في رسالة عيد الفصح، أعتبر البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أننا نعيش اليوم ظرفًا يحملنا على أن نتكلّم عن حقيقة لبنان، ونتساءل: أيُعقَل أن نُصبحَ وطنَ الانحطاطِ وقد كنّا بلدَ النهضة التي أسّسناها ونَشرناها في لبنان والشرق والعالم؟ أيُعقَلُ أن نُمسيَ دولةَ التسوّل وقد كنا دولةَ الجُودِ والعطاء؟ أيُعقَلُ أن نَغدوَ جماعةَ التبعيّةِ وقد كنّا المرجعيّةَ والمثال. أيُعقلُ ألّا يميّزُ البعضُ بين الصحّ والغلط؟ أيُعقَلُ أن نصيرَ مجتمعَ التناقضاتِ وقد كنا مجتمعَ التكاملِ؟ أيُعقَلُ أن نُضْحِيَ شعبَ القبولِ بالأمرِ الواقع وقد كنّا شعبَ الصمودِ والمقاومة. لن نَقبلَ بوقفِ حركةِ التاريخِ والإنسان لئلا نَفقِدَ مبرّرَ وجودِنا الخاصِّ والمميَّزِ بكل الخصائص في هذه المنطقة، وقد كنّا فيها حالةَ اليقظةِ والإشعاعِ. فلا يمكن أن نغيّر الآن هذه الحالة وهذا الدور، وبين أيدينا مدارس وجامعات ومعاهد ومؤسّسات. طلاب واساتذة وموظفون وعائلات!
وأضاف الراعي: نحن حركة التغيير حركة الحريّة والسيادةِ في هذا الشرق، وروّادُ النهضةِ السياسيّةِ والفكريّة. قاوَمنا حين كانت المقاومةُ مغامرةً، وانتفَضْنا حين كانت الانتفاضةُ تُقمعُ، ورَفعنا الصوتَ حين صَمتَت الأفواه. وصَمدنا حين كان المعتدون والمحتلّون ممالكَ وإمبراطوريّاتِ وسَلْطنات. فليس اليوم سنَخضع ونُسلِّم ونَستسلِم. فما بالُنا لا ننتفض ونَنفُض عنّا غُبارَ النِزاعات ونَلتقي في وطن الوحدة في التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة، الذي حقّقناه معًا سنة 1920.
ولفت الى أنه يجب أن نضعَ حدًّا للأمرِ الواقعَ الذي يتألّم منه الشعبُ اللبنانيُّ، ويُهمِّشُ الدولةَ الشرعيّةَ، ويُبعثِرُ وِحدَتَها بين دويلاتٍ أمنيّةٍ ودويلاتٍ قضائيّةٍ ودويلاتٍ حزبيّةٍ ودويلاتٍ مذهبيّةٍ ودويلاتٍ غريبة. فبِقدْرِ ما يَتحرّكُ الشعبُ ويواجِه جِدّيًا هذا الأمرَ الواقعِ الكارثيّ، يَتشَّجعُ المجتمعُ العربيُّ والدُوليُّ لمساعدتِه وتوفيرِ إمكاناتِ التغييرِ ووسائلِ الإنقاذ. وبقدْرِ ما رَحّبنا بعودةِ أصدقائنا العرب إلى لبنان، نتمنّى أن يعودَ اللبنانيّون أنفسهم إلى لبنان ويَتخلّوا عن ولاءاتِـهم الخارجيّةِ وعن انتماءاتِـهم إلى مشاريعِ غريبةٍ عن تاريخنا وتراثِنا.
وأكد الراعي أن إنقاذَ لبنان بوحدته وتعدّديته مرتبطٌ بالتخلّي عن الأدوار المصطَنعةِ والمستورَدة، وباستردادِ دورِه الوطنيِّ والحضاريِّ وهُويّتِه الأصيلةِ وحيادِه، وبالولاءِ المطلقِ له، وبوِحدةِ الدولةِ وسلطتِها، وباعتمادِ اللامركزيّةِ الموسَّعة، وبالسيادةِ والاستقلالِ وحريّةِ الإنسان. لقد تهاوت وحدةُ لبنان عندما اصطدَمت بتعدّدِ الولاءات، والانحيازِ إلى المحاورِ الإقليميّةِ، والانقلابِ على الميثاقِ الوطني.
