كتبت صحيفة ” الديار ” تقول : لا يُخفى على أحد أن الحرب الروسية – الأوكرانية أظهرت إلى العلن خطر التركيز في الإستيراد خصوصًا في مجال الطاقة في دول أنظمتها جاهزة لإستخدام القوة العسكرية في حل المشاكل (سواء كان ذلك عن وجه حق أو عن غير وجه حق). التعلّق الكبير للدول الأوروبية (خصوصًا ألمانيا) بالغاز الروسي، وغياب الخيارات الأخرى أمام إستبدال هذا الغاز، سمح للكرملين بأخذ قرارات موجعة على هذا الصعيد أولها حجب ثلث صادرات روسيا من الغاز الطبيعي عن أوروبا في وقت تتزايد فيه المواجهات العسكرية في الداخل الأوكراني. وهو ما خفّض تخزين الغاز في أوروبا إلى مستويات تاريخية ورفع من الأسعار بشكل غير مسبوق.
الأوروبيون رهينة
الروس الذين يُحاولون الضغط في الملف الأوكراني، وردًا على العقوبات التي فرضتها كلٌ من الولايات المُتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي على روسيا، يُحاولون الضغط من اليد الموجعة أي من باب الغاز الروسي إلى الأسواق الأوروبية. الجدير ذكره أن كل من بلغاريا، وإستونيا، وفنلندا، ولاتفيا، والسويد تتعلّق بنسبة 100% بالغاز الروسي في إستهلاكها للغاز الطبيعي؛ وتشيكوسلوفاكيا بنسبة 80.5%، وسلوفاكيا بنسبة 63.3%، وسلوفينيا 57.4%، واليونان 54.8%، وبولندا 54.2%، والنمسا 52.2%، وهنغاريا 49.5%، وبلجيكا 43.2%، وألمانيا 39.9%، وكرواتيا 37.1%، واللوكسمبورغ 27.9%، ورومانيا 24.2%، وإيطاليا 17.2%، وفرنسا 17.2%، وهولندا 5.2%.
عمليًا تُعتبر ألمانيا المُستورد الأول على مُستوى العالم، للغاز الطبيعي الروسي تليها تركيا، وإيطاليا، وبيلاروسيا، وفرنسا، والصين… ونظرًا إلى وزن ألمانيا الإقتصادي، 4 تريليون دولار أميركي (الرابعة عالميًا بعد الولايات المُتحدة الأميركية 20.5، والصين 13.4، واليابان 4.97)، فإن تأثير حظر الغاز الروسي على ألمانيا قد يكون موجعًا بالنظرة الأولى.
ألمانيا والغاز الروسي
في دراسة نشرها عددٌ من الباحثين (Bachmann et al. 2022)، إنكشاف ألمانيا على قطاع الطاقة الروسي من ناحية الإستهلاك الأولي للطاقة يتوزّع على الشكل التالي: النفط 34%، الغاز 55%، الفحم 26% مع معدّل 30% من إجمالي الإستهلاك الأولي للطاقة. وبالتالي قام الباحثون بوضع فرضيات على قطع الغاز الروسي عن ألمانيا لمعرفة الكلفة على الإقتصاد الألماني وإستخدموا نماذج إقتصادية (Baqaee-Farhi model, and ad-hoc model) ليتوصّلوا إلى أن نسبة هذه الكلفة إلى الناتج المحلّي الإجمالي تتراوح بين 0.5 و3% في أقصى الحالات، أي ما يوازي 80 إلى 1000 يورو خسائر على كل مواطن ألماني.
وبالتالي، فإن الإستغناء عن الطاقة الروسية بكل مكوناتها مُمكن، لكنه يفرض عددًا من الإجراءات: إستبدال مصادر الطاقة، والبحث عن مصادر أخرى للتوريد، وخفض الإستهلاك، وخفض مدة التأقلم، والقيام بإجراءات إستباقية، وقبول فترة من الأسعار المرتفعة، وزيادة فعالية البنى التحتية الحرارية، ومُساعدة العائلات الفقيرة.
في المُقابل، فإن فرض العقوبات بالكامل على قطاع النفط والغاز الروسي، سيحرم روسيا من مداخيل سنوية لا تقلّ عن 200 مليار دولار أميركي على إجمالي 490 مليار دولار أميركي مجموع الصادرات الروسية في العام 2021 منها 240 مليار دولار لقطاعي الغاز والنفط. وهو ما قد يُشكّل مُشكلة كبيرة لروسيا على المديين القصير والمتوسّط.
