خالد ابوشقرا – نداء الوطن
تضيء مصانع الأدوية في لبنان شمعة في ليل الأزمة الدامس. فعلى غرار أغلبية الصناعات الوطنية، ظلّت هذه الصناعة النوعية لعقود من الزمن مغمورة تحت جناح التثبيت الوهمي لسعر الصرف، والعجز عن منافسة مثيلاتها الأجنبية. التصدي لـ»مكنة» المستوردين التسويقية، وحملاتهم الاعلانية، وعروضاتهم الخيالية المقتطعة من الودائع المصرفية، كان شبه مستحيل. إلا أنه مع انهيار سعر الصرف ورفع الدعم عن أغلبية الأدوية عادت الأضواء لتسلط على هذه الصناعة ودورها في تقديم أفضل خدمة بأحسن نوعية.
لم يغير اندلاع الأزمة ودخول لبنان نفق الانهيار في نهاية العام 2019 من سوء العادات الاستهلاكية والتجارية، التي استفادت من سخاء دعم المركزي وتبذيره اموال المودعين «من غير كيسه». فظل لبنان حتى الأمس القريب يستورد الدواء نفسه بأكثر من 20 صنفاً، وبلغت فاتورة استيراد دواء (ماركة) مسكّن للأوجاع في العام 2020 حوالى 38 مليون دولار، فيما لم يتخط استهلاك المنتج المشابه محلياً (FEBRADOL) 2 مليون دولار. ومع تقهقر الدعم على الأدوية المستوردة والمستلزمات الطبية في نهاية العام 2021 من رقم يتراوح بين 100 و150 مليون دولار شهرياً إلى 35 مليوناً فقط تُؤمن من المركزي بـ»طلوع روح» مرضى الامراض المستعصية حرفياً، فتح العيون على الصناعة الوطنية. إذ عدا عن قدرتها على تأمين الدواء الجيد بأسعار متدنية في الداخل، فهي قادرة على تأمين النقد الصعب من الصادرات وخلق فرص العمل.
مضاعفة حصة الدواء
الأهداف الاستراتيجية الثلاثة التي أصبح بالامكان تحقيقها أو تكبيرها من صناعة الدواء المحلية، لم تكن لتتحقق لولا انهيار قيمة الليرة. فـ»رب ضارة نافعة»، على حد قول رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات «ماليا» التي تضم شركة «فارمالين» لصناعة الدواء جاك صراف. فانهيار الليرة أعطى قوة لمختلف الصناعات المحلية وليس فقط الدوائية، انطلاقاً من القيمة المضافة المرتفعة التي تحققها. ففي حين لا تتعدى القيمة المضافة في الاستيراد 30 في المئة، تصل هذه النسبة في التصنيع إلى 60 في المئة أي بمقدار الضعف. وفي الوقت الذي أدى فيه انهيار الليرة إلى تراجع فاتورة استيراد الدواء بنسبة 50 في المئة، أي من حدود 1.2 مليار دولار إلى 600 مليون دولار، ارتفعت حصة استيراد المواد الأولية لصناعة الأدوية بأكثر من 55 في المئة. فزادت من حدود 150 مليون دولار في أعوام ما قبل الأزمة إلى 400 مليون سنوياً حالياً. وهو ما يعني بالاستناد إلى الأرقام مضاعفة حصة الدواء المصنع محلياً من الاستهلاك في السوق الداخلية. مع العلم أن سبب بقاء فاتوة استيراد الأدوية متضخمة نسبياً يعود بحسب صراف إلى الإضطرار إلى استيراد أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية (25 مليون دولار شهرياً أو ما يقدر بـ300 مليون دولار سنوياً) التي لا يمكن لشركات الدواء المحلية تصنيعها، لاحتكار المصانع الدولية الكبيرة انتاجها».
ومع هذا فان سلة كبيرة من الأدوية الأساسية في لبنان والدول العربية المصدر اليها تنتج في لبنان. حتى أن «مصانعنا تصنع الأدوية لصالح شركات خارجية، حيث يصنع فارمالين الأدوية لصالح 12 شركة دولية»، يقول صراف. إلا أن المشكلة ما زالت تتمثل في عدم تسديد مصرف لبنان حقوق هذه الشركات، وما وعدنا به من دعم على المواد الأولية، حيث حصلنا على أقل من 50 مليون دولار في العام الماضي من الدعم في حين أن المطلب كان بدعم 150 مليون دولار. خصوصاً أن دعم المواد الاولية الاساسية للتصنيع غير كاف.
