نبيل هيثم – الجمهورية
بعيداً عن معركة «بيّي أقوى من بيّك» الدائرة بين بعض الاطراف السياسية، وبعيداً عن النشوة الصارخة وزَهو الانتصار الخادع الذي أصابها، ثمة سؤال يدور في موازاة هذه المعركة: هل يُراد إنقاذ البلد فعلاً؟
اذا كانت الانتخابات النيابية تعدّ إنجازاً تحقق بعد فترة طويلة من التشكيك بحصولها، فإنّ معركة «كتلتي أكبر من كتلتك»، وما يرافقها من مناوشات وعنتريات واستعراضات وعرض عضلات وأسقف ما فوق العالية يرفعها بعض الجدد، قد ابتلعت هذا الإنجاز وشَوّهت نتائج الانتخابات، وتؤشّر بما لا يقبل أدنى شك إلى أنّ الولاية المجلسيّة الجديدة التي انطلقت رسمياً اعتبارا من يوم أمس، والتي يفترض ان تكون ساحة عمل وتشريع رافدة لورشة انقاذ واصلاح موعودة، تتعرّض لمحاولة اغتيال من قبل عقليّات تحفر فيها، وتريد إغراقها في وحول النكايات والولدنات.
كلّ العالم نظر الى الانتخابات النيابية بوصفها محطة فاصلة بين مرحلة أسقطت لبنان وشعبه في المأساة، ومرحلة يخرج فيها اللبنانيون بكل مستوياتهم ومكوناتهم من خلف متاريس أحقادهم وتناقضاتهم وعداوتهم لبعضهم البعض ويتشاركون في تلك الورشة وتلمّس المخارج والحلول التي تخرج هذا البلد من جحيم الازمة. وكلّ العالم رحّب بهذه الانتخابات ونتائجها، بمعزل عَمّن ربح او خسر، ورسالته جاءت في منتهى الصراحة والوضوح والحرص على بلد مفجوع، لكل المكونات بأن تُفتح صفحة جديدة تلتقي فيها على اولوية انقاذ لبنان.
الّا أنّ أسوأ علامات الإنحطاط، تلك التي تَبدّت مع مكوّنات ومجموعات لا تخلو خطاباتها ومفرداتها من ادّعاء الوطنية والتباكي على الشعب، ويبدو انها لا تستطيب الإقامة إلّا خلف المتراس، ولا تُحسن السير الّا على خط التوتر والقصف في كلّ اتجاه.
مشهد كريه مُحبط للناس، يقطع كل أمل بتغيير، بَدت فيه اطراف لكل منها أجندته، ومُموّله، ومُحرّكه من داخل الحدود وخارجها، وتتشارك في اعتقال وطن وشعب بأسره، وتزدري بعضها البعض، وتختزن لبعضها البعض كراهية لا حدود لها، وعداوة أبعد بمسافات زمنيّة من عداوتها للعدو الخارجي الكامن للبنان، والمنتشي بالتأكيد وهو يرى من ينوب عنه في الداخل في تدمير هذا البلد، ويحقق هدفه في رمي لبنان في مجاهل التخلف وما قبل العصر الحجري!
وتبعاً لذلك، لا يخطىء العالم الخارجي ابداً إن نَظر الى هؤلاء نظرة احتقار، لتقديمهم أسوأ نموذج في العداء لوطنهم، لا مثيل له في أي دولة على وجه الكرة الأرضية، ولاستِرخاصهم وطناً جَعلوه هيكلاً بلا روح، واستهانتهم بشعب مكسور ومهزوم، واستحسانهم الإرتماء في حضن الشيطان والإقامة الدائمة في حفر احقادهم، وإطفاء أي وَميض يلوح في افق البلد، اقفال كل ابواب الانفراج ونوافذه التي فتحها ويفتحها الصديق والشقيق. وفوق كل ذلك يدّعون الانتصار ويقودون وطنا وشعبا الى الانتحار، فقط ليتباهوا ويقولوا: «نحن الممثّل الشرعي لشارعنا الطائفي .. وكتلتنا اكبر من كتلكم».
