يجهد المتعاطون في ملفّ الانهيار الاقتصادي، وواضعو خطط الإنقاذ، في ابتداع أفكار وخطط واقتراحات يبتغون من خلالها وضع هندسة علمية لطريق يؤدّي الى إنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي الغارقة فيه، قابلة للتنفيذ، واقعية، تراعي في كلفتها قدرة أطراف الأزمة الأربعة (الدولة، مصرف لبنان، المصارف، والمودعين) على تحمّل تداعياتها، والصبر المطلوب منهم بانتظار البدء بلمس مداخيلها أو التعويضات المتوقعة منها.
أكثر الاقتراحات التي دار حولها الجدل والتراشق السلبي والايجابي، كان اقتراح جمعية مصارف لبنان الذي نادى بوضع أملاك الدولة ومؤسّساتها الاستثمارية (لا بيعها)، في عهدة صندوق سيادي وإدارة واحدة، مستقلة وموثوقة، لاستعمال عائداتها في ردم الفجوة المالية، وإعادة أموال المودعين، وإنقاذ القطاع المصرفي، وتسديد ديون الدولة المترتبة لمصرف لبنان والمصارف. لكن هذا الاقتراح ضاع بين “شعبوية” الادّعاء بقدسية أملاك الدولة، وبين حفظها للأجيال القادمة، في مسعى سياسي هدف الى إقفال الطريق على هذا الاقتراح، ومنعه من التحقق ربما للإبقاء على مزاريب المصالح والهدر “شغالة” في المؤسسات المعنية، خدمة للزبائنية والمصالح السياسية والفئوية، وربما أيضاً للذهاب الى أهون الحلول الذي اعتاد عليه أهل السلطة، وهو الاستدانة والعيش على المنح والمساعدات الخارجية.
سجال المصارف – الشامي!
الجميع في مركب واحد: أهل المصارف المأزومة، جمهور المودعين التائه ما بين خطط الدولة “الإنقاذية”، والتحسّر على جنى العمر، المساهمين والمكتتبين في السندات السيادية أو غيرها. كل هؤلاء يترنّحون في الأهوال، من دون ربّان موثوق، لا القفز منه ينقذ ما بقي، ولا البقاء فيه مضمون النتيجة، فإلى أيّ حلّ يلجؤون؟
في هذا الوقت، برز الأسبوع الماضي سجال بين جمعية مصارف لبنان نائب رئيس مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال سعادة الشامي على خلفية الهجوم التي شنّته الجمعية على خطة التعافي التي أقرّتها الحكومة “أبشروا أيها المودعون، لأن الدولة ألغت ودائعكم بـ”شخطة” قلم. فهذا كل ما تمخض عن عبقرية “الخبراء”، بالرغم من وجود خطط بديلة واضحة، ولا سيما تلك التي اقترحتها جمعية مصارف لبنان والقاضية بإنشاء صندوق يستثمر، ولا يتملك، بعض موجودات الدولة وحقوقها، ليعيد إلى المودعين حقوقهم، وإن على المدى المتوسّط والبعيد”. وهذا ما استدعى الرد من الشامي “من المؤسف أن يطالعنا ببان صادر عن جمعية المصارف أقل ما يقال فيه إنه مجافٍ للحقيقة، ويمثل عملية هروب إلى الأمام في محاولة مفضوحة تدّعي حماية المودعين”.
ولكن بيان جمعية المصارف لم يكن موضع إجماع من أعضاء مجلس إدارتها، فبعد تبرّؤ أمين الصندوق السابق في الجمعية تنال الصباح من مضمون البيان وتحميله مسؤولية مضمونه للأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف، أكد رئيس مجلس إدارة بنك لبنان والمهجر سعد أزهري لـ”النهار” أن هذا البيان لم يوزّع على الأعضاء قبل نشره وتالياً فإنه لا يمثّل الجميع في مجلس الإدارة”، وقال “إننا نكنّ للدكتور سعادة الشامي كل الاحترام والتقدير فهو مشهود له بالخبرة والكفاية والاستقامة. ونقدّر كل الجهود التي وضعها في الإشراف على خطة التعافي”. ولكن أزهري يرى أن “الحلّ لمشكلة الفجوة المالية لدى مصرف لبنان المقدرة بنحو 60 مليار دولار يقع على عاتق الدولة، كما هو معلوم ومتّبع من تجارب معظم الدول في العالم”.
تعويل على إيرادات الغاز والنفط للإنقاذ؟
إن كان تركيز المصارف على الإفادة من أملاك الدولة، يغرّد أزهري خارج سرب القطاع بإشارته الى أن “لدى الدولة اللبنانية إيرادات مهمّة من مداخيل النفط والغاز المستقبلية التي يمكن أن تردم الفجوة المالية لدى مصرف لبنان، إذ تمثّل هذه الوسيلة أداة منصفة وعادلة لاسترجاع المودعين لأموالهم ولضمان فعالية القطاع المصرفي في المستقبل”.
