نبيل هيثم – الجمهورية
لا يختلف اثنان على انّ مهمة الرئيس المكلف نجيب ميقاتي في تأليف حكومة بحجم المرحلة وقادرة على التصدّي للأزمة الخانقة والتخفيف من أعبائها، هي مهمّة غاية في الصعوبة.
ولا يختلف اثنان ايضاً على انّ ما زاد من صعوبة مهمّة الرئيس المكلف، هو الإحجام عن تلقّف يده التي مَدّها الى كلّ المكونات السياسية للتعاون والشراكة في تحمّل المسؤولية في ظرف تجاوزت فيه الأزمة كلّ الخطوط وتُنذر بعواقب وخيمة إن استمر استفحالها.
كان الرئيس المكلف واقعيّاً في مقاربة الازمة وصعوباتها، وتناغَم معه عقلاء شخّصوا الازمة وويلاتها، وقدّموا نصيحة لوجه الله بأنّ مدخل الخروج منها هو بتشكيل حكومة بحجمها، ولتترك هذه الحكومة تعمل، ولا يُضيّع تأليفها بالإستقالة من المسؤولية ومن الشراكة في الانقاذ، او بالمماحكات، والإرادات المتصادمة، والشهوات البلا حدود، والأفواه المفتوحة، والأوراق المستورة، والأوراق المبعثرة، او بسوء تقدير او بسوء نيّة او بجهل، او بتَشاطر وتَذاكٍ، او باستغباء واستغفال واستعلاء.
على باب التكليف، كان للرئيس نبيه برّي نداءٌ الى الشركاء في الوطن: تعالَوا نربح البلد، ونوفّر العلاجات المطلوبة له!
لم يأت نداء بري هذا من فراغ، بل هو نداء يسحب نفسه على كلّ مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية واستحقاقاتها، وفي مقدمها الاستحقاق الحكومي، فهو العالِم بخفايا السياسة اللبنانية، والقلق من أن يُظلِمَ المستقبل أكثر، ويضيع البلد ويندثر في دهليز الازمة الذي يضيق لا بل ينعدم فيه الافق.
ولأنّ اليد الواحدة لا تصفق وحدها، لطالما سعى بري الى أن تسري في هشيم السياسة الداخلية، المُسلّمة القائلة انّ «العلاج لوضعٍ مَرَضي صعب مسؤولية مشتركة، وهذه المسؤولية المشتركة هي السبيل الوحيد لاستيلاد البلد من جديد. لا فرق ان خسرنا نحن، المهم الا يخسر البلد، ومن هنا فإنّ الجميع معنيون بأن يقدموا للبلد ويتشاركوا في وضع حد لمعاناته بعيداً عن اي مصلحة ذاتية او آنية. كلنا في المركب وواجبنا ان ندفع به الى بر الامان وإلّا غرق وغرقنا معه».
ولطالما قال: «لقد داهمنا الوقت، ولم يعد احد يملك ترفه، وفي هذا الوقت الضيق، ما زالت الفرصة متاحة أمامنا لكي نوجّه البوصلة في الاتجاه الصحيح. ولنوقِف «مزراب» الحكي طالِع نازِل، فكثرة الكلام لا تنفع، الناس شبعت من الحكي، الناس تريد ان ترى افعالاً، أفلا تفعلون؟».
كان يؤمل ان يلقى هذا الكلام من يتلقّفه، أو يجذب من يختزن في نفسه بعضاً من حرص على البلد واهله، ومصيرهما المطوّق بخطر وجودي، ولكن يبدو ان الزمن السياسي الراهن هو زمن «طُرشان» صُمّت فيه الآذان، واصحابها مستوطنون في برية قاحله، و»متعَمشقون» على شجرة احلامهم وشعاراتهم لا ينزلون عنها الا وقد حلّت كارثة تذهب بالبلد واهله وتمحو تلك البرية وتقتلع معها كل الاشجار ومن عليها.
الثابت الأكيد في هذا الزمن، انّ ثمة من لا يريد ان يسمع، فلا نداءات ولا دق اجراس الخطر، ولا تشخيص واقعياً للازمة، يمكن أن تُصرف في مشهد سياسي مقفل على مكونات سياسية تناقضاتها وانقساماتها اعمق من الازمة نفسها.
حينما كلّف ميقاتي تشكيل حكومته السابقة كان جريئاً في قوله امام أزمة معقدة، انه لا يملك عصا سحرية؛ وقوله هذا ينطبق بالتأكيد على تكليفه الحالي، ولا مبالغة في القول ان ميقاتي، في تكليفه تشكيل آخر حكومات عهد الرئيس ميشال عون، لا يحتاج الى عصا سحرية لتشكيل حكومة تقتحم الازمة وتهزمها، بقدر ما هو يحتاج الى عصا سحرية تُعينه على فهم ما تريده مكونات تقول الشيء وعكسه في آن معاً؛ تريد منه كلّ شيء فيما هي لا تقدم له شيئاً من شأنه أن يسهّل مهمته. تريد حكومة تدير البلد وتؤمّن شؤون الناس، ولا تريد ان تشارك فيها. تريد حكومة انقاذ ولا تريد ان تكون شريكة في هذا الانقاذ. تريد حكومة منتجة وتحدّد مواصفاتها وترسم لها خريطة طريق، وفي الوقت نفسه تزرع في طريقه عقبات ومطبّات، وتنتظر ان تتشكل الحكومة لكي تنال منها باللوم والذمّ والهجاء.