دعم الصناعة المحلية
أمام تزايد الاعتماد على الدواء المحلي اتخذت وزارتي الصناعة والصحة قراراً برفع الدعم عن الأدوية المستوردة التي يصنع لها بديل في لبنان بنسبة 100 في المئة. و«بدأنا نأخذ دعماً شهرياً تدرّج من 2 مليون دولار إلى 2.5 مليون وصولاً إلى 4 ملايين دولار مؤخراً»، بحسب رئيسة نقابة مصانع الأدوية في لبنان كارول ابي كرم. وسيرتفع مقدار الدعم بالتوازي مع زيادة حصة الدواء اللبناني في السوق وزيادة الاصناف الجديدة». أما بخصوص الوفر المحقق من رفع الدعم عن الأدوية المستوردة فهو لن يستعمل، بحسب أبي كرم، لتغذية استيراد المواد الأولية للصناعة فقط، إنما أيضاً لتغطية شراء أدوية الامراض السرطانية، ليتم تلبية أعداد أكبر من المرضى».
بالتزامن أقر مجلس النواب في جلسته المنعقدة في 29 آذار الفائت مقترح قانون دعم صناعة الأدوية المنتجة محلياً المقدم من «اللقاء الديمقراطي». وبالاضافة إلى دعم هذه الصناعة وتوفير احتياجات توسيع الاستثمار والانتاج، فان القانون ينص في مادته الأولى على أنه يتوجب على الجهات الضامنة، وفي مقدمها الصندوق الوطني للضان الاجتماعي، اعتماد الدواء اللبناني في الوصفات الطبية والتعويض على أساس سعره، إلا إن كان هناك دواء مستورد أقل ثمناً. مع العلم أنه «بحسب الدراسات لا يوجد دواء أرخص من الدواء المصنع محلياً»، تقول أبي كرم.
تغطي ثلث الحاجة
يوجد في لبنان 12 مصنعاً للدواء، 3 منها متخصصة في صناعة الامصال فقط، وتغطي 100 في المئة من حاجة السوق. وهناك 9 مصانع أدوية تنتج 1200 دواء لاكثر من 20 فئة علاجية، وتستعمل في أكثر الامراض شيوعاً مثل أمراض القلب والسكري والضغط والمسالك البولية، وتجلط الدم، والجهاز التنفسي وحتى بعض أنواع الامراض السرطانية وأدوية الالتهابات والمسكنات. و«نحن نعمل على تطوير أدوية جديدة وتكبير محفظة الدواء اللبناني»، بحسب أبي كرم. ذلك مع العلم أن الأدوية الموجودة تغطي أكثر من 30 في المئة من حاجة السوق اللبنانية، ومن الممكن أن تصل التغطية بالادوية الموجودة لدينا إلى حوالى 60 في المئة من حاجة السوق الداخلية».
معوقات التصدير
تشير الأرقام إلى أنه «في مقابل كل دولار يدفعه لبنان لصناعة الدواء المحلي يوفر دولارين من محفظة الإستيراد». ولكن ماذا عن رفع الصادرات الدوائية وجذب العملة الصعبة؟ يجيب جاك صراف بان «عوائد التصدير لا تتعلق بربط قرار تصدير الدواء بموافقة وزارتي الصناعة والصحة. إنما المشكلة تتمثل في علاقات الدولة التجارية الضعيفة مع الخارج. فمصر على سبيل المثال لديها 400 صنف مسجل في لبنان، فيما لا يوجد صنف دوائي واحد لبناني مسجل في مصر.
إذا كانت الأزمات تولد الفرص فان الأزمة اللبنانية لم تعط الصناعة الدوائية حقها فحسب، إنما أسقطت مقولة كل «افرنجي برنجي» في ما يتعلق بالصناعة الوطنية بشكل عام. وعلى الرغم من أن التصدير هو حياة الصناعة فان تغطية حاجات السوق المحلية بنسبة تصل إلى 70 أو 80 في المئة من الأدوية يعتبر أحد أهم الارتدادات التصحيحية للانهيار. ولا سيما بعدما وصلت فاتورة الاستيراد إلى مبالغ خيالية في السنوات الماضية.