الجمعة, نوفمبر 22
Banner

طرابلس الضحية تسأل: قتلوا ام غرقوا؟

نصري الصايغ

حدث ذات ليل، أن غفوت بعد حزن يشبه الرقاد. ولا مرة اشتهيت حلماً. حصتي من الأحلام، كوابيس وحشة وحطام، قلَما رزقت حلماً فرحاً ولو كان كاذباً. تساءلت مراراً: هل إذا اشتهيت وتمنيت استجاب الليل لشهوتي في أن أحظى بمتعة الفرح؟ لم يستجب. الليل ملك خاص لمن لا يعير الاحلام أي اهتمام. إذا، رصيدي من الاحلام، زورق مثقوب، وغيمة عمياء، ويقظة ملل يُعبَّر عنها بالتثاؤب.

ليالي حالكة وقاحلة، الى أن حدث ذات منام، ما يلي:

بحر سري بشواطئ مكتومة. أمواج سحرية صامتة، تتماوج كعشق. ليل يسير بتؤدة بين أفقين بعيدين. وفجأة، أسمع اصواتا سرية: همس وابتسامات وعبور فاخر. السفينة تم تجهيزها لاستقبال ضيوف مختارين، من بين علية القوم. ارتقوا درجاً فاخراً مزينَاً بأعلام تشبه وطناً ما، لم أعرفه. دلفوا بفخامة الى متن السفينة، تداولوا كلاماً فاخراً ولكنه بلا معنى. سمعت اسماءً اعرفها جيداً.

الأخبار اليومية تتحدث عنهم. يتناوبون على الكلام الغث، والمشاهد المتقنة، صورة وصوتاً واداء. عرفتهم واحداً واحداً. كانوا انيقين جداً. يتكوكبون حلقات حلقات، بانتظار لحظة الإقلاع. لم اعرف الى اين ولا هم أفصحوا ولا الربان المختفي أعلن عن مسار السفينة.

تقطعت المشاهد كثيراً. الاحلام ليست منسقة. لا اعرف لماذا. قبل الاقلاع، كانوا يشيرون بأصابعهم الى امواج ناعمة وخفيفة، ثم يديرون ظهورهم فجأة لتلقف اخبار سياسية، يهملونها بسرعة، وصفقات مالية، يتلهفون لمعرفة ارقامها، وحصصهم فيها.. غريب. انهم معاً، ويختلفون على لا اعرف ماذا.. لم أفكر. الحلم يغري باكتشاف المزيد.

انقطع سيل المشاهد. الحلم عتّم على جزء من السفينة. تبين لي في العتمة المفاجئة، وجود ثلاثة ينتسبون، كما تدل ازياؤهم واتعابهم، الى طبقة صياغة الخلافات والعداوات. الصوت لم يكن مسموعاً جيداً. تسربت من خلف العتمة اسماء شركات، ومصارف وطوائف. فرحت في منامي. قلت، إنهم يبحثون عن حل ما، يعيد للناس، أي ناس، ما فقدوه.

فركت تلافيف حلمي. قلت: أريد ان ارى اناساً طيبين، يعيشون على الكفاف ويقتاتون اليأس ويسيرون بخطى ثقيلة الى الجوع والضياع والانحلال.. لم اسمع شيئاً.. بررت لهم ذلك. لعلهم يحتاجون الى وقت كي يوفروا للناس ما يقيتهم وما ينفعهم. فمثل هذه اللقاءات الليلية، مختصة بإيجاد الحلول.

فيا “أيها الليل الا انجلِ بصبح وما الا صباح منك بأمثل”. تفاؤلي الغبي انفرط لحظة رأيتهم يتأففون، بعد خلاف حول مشروع للكهرباء، يحتاج الى مليارات، تليها مليارات، بحيث يحتاج هذا التنفيذ الى ألف ليلة وليلة، وكل ليلة تقاس بالسنوات.. فهمت. هذه عصابة سياسية. وفجأة تعالى هرج ومرج الى يخت فاخر، مجهز بلاسلكي، وانترنت، واقمار صناعية، وهواتف ذكية، وارقام تليها ارقام.. الصالة الأولى، كانت تعج برجال كثيرين، عرفت اكثرهم، اذ اتيح لي مراراً، في ايام الصحو السياسي، ان اراهم في مدينة متعبة وتالفة وكئيبة ومفجوعة، وقيل لي فيها، ان البلد قد بلغ حضيض الافلاس ويجري البحث عن المواطنين والموظفين الذين كانوا سبب افراغ المصارف، وتحديداً المصرف المركزي، من العملة الصعبة.