وتابع: قبل أن يكونَ لبنانُ كيانًا دستوريًّا وحدودًا دوليّةً ونظامًا ديمقراطيًّا، هو هُويّةُ شعبٍ تميّز عبر العصورِ بالتوقِ إلى الأمن والحريّة، وبالسعي إلى العلمِ والمعرفة، وبالتزامِ التقدّمِ والسلام، وبالتعايشِ مع الآخَر والمحيط، وباعتناقِ ثقافةِ الحياةِ والصمود، وبنسجِ جدليّةٍ روحانيّةٍ بين الأرضِ والإنسان، وبعُشقِ التفاعلِ مع الشرقِ والغرب. هذه كانت هوّيتنا الخاّصةُ الملازمة لوجودِنا من دونِ انقطاعٍ سواء في أزمنةِ التحرّرِ والاحتلالِ أم في أزمنةِ الحربِ والسلام، وشكلّت مرجِعيّةَ العملِ الوطنيّ. أمّا الهُويّات الهجينة التي تَسلّلت إلى هُويّتِنا اللبنانيّةِ المتجدِّدةِ عبر التاريخ، فيجب إزالتها عنها وكأنّها ملصَقات، وجعل هذه الهويّة معيارَ اختيارِ النوابِ والوزراء والرؤساء وسائرِ المسؤولين عن الوطن.
من أجل هذه الغاية، نراهن مع المواطنين ذوي الإرادة الحسنة على حصولِ الانتخابات النيابية في موعدها، ومن بعدها الرئاسية. فإنها فرصةُ التغييرِ. إذا لم يَتنبّه الشعبُ إلى خطورةِ المرحلة ويُقدِم على اختيار القوى القادرةِ على الدفاعِ عن كيانِ لبنان وهُويّتِه، وعلى الوفاءِ لشهداء القضيّة اللبنانية، وعلى إعادة علاقات لبنان العربية والدولية، فإنه، هذا الشعب نفسه، يتحمّل هو، لا المنظومةُ السياسيّةُ، مسؤوليّةَ الانهيار الكبير. ومن حظِّ لبنان أن التغييرَ فيه لا يزال ممكنًا ديمقراطيًّا. فلا تعطّلوا أيّها اللبنانيّون هذه الوسيلةَ الحضاريّةَ السلمية الأخيرة.
وقال الراعي: إنَّ نتائجَ الانتخاباتِ النيابيّةِ تتوقّفُ على المشاركةِ فيها. فلا يوجد خاسرٌ سلفًا ولا رابحٌ سلفًا. لبنان يحتاج اليوم وكل يوم إلى أكثرية نيابية وطنية، سيادية، استقلاليّة، مناضلة، مؤمنة بخصوصية هذا الوطن والدولة الشرعية والمؤسسات الدستورية وبالجيش اللبناني مرجعية وحيدة للسلاح والأمن، وبوحدة القرار السياسي والعسكري.
وأشار الى أن الخطورةُ الكبرى فهي تضليل الشعب اللبنانيُّ فيَنتخب أكثريّةً نيابيّةً لا تُشبهه ولا تلتقي مع طموحاتِه، ولا تقدرُ أن تحلَّ أزماته فتزيدُ من عُزلته ومن انهيارِه. ستكونُ لا سمح الله حالةٌ غريبةٌ أن تأتيَ الغالبيّةُ النيابيّةُ خِلافَ الغالبيّةِ الشعبيّةِ بسبب سوءِ اختيارِ الشعب؛ فيُضطرُّ لاحقًا إلى معارضةِ نواب انتخَبهم في غفلةٍ من الوعي الوطنيّ. يَجُدر بالشعبِ اللبنانيِّ، وهو يختار نوابَّه، أنْ يُدرك أنّه يختارُ أيضًا رئيسَ الجمهوريّةِ المقبل، بل الجمهوريّةَ المقبلة. ومّما لا شكّ فيه أنَّ مصير لبنان يتعلق على نوعيّةِ الأكثريّةِ النيابيّة في المجلسِ الجديد.
وختم قائلاً: عيد القيامة هو عيد الرجاء. فلا بدّ، ونحن نعيش جلجلة طويلة، من أن يتدحرج الحجر عنّا بقوّة الفادي الإلهي الذي مات فداءً عن خطايانا، وقام لإنعاشنا بالحياة الجديدة. ومن علامات الرجاء زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى لبنان الموعودة في حزيران المقبل. وإنّا إذ ننتظره بالمحبّة والشوق، نصلّي كي يبارك الله هذه الزيارة الرسوليّة، ويحقّق أمنيات قداسة البابا من ورائها، فتؤتي ثمارها الروحيّة والإجتماعيّة والوطنيّة اليانعة.