نبيل مملوك
كثيرون هم الروائيّون الذين اتّجهوا إلى إسقاط تجاربهم وذواتهم بوضوح في عمق نصوصهم الروائيَّة، فتجلّى ذلك عندهم من خلال احتلال الشخصيَّة الأساس المساحة الكبرى من البوح والتعبير لتشغل بال المتلقي وماكينته التحليليَّة. وهذا ما لم يفعله عبد الحليم حمّود في روايته «وهم الأنا» الصّادرة حديثاً عن «دار رواة» حيث توزّعت الذات الجماعيّة على الشخصيات الأربع الجالسة إلى مائدة السرد. اعتمد حمّود تعدّد الأصوات الروائية – وهي التقنية الأصعب – ليعرّفنا إلى هيلدا وناي ورائد والسجين وسما وشمس. شخصيات أرادت الحرية التي سخر منها إميل سيوران واعتبرها «تشبيه الأصحاء». مع هيلدا، كان البوح صاخباً.
جسد ينطق بالنبرة المباشرة. الألم والشهوة والغريزة عبّرت عنها هيلدا من دون مبالاة. أي أننا أمام إسقاط صريح لخطاب اللاوعي الذي تجلّى بوضوح حين وصفت هيلدا غرفتها القذرة كما اسمها، والسم الذي في داخلها.. غرفة اللذة والمضاجعة والانحراف عن المسار الجنسي الطبيعي. وقد ترك الكاتب مساحة ملائكيَّة لهيلدا حين كتب لها أن تبوح بمعاناتها في بيت الدعارة مع أمها «أم عساف» التي انتزعت الأمومة وأودعت رغبة ادّخار المال بدءاً من الجسد عوضاً عنها. وبهذا يكون الكاتب قد استخدم شخصية هيلدا ليعطي مثالاً واضحاً عن قول إميل سيوران «حياة المرء كفارة مولده».
أمّا ناي، فهي صحافيَّة مبهرة في جرأتها وقد هذبتها بشكل واعٍ عبر مجلة الرغبة التي جمعتها بشابٍ وسيم صاحب حضور وجرأة صارخة وضعتها أمام امتحان «الرغبة» وهي التي تكبره بعقدين من الزمن. وقد خلق حمود لهذه الشخصيَّة مساحة شيطانيَّة سمحت للمتلقي بالاطلاع على دواخل ناي المضطربة الراغبة في التحرّر من إطارها التهذيبي ومن النفق المجتمعي الصارم بعاداته وتقاليده. ناي التي تحارب بفعل موادها الصحافيَّة الجريئة أضافت إلى جبهتها المهنيَّة جبهة عاطفيَّة كانت هيلدا تلومها تارة على إدارتها وتباركها طوراً.
استفاد حمود من تقنيَّة الأصوات الروائيَّة المتعدّدة تاركاً مساحة أمام كل شخصيَّة للتعبير عن حالها من دون مزاحمة أو ازدحام في ما بينها، متّجهاً بسرده السريع نحو استخدام الشعريّة المدعومة بالتكثيف والوصف الموجز المليء بالحقائق والتصريحات وعناوين الأمكنة التي تعود إلى حقبة الثمانينات والزمن الراهن ليقطع بذلك الطريق أمام كل قارئ يبحث عن حجة انعدام الواقعيَّة في النص. لكن السؤال يكمن في النهاية المفخخة بالدهشة.
عناوين أمكنة تعود إلى حقبة الثمانينات وإلى الزمن الراهن
هل الشخصيَّات كتب لها الحرية؟ أم أنَّ الكاتب كتبها تحت هذا القيد؟ ألم يكن من الأفضل تجنّب إظهار رواية هيلدا الإبليسيَّة، الرواية المتصلة المنفصلة عن النصّ كما يسمّيها الكاتب، فتتاح بذلك فرصة أكبر أمام المتلقي لرسم النهاية التي يراها ويفتح نافذة فكريَّة خاصَّة به بعيدة أو قريبة عن خطابات الشخصيَّات المنظمة زمنياً؟
لا شكّ في أنَّ عبد الحليم حمود بهذا الوهم تحدَّث عن كل ما يعتلج داخل صدر الأنا. كان النص موطناً للاوعي مشترك بين الجميع. حصّن مدخل النص وعمّقه بقولين لسيوران عن الكآبة وصراع الراهب والجزار بسبب الرغبة، لكنه بثّ العدميّة والانتماء إلى الحرية والفوضى والجنون الذي خلق كل هذا التخبط النفسي.
المصدر:” الأخبار”