كان صعباً عليَّ أن افهم لماذا؟ احيانا يغشاك الغباء. هؤلاء، هنا، وعددهم عشرون ربما، يتناوبون على نقاش بيزنطي مديد، ينتهي بصفقة يرضى عنها الثلاثة الكبار. شبه مجلس وزراء.

فجأة، انقطع تسلسل المشاهد، اذ، لاحظت وجود رجال دين، او رجال اديان. لم اعرفهم جيداً، لأنهم كانوا يلبسون ثيابهم الدينية ويمسكون بالمسابح يميناً، وبدفاتر الشيكات يساراً. تحدثوا قليلاً. همسوا في آذان بعضهم. عبسوا جميعاً. ثم جاءهم من أخبرهم، فابتسموا، وأخلوا المشهد، لحوالي 124 أو أكثر من الناس، عرفت في ما بعد، انهم “هيئة تشريعية”، أي شيء يشبه مجلس النواب، او منتدى العصابات. وجوه الشبه كثيرة. وحدها اللغة تختلف: هناك من يصيح ويجوَد ويلعلع ويخطب ويهز بأصبعه ويعلي سعره، الى درجة انه يكاد “ينفتق”. ضحكت بسري، خوفاً من أن يسمعوني، فيقفلون المشهد علي.

ثم حدث فراغ. ليل يلد ليلاً. عتمة تتجول. اليخت بات بعيداً عن الشاطئ. لم أسأل الى أين، فوجئت بأضواء تضيء ثم تخفت. لم افهم. طالت العتمة كثيراً، الى ان خرجت “كتلة سياسية”، يلقبونها بالنيابية، وهي تلوك في فمها قروضاً واموالاً وصكوكاً.. لم افهم لماذا يأكلون المال.. لم أفسر، انما تابعت مشهد “الكتل” الأخرى. عرفتهم من انتماءاتهم ولكنتهم: هذا تكتل ماروني. واضح. هذا عدو ماروني. معروف. وذاك تكتل شيعيتين متحدتين. فهمت، وهؤلاء، سنة يسيرون على غير هدى، ليس لديهم من يرشدهم الى صندوق الأمانات والدولارات. واولئك دروز. اولئك ارمن، وبعيداً عنهم، روم وكاثوليك. عجيب. الاحلام تنقل احياناً صوراً ناطقة وحقيقية عن اناس نكرههم.

قلت، هذا ليس حلماً. انه كابوس. يشبه وقائع الانهيار في وطن مهووس طائفياً، ومتمرس بالأخلاق المركنتيلية. وفجأة، حضر على لساني سيل من الشتائم، أفدحها، “اولاد القحبة”. عرفتهم.

ما زلت نائماً. اهتاج بلا حراك. انا هناك معهم على اليخت. اتلصلص عليهم. أنصت الى ما يقولونه. فهمت أن حصصاً وزعت. وأماكن نفوذ طوُبت. ولكن هناك امر عويص وصعب، لم افقه معانيه، وتحديداً عن شيء غريب، عن تراثنا وهرائنا السياسي المزمن. سمعت شيئا مبهماً عن الكونترول. ظننت ان البحث قضائي ومعلوماتي. ثم، تبين لي انهم يقولون كلاماً غامضاً عن “الكابيتال كونترول”. اختلفوا ثم اختلفوا، ثم احالوا المشكلة في تفسير هذا المصطلح، الى “البنك الدولي”، فيما كان رجال الاناقات والياقات المصرفية، يجتمعون ويولولون، مصرين على الغاء هذه البدعة. بدعة الكشف عن عورات المتمولين وميلهم الشاذ الى مضاجعة الدولارات، في أي فراش كان.

قلت: هذا حلم ام تسجيل وقائع تحصل في بلدان الانحطاط الوطني، حيث لا دولة، ولا رقابة، ولا محتسبة، ولا قضاء، ولا حق، ولا اخلاق ولا دماثة. تأكدت بعد لأي وتردد، ان هؤلاء يشبهون بلداً يدعى لبنان من زمان، ولكنه تحوَّل الى منصة للنهب والاستباحة، وعندها عرفت، ماذا يعني شعار “كلن يعني كلن”.

