تتواصل الحرب على الأراضي الأوكرانية، ومعها تزداد أزمة الغذاء التي يشهدها العالم منذ أكثر من عشر سنوات. وإلى جانب الحرب الجارية في منطقة البحر الأسود، التي تمثّل مصدراً لربع تجارة القمح العالمية ونحو 20 في المائة من تجارة الذرة، تسهم النزاعات الأخرى والأحوال المناخية القاسية والانكماش الاقتصادي بسبب جائحة «كورونا» في تراجع الأمن الغذائي وانتشار سوء التغذية في أكثر من مكان.
وتؤدي الاضطرابات التي تعاني منها سلاسل الإمداد حالياً في إقلال الموارد المتاحة وزيادة تكلفتها. فالصومال، الذي يرزح حالياً تحت وطأة الجفاف ويواجه ستة ملايين شخص من أبنائه نقصاً حاداً في الغذاء، ارتفع فيه سعر القمح والنفط بنحو ثلاثة أضعاف. وفي الكونغو الديمقراطية، التي تمثل موطناً لأكبر عدد من الجياع في العالم، تضاعفت أسعار الوقود مرتين كما ارتفع سعر زيت الطهي بمقدار 33 في المائة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذه السنة.
– كارثة غذائية على نطاق عالمي
يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا، وقبله جائحة «كورونا»، جاء ليصبّا الزيت على نار الأحوال المناخية القاسية في أكثر من مكان في العالم. ومؤخراً، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة (فاو) أن الأزمة في منطقة البحر الأسود قد تدفع 12 مليون شخص إلى الجوع في جميع أنحاء العالم. كما حذّر برنامج الغذاء العالمي من أن عدد الأشخاص الذين يواجهون الجوع في القرن الأفريقي بسبب الجفاف والمتغيّرات الدولية قد يرتفع من 14 مليوناً إلى 20 مليوناً في غضون بضعة أشهر.
ما يحدث حالياً هو تدهور تدريجي في وضع الغذاء العالمي، مع ارتفاع درجات الحرارة بلا هوادة. فمعدل سكان العالم الذين يعانون من انعدام شديد أو معتدل في الأمن الغذائي ارتفع من 22.6 في المائة في 2014 إلى 26.6 في المائة في 2019. وفي سنة 2020. التي شهدت تفشي جائحة «كوفيد – 19». قفز معدل انعدام الأمن الغذائي إلى 30.4 في المائة. ومع التطورات الجيوسياسية والاقتصادية، فإن أي أزمة في منطقة حرجة لإنتاج الغذاء يمكن أن تؤدي إلى كارثة على نطاق عالمي.
وكانت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ حذّرت من أن الظواهر المناخية المتطرفة ستزيد من مخاطر الخسائر المتزامنة للمحاصيل في المناطق الرئيسية المنتجة للغذاء، مع عواقب وخيمة على أسعار المواد الغذائية وتوفُّرها. ويشير تقرير الهيئة الأخير، الذي صدر قبل أسابيع، إلى أن إنتاج الغذاء وجودته قد تأثرا فعلياً بتغيُّر المناخ، حيث انخفضت الإنتاجية عالمياً بنسبة 21 في المائة بسبب ارتفاع درجات الحرارة والأمطار الغزيرة، وساهمت زيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون في تقليل الجودة الغذائية للمحاصيل.
وتتوقع الهيئة أن يستمر انخفاض إنتاج المحاصيل الأساسية، مثل فول الصويا والقمح والأرز، طيلة القرن الحادي والعشرين. وتتراوح نسبة الانخفاض في الإنتاجية بين 0.7 إلى 3.3 في المائة في كل عقد حسب البلد والمحصول، بغض النظر عن المتغيّرات الأخرى مثل الآفات وجودة التربة. وتحذر الهيئة من أن غلة الأرز والذرة والقمح يمكن أن تنخفض بنسبة 10 إلى 25 في المائة مع كل زيادة مقدارها درجة مئوية واحدة في الاحترار العالمي.
