف الماضي بسبب تمنّع طهران عن منح «سمة دخول» لأحد رجال الدين العاملين في الفاتيكان، الّا أنّ هذا التراجع في العلاقة بقي في الإطار الإداري ولم يُترجم على المستوى السياسي. ويومها الحّ وزير خارجية الفاتيكان على حتمية حصول الانتخابات النيابية في موعدها ومن بعدها الانتخابات الرئاسية. فهذه دينامية يجب ان تستمر، ومن الخطأ الفادح ضربها اياً تكن الاسباب. ومن كلام المسؤول الفاتيكاني بدا وجود شكوك حيال نيات بعض الاطراف، لكنه اراد ان يعكس القرار الدولي الحازم في اتجاه المحافظة على مبدأ تداول السلطة والتناوب، من خلال حصول الاستحقاقات المختلفة، خصوصاً انّ ضربها سيعني دفع لبنان إلى مخاطر غير حميدة.
يومها كان غالاغير قد ضمّن برنامج زيارته موعداً مع قائد الجيش العماد جوزف عون.
في السابق لم يكن مألوفاً إدراج اليرزة كمحطة للوفود الرسمية على هذا المستوى. الواضح انّ وزير خارجية الفاتيكان اراد الإشارة الى دور الجيش اللبناني كأحد الركائز الأساسية للبنان ولضمان مستقبله واستعادة حيويته، وفي الوقت نفسه أراد تخصيص قائد الجيش بلفتته.
تبقى الاشارة الى اقتناع موجود لدى غالاغير بضرورة السعي لحماية النظام التعليمي في لبنان. وفي اعتقاده انّ احد الأسباب الرئيسية لهجرة العائلات اللبنانية، انما يعود بسبب القلق حيال النظام التربوي الذي كان يمتاز به لبنان بجدارة، والذي تلقّى ضربات قاسية بسبب الانهيار الحاصل.
ولذلك، يتواصل الفاتيكان مع الولايات المتحدة الاميركية وحتى كندا إضافة الى فرنسا، لإيجاد خطط عملية لدعم القطاع التعليمي في لبنان.
في اختصار، الفاتيكان قلق لكنه لن يترك لبنان. لذلك هو أوعز الى الاكليروس المسيحي ترجمة التزامه بالمسيحيين عبر القيام بأدوار اكثر فعالية وقرباً من الناس، لمساعدتهم في الصمود والبقاء في ارضهم. إلّا أنّ ما يتردّد من حين الى آخر حول تدابير سيتخذها، تبقى مجرد مبالغات لبنانية كما هو حاصل في مجالات اخرى.