كان يؤمَل من هذه الانتخابات ان تشكّل نقلة نوعية من ضفّة الجنون الى ضفة العقل، وتؤسس على نتائجها – مهما كانت هذه النتائج ومهما كان حجم مقاعد هذا الطرف او ذاك في مجلس النواب – شراكةً مسؤولة في إعادة بناء البلد. ولكن ما بعد هذه الانتخابات، يبدو انه أسوأ مما قبلها، حيث يبدو المشهد الداخلي امتدادا لحفلة الجنون، التي ضيّعت هذا الاستحقاق، وتمهّد لتضييع كل شيء. والحرب الكلامية المحتدمة بين من يعتبرون أنفسهم «منتصرين»، يَتسابق اطرافها على تقديم الوصفات الخبيثة لإكمال الإجهاز على ما تبقّى من لبنان، وتهجير من بقي صامدا في هذا البلد.
المُفجع أنه بَدل التسليم بنتائج الانتخابات، جعلوا منها منطلقاً لـ»مُناطحة» جديدة و»مصادرة انتصار» من هنا، و»مصادرة انتصار» من هناك، أطرافها، نالت منهم النشوة والزهو بانتصار رقمي، وأوهَمهم الغرور بأنّ مجلس النواب الجديد يتشكّل منهم وصار لهم وحدهم فقط، وأخذهم الى الإعتقاد المبالَغ فيه، حتى لا نقول الى خداع أنفسهم وناسهم، بأنّ عدد المقاعد التي احتلوها في هذا المجلس يمنحهم حق التفرّد بالقرار وقلب المَيمنة على الميسرة، والتحكّم بدفّة كل الاستحقاقات وتحديد مواصفات رئيس المجلس، وكذلك مواصفات رئيس الحكومة، وشكل ومضمون وبرنامج الحكومة الجديدة، مع اعطاء الافضلية والاولوية لحكومة من لونهم الواحد؟!
ربما فاتَ كل هؤلاء، او تناسوا، عن سهو او عن جهل، انّهم جزء يملك فقط الصوت لا القرار، ضمن مساحة نيابية تمتد على كتل اكبر وارقام أكثر تحدّد هي وجهة الأكثرية والقرار. وربما هم غافلون عن انّ بلدا كلبنان قائم على نظام وتركيبة وتوازنات سياسية وطائفية لا يملك أحد مهما كان حجمه التمثيلي العددي، شجاعة او جرأة أو قدرة الإخلال بها، أو فرض إرادته على الآخرين وإخضاعهم لمشيئته او إلغائهم وحَشرهم في زاوية العزل، على ما ذهبت اليه خطابات بعض الأطراف ما قبل الانتخابات، والمستمرة على الوتيرة ذاتها بعدها.
بالتأكيد انّ لكل استحقاق داخلي، ومن ضمنها استحقاق انتخاب رئيس مجلس النواب، طبيعته وظروفه وشروطه وموازين قوى وتحالفات وأعراف تحكمه. والانتخاب، أيّ انتخاب، هو المدماك الاساس للعبة الديموقراطيّة، ولكن ليس بريئا أن يُصار عمداً إلى فتح بازار المزايدة والتجريح والإستفزاز الإفترائي ومحاولة خلق آليات غير واقعية تخضع انتخاب رئيس المجلس لأعراف جديدة وشروط خارج النظام والقانون، على ما هو حاصل على باب استحقاق انتخاب رئيس المجلس والتصويب على الرئيس نبيه بري لقطع الطريق امام انتخابه لولاية جديدة على رأس السلطة التشريعية. ومن المشاركين في هذا البازار من كان شريكاً في محاولة سابقة لقطع الطريق بعد انتخابات العام 2005، وظروف تلك المرحلة كانت أكثر صعوبة وقساوة، امّا نتيجتها، وكما هو معلوم، فكانت فشل تلك المحاولة وخيبة المجرّبين.