ولا يقتصر الأمر على ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الجفاف، فالفيضانات هي أيضاً من بين أكثر الكوارث المرتبطة بالمناخ تأثيراً على إنتاج الغذاء. فالصين، على سبيل المثال، تواجه حالياً صعوبات كبيرة في إنتاج الغذاء بسبب الفيضانات الاستثنائية التي أصابت البلاد خلال فصل الخريف الماضي. ووفقاً لتصريحات رسمية، أدّت الفيضانات إلى تدمير أكثر من 12 مليون هكتار من أراضي المحاصيل، مما قد يجعل ظروف الإنتاج الزراعي هذه السنة الأسوأ في تاريخ البلاد.
ويُلحِق تغيُّر المناخ ضرراً بمساعي الصين لتحقيق أمنها الغذائي. فالظواهر المناخية القاسية المتكررة تتسبب فعلياً في خفض الإنتاج الزراعي، وفي الوقت ذاته يمكن أن تؤدي المواسم التي لا يمكن التنبؤ بها إلى تقويض ثقة المزارعين، وقد تُفاقم النقص الحاصل في اليد العاملة ضمن هذا القطاع. وفيما اعتاد المزارعون في شمال البلاد على الجفاف، وليس الفيضانات، فإن أكثرهم لم يتمكن من حصاد محصول الذرة لأن آلياتهم لم تستطع العمل في الأراضي المغمورة، حيث لا توجد بنية تحتية كافية لتصريف المياه في الوقت المناسب.
ومن المتوقع أن تقلل موجات الجفاف الموسمية غلة ثلاثة أغذية رئيسية في الصين، هي الرز والقمح والذرة، بنسبة 8 في المائة بحلول 2030. وعلى المدى الطويل، سيؤدي تغيُّر المناخ إلى ارتفاع منسوب مياه البحر على طول السواحل الشرقية المنخفضة مما سيزيد الضغط على الصناعة الزراعية.
ويؤدي ارتفاع منسوب مياه البحر في دلتا نهر ميكونغ في فيتنام إلى تسرب المياه المالحة بشكل متزايد في المناطق الداخلية، عبر الأنهار والقنوات المائية، وتدمير محاصيل الأرز. ووفقاً لآخر التقارير الرسمية، تضرر نحو 232 ألف هكتار من الأراضي المخصصة لزراعة الأرز بسبب الجفاف وتسرب المياه المالحة منذ منتصف 2016 وحتى الآن. وتمثّل هذه المشكلة تهديداً خطيراً ليس فقط للمزارعين المحليين وإنما للأمن الغذائي العالمي، باعتبار أن فيتنام أهم مصدر للأرز عالمياً بعد الهند.
كما أن الهند تعاني بدورها من كوارث متكررة في قطاع الزراعة نتيجة الجفاف والفيضانات وارتفاع منسوب مياه البحر. وقد أدّت موجة الحر، التي سجّلت رقماً قياسياً في الهند، في خفض إنتاج محصول القمح هذه السنة، فيما كانت البلاد تخطط لزيادة الصادرات لتعويض النقص في سوق الحبوب العالمية نتيجة الحرب في أوكرانيا. وفي إثيوبيا، حيث ذَوَت المحاصيل ونفق أكثر من مليون رأس من الماشية، يستيقظ نحو 7.2 مليون شخص جوعى كل يوم في جنوب البلاد وجنوبها الشرقي بفعل موجة جفاف هي الأقسى منذ 40 سنة. كما أن الفيضانات المتوقعة خلال موسم الأمطار المقبل تمثل تهديداً للمجتمعات التي تأثرت بالجفاف، لا سيما نتيجة الأمراض التي تستهلك أعداداً أكبر من الماشية.
ويظهر تأثير تغيُّر المناخ على الأمن الغذائي بأشكال مختلفة أخرى. فالحرائق المدمّرة، التي أصابت أستراليا مراراً وتكراراً خلال العامين الماضيين، مسؤولة عن تدمير أراضي الحقول والمراعي، وهي تسببت في دفع أسعار الألبان والمنتجات الأخرى كاللحوم والعسل إلى أرقام قياسية. ووفقاً لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، أدّت التغيُّرات الشديدة في أحوال الطقس والمحيطات إلى انخفاض صيد الأسماك في بعض المناطق الاستوائية بنسب تتراوح بين 40 و60 في المائة.