وفي التفاصيل يشير أزهري الى أن “الفجوة المالية لمصرف لبنان تتمثل بودائع المودعين التي أودعتها المصارف بدورها في مصرف لبنان، والتي جاءت في الأغلب نتيجة الإجراءات التنظيمية التي فرضها مصرف لبنان على المصارف. وقد استعملت هذه الفجوة، (التي قدّرتها الورقة الإصلاحية للحكومة بـ60 مليار دولار) في نفقات توزعت بشكلٍ تقريبي على الآتي: 20 مليار دولار على حماية سعر الصرف الثابت، 20 مليار دولار على قروض للدولة، و20 مليار دولار على الواردات من السلع والخدمات الأساسية. أي يمكننا القول إن الفجوة المالية قد نجمت عن نفقات لدعم الاقتصاد اللبناني، وتالياً فإن تحمّلها يقع على عاتق الدولة”. وهذا يعني برأي أزهري أن “المصارف والمودعين غير ملزمين من الناحية المعنوية والقانونية ومن منطق العدالة والإنصاف بتحمّل خسائر الفجوة المالية”. ولكنه في المقابل، يرى أن “على المصارف أن تتحمّل الخسائر التي نجمت عن توظيفاتها في القروض للقطاع الخاصّ وفي السندات السيادية للدولة وعن تدنّي سعر الصرف حيث إن معظم أموالها الخاصة هي بالليرة، والتي قد تؤدي إلى فقدانها معظم أو كل رأسمالها، الأمر الذي يستوجب على مساهميها إعادة بناء رأسمالها أو تصفية أعمالها ومغادرة السوق المصرفي. وهذا يعني أيضاً أن المصارف لا يجب أن تتحمّل خسائر مصرف لبنان لأنها خسائر لم ترتكبها”.
ويقول أزهري “ما يعزز هذا الموقف أن لدى الدولة موارد حالية ومستقبلية يمكن أن تستغلّ لإغلاق الفجوة المالية لدى مصرف لبنان. ومن أهم هذه الموارد وأكبرها حجماً الإيرادات المستقبلية من احتياطات النفط والغاز الواقعة على الشواطئ اللبنانية، والتي إن استُعمل جزء منها تلغي الحاجة لشطب ودائع المودعين (خصوصاً الكبار منهم كمؤسسات الضمان والنقابات) أو نقل قيمة ودائعهم إلى أسهم لإعادة رسملة المصارف تغطيةً للخسائر”.
تشير المسوحات الزلزالية المزدوجة والثلاثية الأبعاد(2-D and 3-D Seismic (Surveys التي قامت بها 3 شركات متخصّصة من ضمنها شركة Spectrum النروجية بإيعاز من الدولة في العقدين الماضيين، إلى أن احتياط الغاز يراوح بين 25 trillion cubic feet و96 trillion cubic feet كما يصل احتياط النفط إلى 865 million barrel. وبحسب السعر الحالي لبرميل النفط الذي يبلغ نحو 110 دولارات، فإن الإيرادات المتوقعة من النفط المستخرج قد تصل إلى 95 مليار دولار. كذلك الأمر بالنسبة لإيرادات الغاز التي قد تراوح بين 250 مليار دولار و950 مليار بحسب السعر الحالي. وتشير التقديرات الأولية إلى أن الحد الأدنى للإيرادات يبلغ ما يقارب 345 مليار دولار، وتالياً يرى أزهري أن “الإيرادات المستقبلية من قطاع الطاقة توفر موارد متاحة لسد الفجوة المالية لمصرف لبنان ولإرجاع أموال المودعين. وعلى هذا الأساس، من الآليات المناسبة لتفعيل هذا الحلّ، رصد 20% من إيرادات النفط والغاز ووضعها في (SPV) Special Purpose Vehicle تنشأ خصيصاً لهذه الغاية. وبالتحديد، تمثل الـSPV شركة مستقلة، تُوزّع بعدها أوراق مالية (أسهم أو حقوق) على المودعين بحيث تتناسب قيمة الأوراق مع حجم الوديعة لكل مودع”. كذلك يمكن وفق أزهري “إدراج الأسهم أو أوراق الحقوق الصادرة من الـSPV على سوق البورصة، لكي توفّر السيولة الآنية للمودعين أصحاب الأسهم من جهة، ولكي تسهم في تطوير البورصة واستقطاب التدفقات الرأسمالية الخارجية من جهة أخرى”.
ممّا لا شك فيه أن ردم الفجوة المالية لمصرف لبنان أمر ملحّ وأساسي في أي خطة تعافٍ وإصلاح تتبنّاها الحكومة، لذا يرى أزهري أن اقتراحه “يُعدّ حلاً عادلاً وعملياً ولا يشكل عبئاً إضافياً على مالية الدولة. وعلى القدر نفسه من الأهمية، يمكن إقراره في الحكومة وفي مجلس النواب بسهولة وسرعة لأنه في المقام الأول يحمي ويرجع أموال المودعين، كما أنه يوقف التوجّه نحو إفلاس المصارف، وبذلك يسهم في استعادة دورها الأساسي في الاقتصاد بفعالية وحيوية. ولا نبالغ في القول إن الحاجة ماسّة لإقرار هذا الحلّ، وربما الأهم من ذلك للبدء بالتنقيب واستخراج النفط والغاز”.