انطوان فرح – الجمهورية
مع قدوم الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي إلى بيروت، تكون المؤسسة المالية الدولية قد أصبحت على تماسٍ دائمٍ مع الوضع اللبناني. فهل يعني ذلك انّ التفاهمات بين السلطات اللبنانية والصندوق أصبحت ميسّرة أكثر؟
يراقب صندوق النقد عن كثب ما يجري في لبنان، خصوصاً بعد عقد الاتفاق الاولي معه، والموافقة على خطة التعافي التي قدّمتها الحكومة. ومنذ ذلك الحين، يتابع القيّمون على الملف اللبناني في الصندوق الوضع بقلق، خصوصاً ما يتعلق منه بنقطتين:
اولاً- مسار الإصلاحات الموعودة، والتي التزمت الحكومة تنفيذها كشرط الزامي للوصول الى اتفاقية برنامج تمويل مع الصندوق.
ثانياً- السياسة النقدية وقرارات الدعم التي تؤدّي الى استنزاف المزيد من الاموال التي لا تزال متوفرة في مصرف لبنان.
وكان الانطباع السائد في الصندوق، انّ سياسة دعم الليرة جزئياً، والتي تلتهم الاحتياطي المتبقي من العملات، قد تتوقف بعد الانتخابات، او تتراجع وتيرتها، في موازاة تسريع الإجراءات المطلوبة لإنجاز اتفاق التمويل مع الصندوق. لكن المفاجأة جاءت عكسية، إذ عمد مصرف لبنان إلى ضخ المزيد من الدولارات في السوق للجم تراجع الليرة، في ظلّ ارتفاع منسوب النقمة الشعبية وغليان الشارع.
وهناك تساؤلات في شأن الأسباب التي دفعت الليرة الى التراجع بسرعة عقب الانتخابات النيابية، ولماذا لم يؤثر الإنفاق الانتخابي السخي في دعم الليرة، طالما انّ الجميع يتفق على انّ هناك مئات ملايين الدولارات أُنفقت في خلال شهرين؟
الجواب ينقسم الى ثلاث نقاط:
اولاً- ما دُفع في موسم الانتخابات ساهم في لجم تراجع الليرة، على عكس ما يعتقد البعض، ولولا هذه الاموال الإضافية التي رُميت في السوق، لما تمكّن مصرف لبنان في تلك الفترة من خفض حجم تدخّله في سوق الصرف، وخفّض بالتالي حجم خسائره اليومية لدعم الليرة.
ثانياً- استفاد المضاربون الكبار الذين يمتلكون قدرات نقدية بالليرة من الظرف المؤاتي لشراء الدولارات وتكديسها، او تهريبها الى الخارج.
ثالثاً- في غياب دور المصارف، لم يدخل سوى قسم من هذه الاموال الانتخابية الى الدورة الاقتصادية، في حين ذهب القسم الآخر الى الادخار في المنازل، بما لم يؤثّر في شيء على وضعية سوق الصرف.
بعد الانتخابات، ومع انتهاء مفعول الاموال الانتخابية، عادت الليرة الى مسيرة الهبوط السريع، والتي تعكس في الواقع حقيقة السوق، وحقيقة سعر الليرة في ظلّ الوضع القائم. ومن جديد تدخّل مصرف لبنان، زاد حجم خسائره وأوقف استمرار انهيار العملة الوطنية.
هذا الواقع شكّل صدمة في صندوق النقد، حيث يعرف المسؤولون فيه، انّ كل دولار يخرج من المركزي قبل البدء في تنفيذ خطة التعافي، يؤثّر سلباً على إمكانية نجاح الخطة المُتفق عليها مع الحكومة. والمشكلة هنا، انّ المسؤولين في الصندوق يدركون انّه يصعب النزول أكثر في مستوى إعادة الودائع الى أصحابها. إذ ما قرّرته السلطات اللبنانية يمثل سابقة لم تشهدها دول أخرى. فهناك دول قرّرت إنقاذ مصارفها واقترضت من صندوق النقد لتحقيق ذلك، مثل ايرلندا، وهناك دول لم تبادر الى إنقاذ مصارفها، لكنها التزمت إنقاذ ودائع ابنائها دون سواهم، مثل ايسلندا. لكن لا توجد دولة سطت على أموال ابنائها، وقرّرت ان تشطب ما أخذته وتحمّله لمصارفها ولمواطنيها. وبالتالي، يدرك صندوق النقد، انّ أي تحديث للخطة بهدف إجراء خفض إضافي في دفع اموال المودعين، لن يكون متاحاً. وقد بدأت الاسئلة ترتسم على طاولة الصندوق: هل انّ الخطة المتفق عليها لا تزال قابلة للتنفيذ رغم انّ الاموال التي تمّ احتسابها يوم أُقرّت الخطة تراجعت كميتها بحوالى الملياري دولار؟ وكيف سيتمّ تعويض هذا النقص الإضافي؟ وماذا سيكون الوضع إذا استمر النزف طوال العام 2022، بما قد يستنزف أكثر من ملياري دولار اضافيتين. هل يمكن بعدها الإبقاء على الخطة كما هي؟
يسعى صندوق النقد إلى الاقتراب أكثر من الأزمة اللبنانية من خلال إرسال مندوب دائم مقيم في بيروت. لكن الوضعية الجديدة لن تغيّر الكثير، وهذا الأمر اثبتته التجارب السابقة، إذ لم يساهم وجود مسؤول مقيم للبنك الدولي في بيروت في تغيير اسلوب التعاطي المزري مع الأزمات. ولطالما شكا مندوبو البنك الدولي من طريقة تعاطي المسؤولين اللبنانيين مع الملفات التي كانت تُطرح امامهم. ولا بدّ من التذكير مجدداً، ولو من باب التكرار المُمل، بما كان يقوله المسؤول السابق للبنك الدولي في بيروت فريد بلحاج، والذي كان يروي انّه كلما عرض لمشكلة أمام المسؤولين اللبنانيين وحذّرهم من نتائجها، كان جواب المسؤولين متشابهاً: نحن في لبنان حالة خاصة لا تنطبق علينا المفاهيم التي تُطبّق في دول أخرى… وكان بلحاج يقول انّ بعض المسؤولين يعتقد انّ لبنان خارج جاذبية الارض، وهنا جوهر كل الأزمات.