تطويق روسيا إقتصاديًا
لكن هذا الأمر لا يعني تطويق روسيا إقتصاديًا بهذه السهولة، حيث يبقى هناك مادتين أساسيتين لهما تداعيات كارثية على الإقتصاد العالمي هما النفط والمواد الغذائية. فروسيا التي تُعتبر من المصدرين الأساسيين في قطاع النفط، ستحجب عن السوق العالمي ما يوازي الـ 4.5 مليون برميل في اليوم وهو ما يعني إرتفاعا في سعر برميل النفط إلى مستويات تتخطى الـ 200 إلى 250 دولارًا أميركيًا مع إحتمال إرتفاع السعر أكثر من ذلك نتيجة المضاربة. وبالتالي فإن الإعتماد الأساسي يبقى على الدول الخليجية الوحيدة القادرة على تغطية هذا النقص نظرًا إلى أنها الوحيدة من بين دول الأوبك التي استثمرت وتستمر بالإستثمار في منشآتها النفطية. إلا أن العائق أمام هذا الأمر هو العلاقات الأميركية – الخليجية التي تمر في مرحلة صعبة نتيجة المواقف الأميركية في الملف الإيراني والملف الحوثي. وبالتالي فإن أي رغبة أميركية بتطويق روسيا على صعيد النفط مقرونة حكمًا بتحسين العلاقات الأميركية مع الدول الخليجية.
تبقى النقطة الثانية الأساسية إنسانيًا وأخلاقيًا، وهي مُشكلة المواد الغذائية الأولية. فروسيا وأوكرانيا تحتلان المراتب الأولى عالميًا من ناحية تصدير الحبوب والزيوت خصوصًا إلى الدول الفقيرة. وبالتالي فإن أي حظر من قبل الولايات المُتحدة الأميركية أو قرار عدم تصدير من قبل روسيا سيكون كارثيًا على الصعيد الإنساني نظرًا إلى التعلّق الهائل لبعض الدول بالصادرات الغذائية الروسية والأوكرانية (على مقال لبنان، واليمن، وسوريا، ومصر..).
الحل لهذه الأزمة لا يُمكن أن يكون إلا من باب البرنامج الغذائي التابع للأمم المُتحدة ومُنظمة الفاو. عمليًا، التنسيق وحجز حصص للدول الفقيرة هما عنصران جوهريان نظرًا إلى أن القصر في المعروض سيرفع من الأسعار وهو ما لا قدرة للدول الفقيرة على مواجهته.
ثمن مُرتفع لبنانياً
من ناحية لبنان القابع تحت أزماته المُتتالية في ظل إنقسام سياسي مُرعب، فهو يُعتبر من أكثر المُتضررين عالميًا ومن المُرجّح أن يكون في المراتب العالمية الأولى على هذا الصعيد. إرتفاع أسعار النفط العالمية، رفعت من أسعار المحروقات ومن أسعار السلع والمواد الأولية سواء صناعيًا أو زراعيًا، وهو ما ينعكس تلقائيًا على المواطن اللبناني الذي يواجه نقصًا حادًا في دولار الإستيراد معطوفًا على إحتكار موصوف وفساد مستشرٍ.
الدولار في السوق السوداء عاد إلى الظهور مع تزايد الطلب عليه نتيجة إرتفاع الأسعار عالميًا ومع التطويق القضائي للقطاع المصرفي. وبالتالي فإن الإنعكاس على أسعار السلع والبضائع الأخرى يكون فوريا في سوق “فلتان” من الرقابة وسوق لا يُمكن ضبطه من باب أخذ الناس رهينة على مثال ما يحصل على محطات الوقود.
أزمة المحروقات المُستجدة في اليومين الأخيرين مردّها ليس النقص في المحروقات، بل نتيجة رغبة من قبل قطاع المحروقات في لبنان بدولرة كاملة للقطاع على مثال ما حصل في المازوت بالإضافة إلى تحرير السعر وعدم تحديده من قبل وزارة الطاقة والمياه. والأصعب في الأمر أن هذا القطاع لا يُريد التعامل إلا بالكاش وهو ما يُعقدّ حياة المواطن التي هي أصلًا صعبة نتيجة تآكل قدرته الشرائية.
لكن الأخطر يبقى من دون أدنى شكّ الأزمة الثلاثية الأبعاد التي دخل فيها لبنان ومُرشّحة بقوة إلى التعاظم، عنيت بذلك مُشكلة الكهرباء، مُشكلة المواد الغذائية، ومُشكلة دولار الإستيراد. إذ من المتوقع أن يسوء وضع التغذية الكهرباء الآتية من مؤسسة كهرباء لبنان بشكل دراماتيكي نتيجة نقص الفيول بالتوازي مع إرتفاع أسعار المازوت الذي سيرفع حكمًا من قيمة فاتورة المولدات الخاصة على المواطن وحتى لن تكون هذه المولدات قادرة بدورها على الإستمرار على نفس وتيرة التغذية نظرًا إلى حاجتها إلى الإستثمار وهو ما لا يحصل حاليًا.