في هذه الدوامة، تَموضع من سَمّوا أنفسهم تغييريين او سياديين، وحسموا خياراتهم وانكفأوا وقرروا عدم المشاركة في ما اعتبروها حكومة السلطة، مع انّ بعضهم نادوا بحكومة بصلاحيات تشريعية، وإن دلّ ذلك على شيء فعلى جهلٍ فاقِع لا بل مفجع بأصول العمل البرلماني والتشريعي، فبالتأكيد انهم لا يعرفون انهم بطرحٍ يَستسهلون تقديمه، ويتنازلون فيه عن صلاحياتهم التشريعية ويمنحونه للحكومة، يفقدهم دورهم التشريعي لا بل معنى وجودهم اصلاً في مجلس النواب، ويجعلهم عاطلين عن العمل.
ومع هذا الانكفاء، لم يبق أمام ميقاتي سوى ان يَعبر مع «الشركاء» الطريق المؤدي الى حكومة، ومن هنا جاءت مبادرته بتقديم أسرع تشكيلة حكوميّة الى رئيس الجمهورية، الذي قابَلها بسلّة من ملاحظات ظاهرها رئاسي، وأما باطنها فيحور ويدور حول حكومة بشروط تياره السياسي، برغم ان هذا التيار لم يسمِّ ميقاتي، واعلن انه لن يشارك في الحكومة، وانه لن يمنحها الثقة، ومع ذلك يريد أن يفرض شروطه.. وتَوجُّه التيار هذا اشار اليه ميقاتي بشكل واضح من الديمان. وما بين تشكيلة وزارية وملاحظات رئاسية، افترق الشريكان في لقائهما الأخير في بعبدا على اساس أنّ للبحث صلة.
في الأساس لم يطرح ميقاتي تشكيلة وزارية مُنزلة، لكن بدل أن تقدّر خطوته بالتعجيل بتقديمها مراعاة للوقت الضيّق وحاجة البلد الملحّة الى حكومة كاملة المواصفات والصلاحيات، تعالت أصوات تأخذ عليه استعجاله، وتسرّبت التشكيلة بقدرة قادر، ورُوِّج مع هذا التسريب المأذون به اتهام لميقاتي بأنّه «حَشر» رئيس الجمهورية بتشكيلة يرفضها.
وفي مقابل هذه الاصوات، جاء من يقول: «يا جماعة طَوّلو بالكم على الرجل، إنْ عَجّل مصيبة، وإنْ لم يعجّل مصيبة. البلد يحتضر، والرّجل قام بما يُمليه عليه واجبه، وتصرّف وفق ما يمنحه الدستور من صلاحيات في تأليف الحكومة. وطرح تشكيلة للنقاش والتفاهم عليها مع رئيس الجمهورية، فناقِشوه وجادِلوه بالتي هي احسن ان كانت النوايا سليمة وصافية وراغبة في تأليف حكومة، لا ان تعجّلوا بفتح النار عليه وتشنّوا حملة هوجاء».
ولكن هذا الكلام هزمته المكابرة؛ فالمنطق البرتقالي يُجادل بالتمسّك بمعايير ترقى الى مستوى القداسة، وتشكل الممر الالزامي لأي حكومة جديدة، ورئيس الجمهورية المالك لقلم توقيع مراسيم الحكومة، لن ينزل ابداً عن سقف تلك المعايير. وبالتالي لا يمكن ان يقبل بحكومة تُنهي العهد قبل أوانه، على ما ترمي اليه تشكيلة ميقاتي، وهي في الاساس تشكيلة غير بريئة تخفي نوايا مبيّتة. والكرة لم تعد في ملعب رئيس الجمهورية
هذا المنطق يبرّر لعون تمسّكه بمعاييره وشروطه، ويخطّىء كلّ المراهنين على ليونة منه حيالها، وفي خلفيّته انّ معركة التأليف الحالية بالنسبة الى رئيس الجمهورية والى تياره السياسي هي معركة وجوديّه. وانّ الرئيس يدرك بالتأكيد ما آلَ اليه حال تياره من انحدار وهبوط مُتسارع من القمة الى ما دونها. وربما يكون قلِقاً ممّا هو مُقبل عليه هذا التيار بعد انتهاء ولايته، حيث أنّ هذا التيار سيجد نفسه، مع رئيسه جبران باسيل تحديداً، «مزلّطاً» رئاسياً، ومحشوراً في زاوية علاقات مأزومة مع الجميع – ويجب الّا ننسى العقوبات – وكذلك سيجد نفسه في صراع مرير للبقاء على قيد الحياة السياسية امام جبهة واسعة من خصوم يسنّون أسنانهم من اليوم للنيل منه. ومن هنا، فإنّ رئيس الجمهورية يخوض آخر معارك تياره على حلبة آخر حكومات عهده، لعله يبني فيها جدار حماية، يحصّن تياره السياسي، ما بعد تشرين الاول المقبل، ويُبقيه حاضراً في المعادلتين السياسية والحكومية.
في الخلاصة، رئيس الجمهورية يريد حكومة بمعايير تياره السياسي ترقى الى مستوى القداسة بالنسبة إليه، وهو ما لم يلحظه في تشكيلة ميقاتي.. والرئيس المكلف قدّم من خلال تشكيلته صورة الحكومة التي يريدها مراعية للتوازنات، ومعروف عنه ان يتقن تدوير الزوايا، الا أنّ بعض زوايا المعايير المطروحة حادّة غير قابلة للتدوير. وما بين هذين التوجّهين دخلت الحكومة في «دوّيخة» يبدو أنّها رَحّلتها، في احسن تقدير، الى ما بعد انتهاء الولاية الرئاسية، الا اذا حصلت معجزة في الساعات المقبلة، أعادت توطين عقل الرحمن في بعض الرؤوس، وأعطت الإذن بالافراج عن الحكومة؟!