– استدامة الغذاء وخفض الانبعاثات
في حين يمثّل إطعام سكان العالم البالغ عددهم 8 مليارات شخص مسألة حياة أو موت، يرتب ذلك تكلفة باهظة على البيئة والمناخ العالمي. فإنتاج الغذاء يستخدم ما يصل إلى نصف الأراضي الصالحة للسكن على الأرض، وتؤدي النظم الغذائية القائمة على الزراعة والإنتاج الحيواني والأنشطة المرتبطة بها إلى انبعاث ما بين 21 و37 في المائة من غازات الدفيئة العالمية الناتجة عن النشاط البشري.
وفي الوقت الحالي، لا توجد حكومة واحدة في العالم لديها خطة جدية في استراتيجياتها المناخية الوطنية لتحويل نظمها الغذائية إلى نظم مستدامة وقادرة على الصمود أمام تغيُّر المناخ. وبغياب هذا التحوُّل، سيكون من المستحيل الحفاظ على ارتفاع درجة حرارة الكوكب ضمن هدف 1.5 درجة مئوية ومنع فشل المحاصيل الشامل، مما سيؤدي إلى عواقب قاسية على الأشخاص المهمّشين الذين كان دورهم محدوداً في حصول هذه الأزمة.
ويقترح التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ إجراء مجموعة من التغييرات في الإنتاج الزراعي والحيواني للتقليل فعلياً من الانبعاثات وتأمين استدامة الغذاء. ويُشير التقرير إلى أن المراعي شبه الطبيعية التي ترعى فيها المجترّات يمكن أن تدعم التنوُّع البيولوجي، كما يوفّر الرعي في الأراضي الهامشية واستخدام بقايا المحاصيل ومخلّفات الطعام غذاءً صالحاً للأكل، مع طلب أقل على أراضي المحاصيل.
ويمكن لتعديل أنماط استخدام الأراضي، مثل الحراجة الزراعية والزراعة البينية والمدخلات العضوية ومحاصيل التغطية والرعي الدوراني، أن تخفف من الانبعاثات، وتدعم التكيُّف مع تغيُّر المناخ، وتحقق الأمن الغذائي، وتحمي سبل العيش والتنوُّع البيولوجي والمنافع الصحية المشتركة.
ويدعو التقرير إلى تنويع نظم الإنتاج الغذائي، والجمع بين المدخلات من مختلف المحاصيل والثروة الحيوانية ومصايد الأسماك لضمان صحة الإنسان وسلامة الكوكب. ويحذّر التقرير من تكثيف الإنتاج الغذائي الذي يؤدي إلى تحسين الأمن الغذائي على المدى القصير، ولكن على حساب البيئة والتنوُّع البيولوجي. وتلعب الحلول المستدامة للأنظمة الغذائية، مثل الحد من هدر الطعام وخفض استهلاك اللحوم، دوراً هاماً في تحقيق الأمن الغذائي والحد من تغيُّر المناخ.
عند دراسة التهديدات التي يتعرض لها النظام الغذائي العالمي، يتّضح أن انعدام الأمن الغذائي هو مشكلة ذات أبعاد عالمية، وهو يمثّل في جزء كبير منه أزمة من صنع الإنسان، تفاقمت بسبب تغيُّر المناخ والعادات الغذائية والصراعات الوطنية والدولية. ومن أجل حماية الأمن الغذائي، لا بد من حشد الموارد لصالح المناطق التي تواجه أكبر مخاطر الجوع وسوء التغذية. ومن المهم أن تقوم الدول بدورها في تنويع إنتاج الغذاء، وإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري، وتبني سياسات أكثر اخضراراً واستدامة.
Follow Us:
الشرق الأوسط