الطريف في هذا السياق، هو انّ هذا الغرور انسحب على بعض الوجوه النيابيّة الجديدة التي جاءت إلى المجلس تحت عنوان التغيير، حيث تمخّضت مخيلات بعضهم عن طرح غبيّ، بترشيح شخصيّة غير شيعيّة لرئاسة مجلس النواب، الأكيد ان صاحب هذا الطرح معذور لأنه على ما يبدو قادم من منطقة الجهل، لا يعرف تركيبة البلد وحقوق الطوائف وحدود المواقع والسلطات والرئاسات والصلاحيات.
وعلى حلبة الغرور ذاتها، تمخّضت مخيلة أحدهم عن فكرة جديدة تقول ما حرفيته: «لن نقبل بنبيه بري رئيساً لمجلس النواب، فنحن (التغييريّون) و»القوات اللبنانية» وحدنا نشكّل الثلث المعطّل في المجلس، نتحكّم بالنصاب، فإن لم نحضر الى جلسات مجلس النواب لا تنعقد». اشارة هنا الى انّ هذه الفكرة كانت محل تَندّر في الاوساط المجلسية حيث جاء الجواب عليها: «إنّها بالفعل فكرة جديرة بالتمعّن فيها، ولكن من اين استوردها؟ ربما كان لصاحب هذه المخيّلة الخصبة ان يوفّر على نفسه هذا السقوط، لو انه ألقى نظرة سريعة على الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب. وإذا كانت البداية مع مثل هذه الافكار النوعيّة.. وطحين بَدنا ناكل؟!
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إلى أين؟
على ما هو مؤكّد فإنّ انتخاب رئيس المجلس سيحصل، والرئيس بري هو المرشّح الوحيد، ولن يعثر الصراخ الانفعالي المتصاعد على مرشّح غيره لا في المجلس النيابي الجديد، ولا حتى في المريخ. ونتيجة هذا الانتخاب ستخبر عن نفسها في غضون أيّام قليلة.
وعلى ما هو مؤكّد ايضاً، هو ان الحرب الكلامية الدائرة على من يتربّع على قمة التمثيل المسيحي، بين «القوات اللبنانية» والتيار الوطني الحر، ستتواصل ضرباً تحت الحزام بينهما في كل محطة، وعلى كلّ منعطف، وعلى مشارف كل الإستحقاقات الحكومية والسياسية والادارية وغير الادارية، وصولاً الى المُناطحة الكبرى بينهما على حلبة الاستحقاق الاكبر المتمثّل بانتخابات رئاسة الجمهورية.
والأكيد ايضا، هو أنّ فرصة أتاحَها الرئيس بري بمَد يده الى الجميع للحوار والشراكة في رسم خريطة إنقاذ البلد وإخراجه من أزمته، قابَلها سمير جعجع بسلبية غير مفاجئة لا بل متوقّعة ويُشاركه في ذلك بعض ممّن يقدمون أنفسهم سياديين وتغييريين. وكذلك جبران باسيل الذي بِهجومه على الرئيس بري غَلّب الحقد على السياسة، ووَسّع دائرة اشتباكاته وأشعَل جبهة صدام إضافية، ونقل العلاقة بين التيار الوطني الحر وحركة «أمل» من جمر تحت الرماد، الى جمر ونار فوق الرماد وتحته.
واما الولاية المجلسية الجديدة، فبالتأكيد لن تكون وردية، بل انها مع الخريطة النيابية الجديدة، او بمعنى أدق خريطة التباينات والمواجهات والمُفخخات، ستقيم فوق رمال متحركة.. فأيّ إنقاذ أو اصلاح سيكون مع هذا المشهد؟ بل أيّ لبنان سيكون في الآتي من الأيام؟