أمّا غذائيًا وعلى الرغم من كل التصريحات بتأمين القمح والحبوب وغيرها من المواد التي تأثرت بالأزمة الروسية – الأوكرانية، فلا شيء عمليًا تمّ التوصّل إليه بإستثناء بعض المساعدات الدولية على مثال الإعلان عن المساعدة التركية (500 طن). وبالتالي فإن النقص سينعكس في الأسواق تدريجيًا على شكل إرتفاع في الأسعار وهو ما سيحصل على أبواب الشهر الفضيل من دون أي قدرة للدولة اللبنانية على مُساعدة شعبها وتبقى الأنظار مُسلّطة على المساعدات الخارجية ومساعدات القوى السياسية على أبواب الإنتخابات النيابية.
أما على صعيد الإستيراد عامة، فإن المُشكلة تتمحور بنقص في دولار الإستيراد والذي يُترّجم تلقائيًا بظاهرة من إثنتين: إمّا إرتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء أو نقص كبير في السيولة بالليرة اللبنانية في حال كان هناك إستمرار بتطبيق تعميم 161.
هذه المشاكل الثلاث والتي تؤثر بشكل كبير على حياة المواطن وقد تؤدّي إلى التأثير على مجرى الإنتخابات النيابية، لا تأخذ حيزًا كافيًا في القرارات الحكومية، وغطّت عليها الملاحقات القضائية في القطاع المصرفي وحجبت الرؤية عن الكارثة المُقدمين عليها. وللذكر، فإن دولة مصر قامت بطلب مساعدة صندوق النقد الدولي لتجاوز هذه المرحلة الصعبة بالنسبة إليها كما قامت بتخفيض سعر صرف عملتها مقابل الدولار الأميركي في حين أننا في لبنان عاجزون عن إنجاز إتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي!
قانون الكابيتال كونترول
على صعيد الكابيتال كونترول، يلتئم المجلس النيابي غدا الثلاثاء لدارسة مشروع قانون الكابيتال كونترول بعدما تأكد إستحالة موافقة صندوق النقد على أي خطة للتعافي من دون اقرار هذا القانون الاصلاحي. ومع توقّعات ببروز خلافات واضحة بشأن اللجنة المرجعية التي يقترحها المشروع وتتعلّق بمبدأ المُحاصصة المعطوفة على خلفيات سياسية وطائفية، يسود تفاؤل حذر من ناحية إقرار هذا المشروع الذي سيكون بمثابة مبادرة إيجابية من قبل الدولة اللبنانية تجاه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي خصوصًا أن بعثة صندوق النقد الدولي تصل إلى بيروت خلال الأسبوع المقبل، بهدف استكمال المفاوضات بشأن ملفات محورية مع إلتزام الحكومة اللبنانية بإتمام الخطوات القانونية والإجرائية التي من شأنها تسريع طرح الخطة الحكومية للإنقاذ والتعافي. ويُعتقد أن إجتماع اللجان المُشتركة اليوم لإقرار هذا المشروع ورفعه إلى الهيئة العامة، يهدف قبل كل شيء إلى توحيد المواقف بين القوى السياسية وخصوصًا موضوع اللجنة المرجعية.
لا حلول في الآفق
في الواقع، كل المؤشرات المتوافرة سواء سياسيًا أو إقتصاديًا أو ماليًا أو نقديًا أو قضائيًا، تُشير إلى أن لا حلول في الآفق. ولعل المؤشرات السياسية هي الأكثر تعبيرًا حيث أن الإنتخابات النيابية وإن استطاعت التغيير قليلًا في المشهد النيابي إلا أنها لن تُغيّر في الجوهر خصوصًا أن توازن القوى، بحسب خبراء الإحصاءات الإنتخابية، باقية على ما هي عليه! وبالتالي فإن الصراعات السياسية والتي تنسحب حكمًا على الإقتصاد والمالية العامة والنقد والقضاء باقية على ما هي عليه. وهذا يعني أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإن كانت التصريحات الإيجابية تُشير إلى أنها على السكة الصحيحة، إلا أن الواقع اللبناني يفرض واقعية أخرى وهي أن هناك إنقساما عاموديا بين القوى السياسية في لبنان ينعكس حكمًا في الإقتصاد والمال والنقد والقضاء ويمنع الإصلاحات المطلوبة.
النظرة التشاؤمية هذه سببها كان وسيبقى الإنقسام السياسي الكبير وبالتالي يُمكن الجزم أنه إذا لم تُنتج الإنتخابات النيابية أكثرية نيابية ذات رؤية إقتصادية مُوحدّة، فإن لبنان الذي نعرفه سيُكمل مسيرة التفكك التي بدأها منذ عامين ونصف!