حزنت. قلت، الا تكفينا احلام اليقظة؟ هذا هو لبنان الذي اراه في المنام، اصدق مما اسمعه من الشاشات والتصريحات. ها هم هنا، واقفون ومتأهبون لزيارة “ماريكا السياسية والمالية”. وفجأة، صدّح صوت مطرقة. قلت: انها مطرقة مجلس الوزراء. صحح لي شخص سيء السمعة، يدعى نائباً: هذه مطرقة مجلس النواب. لم أُجبه. قلت في قلبي، هذا هو مجلس العهر والكذب والجبن والسرقة وكل آفات الشياطين.

ثم انقطع الاتصال بين نومي والسفينة او اليخت. فترة نوم بلا احلام. لا اعرف كم دامت. شتمت الاحلام، ومن يحلم ومن يصدق الاحلام. وصببت اللعنات على مروجي النبوءات الخرافية على الاغبياء الذين يصدقونها.

.. وحدث ان هجرني النعاس. لم يدم ذلك طويلاً. غفوت. وتغير المشهد: طراد بشري دخل فسحة الحلم. يتعكز على موج هادئ، وعلى ريح خفيفة. انتظرته. بحلقت بالحلم. عرفت ان هذه السفينة، هي للهاربين من المدينة وما حولها. حزنت. هذه كارثة. قلت. ما الفارق بين “اليخت” الفخم جداً، وركابه الأفخم، وبين سفينة البؤس والبؤساء.

تمنيت ان لا أحلم. لكن ما حدث في الحلم، كان مختلفاً جداً. راحت السفينة العجوز، وهي تحمل فقراء البلاد ومن لا امل لهم بلقمة، تسرع وتسرع وتسرع باتجاه اليخت. ولما بلغت حافة اليخت، راحت تدور حوله، ثم صدمته مرتين في مقدمته، فهاج الاكابر وماجوا وخافوا. وبعد لحظات عاودت السفينة هجومها، ورطمت اليخت في بطنه، فغرق الكثيرون، وتبعثروا في الاعماق، وانتشروا على وجه الماء. قلت لن احزن ولن افرح.

استيقظت مذعوراً. ما هذا يا ربي؟ كفى. بعد لحظات، وعيت واكتشفت ان حلمي جاء “بالقلب”. أي مقلوباً. الحقيقة، ان اليخت العسكري، نطح سفينة الفقراء. غرقوا وفاشوا وماتوا.

تباً. الف لعنة علينا. حتى احلامنا ضدنا. حتى نومنا ضدنا.

هذا عالم جائر. هذه دولة احتيال. هذه شعوب تشبه برابرة الطوائف. هذا بحر مباع. هذا مرفأ ينفجر.

رجاء.. لا اريد بعد اليوم ان أحلم.

لا اريد ان اراهن على أمل.

طرابلس، ليست وحدها ضحية. زيارة الى القرى، تدلكم على حجم الهجرة. بلاد مهجورة. مدارس تغلق ابوابها. اشغال عاطلة عن العمل. لا كهرباء ولا .. الى آخر المعزوفة. بلاد باتت تخاف على رغيف الخبز.

قد يكون لبنان البلد الوحيد الذي يفاخر، بتهجير ابنائه. كذابون. منافقون. داعرون. انهم يحتفلون بأنهم سيجرون انتخابات في بلاد الانتشار. يا للعار! عدد سكان لبنان أقل من عدد المهاجرين.

انهم الابناء الشرعيون للخرافة الفينيقية والأبجدية.

أما بعد.

لا كلام يفي حق الموجوعين والمفجوعين.

انه زمن الدموع. انه وقت للحزن. انها منصة للوداع.

هذا هو لبنان الحقيقي بكل اسف.

لذا، عجلوا، وانتخبوا من باعكم وباع بلادكم وسطا على حاضركم ومستقبلكم.

تفو.. تفو.. ليتني لم استيقظ من منامي. كنت احتفلت بهم امواتاً في قاع النسيان وجثثاً على شواطئ السياسات الداعرة.

Leave A Reply