عزة الحاج حسن – المدن
بعد مرور عدة أشهر على تنفيذ إدارات ومؤسسات القطاع العام إضرابات تحذيرية متقطعة، ورفعهم مطالب عدة تدور بمجملها حول تحسين مداخيلهم وتعويض رواتبهم التي فقدت نحو 90 في المئة من قيمتها، دخل موظفو وعاملو القطاع العام إضراباً مفتوحاً لا تراجع عنه قبل تحقيق المطالب. ولعل أخطر ما في الإضراب العام اليوم عرقلة عمل كافة المرافق العامة وتراجع خدماتها للحدود الدنيا، بما فيها حركة الاستيراد والتصدير وحركة الملاحة الجوية وعمليات الصرف المالي في وزارة المال وغيرها من مفاصل الدولة.
ولعل إصرار موظفي القطاع العام اليوم على الإضراب المفتوح وعدم التراجع عن تنفيذ مطالبهم “ورفض أي مفاوضات للتنازل عن الحقوق وتعليق الإضراب، يعود إلى شعورهم بالغبن، ليس لانهيار قيمة رواتبهم فحسب بل لأن السلطة تتعامل باستنسابية مطلقة مع ملف المطالب، فتُمرّر قرارات لتعديل رواتب فئات وظيفية دون سواها وتُطلق الوعود لتسوية أوضاع فئات أخرى، ولا تأتي لتقديم معالجة شاملة للقطاع العام”.
وعلى الرغم من علم الجميع واعترافهم بفشل الدولة في معالجة ملف موظفي القطاع العام حين أقرت سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 بمعزل عن أي إجراءات وقائية أو إصلاحية مترافقة مع قرار شعبوي متسرّع، تتّجه السلطة السياسية اليوم إلى تكرار الخطأ عينه الذي شكّل في العام 2017 “القشة” التي قصمت ظهر الدولة اللبنانية المثقل أساساً بالديون والعجز والفساد والهدر، فالحكومة تعمل في الكواليس على تلبية مطالب بعض الفئات في القطاع العام لتحسين مداخيلهم دون زملائهم، فلا تكترث لمخالفة مبدأ العدالة بين الموظفين ولا لتداعيات زيادة الإنفاق وانعكاسه على سعر الصرف من دون حلول شاملة للرواتب والأجور تبدأ بإعادة هيكلة القطاع العام.
مطالب القطاع العام
أعلنت روابط القطاع العام، من عاملين ومتقاعدين من مختلف الأسلاك، ورؤساء الوحدات المركزية والإقليمية في وزارة الزراعة ورؤساء الوحدات في مديرية المالية العامة (مديرية الواردات والضريبة على القيمة المضافة، مديرية الصرفيات، مديرية المحاسبة العامة، مديرية الدين العام، مالية النبطية، مالية لبنان الشمالي، مالية عكار، مالية البقاع، مالية جبل لبنان، مالية بعلبك الهرمل، وبالتنسيق مع مديرية الخزينة ومديرية الموازنة ومراقبة النفقات ومديرية الشؤون الادارية ومالية لبنان الجنوبي) وفنيّو مصلحة الأرصاد الجوية في المديرية العامة للطيران المدني وقبلهم رابطة موظفي القطاع العام عدم التراجع عن إضرابهم العام والمفتوح، لحين تعديل الرواتب والأجور باستثناء بعض الإدارات التي أعلنت تعليق الإضراب نهاية شهر تموز، إفساحاً في المجال للبحث بالحلول وتنفيذ المطالب، وإلا فإلى تصعيد جديد مع بداية شهر آب المقبل. باختصار توقف القطاع العام بكافة مفاصله عن العمل إلى حين تحسين أوضاعهم المعيشية.
أما المطالب فلا تقتصر على زيادة راتب أو مساعدة إجتماعية كما سبق لوزارة العمل أن اقترحت، فروابط القطاع العام تطالب بتصحيح الرواتب تصحيحاً عادلاً يعوض قيمتها الشرائية التي انهارت بشكل مأسوي أي 900 في المئة، مع رفع الحد الأدنى للأجور، دعم الصناديق الضامنة، خصوصاً صندوق تعاضد أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، وتعاونية موظفي الدولة بما يؤمن النسب ذاتها التي كانت معتمدة للطبابة والأدوية والاستشفاء والمنح المدرسية، آخذاً في الاعتبار تقلبات سعر صرف العملة الوطنية، وتحرير المساعدة الاجتماعية للأساتذة والمعلمين والموظفين من دوام العمل، وإعطاء قسائم بنزين ربطاً بالمسافة التي يقطعها الموظف للوصول الى مركز عمله، وإعفاء كل الموظفين والمتقاعدين والعسكريين من مطالبتهم بدفع أقساط أولادهم بالدولار الأميركي، وإعطاء تسهيلات لموظفي القطاع العام والمتقاعدين، والإفراج عن الأموال المخصصة للجامعة اللبنانية، وتعزيز موازنتها كي تتمكن من القيام بدورها الوطني وتوفير التعليم لعشرات الآلاف من اللبنانيين.
مطالب أخرى رفعتها روابط القطاع العام كضبط سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار ومكافحة التلاعب وتحقيق إصلاح مالي ومكافحة التهرب الضريبي والجمركي وتعديل نظام الإعفاءات وإصلاح قطاعي الكهرباء والإتصالات وتحسين الجباية وتفعيل عمل لجنة الرقابة على المصارف، وغيرها من المطالب التي لا تندرج تحت سقف مداخيلهم مباشرة إنما تأتي في إطار إصلاحات عامة. وهنا بيت القصيد، فعملية إصلاح رواتب القطاع العام لا يمكن أن تأتي بنتائجها المرجوة أي تحسين معيشة الموظفين ما لم تترافق مع خطط إصلاحية شاملة تعيد للقطاع العام القدرة على الإنتاج وللعملة الوطنية قيمتها، وإلا فإننا سنكون أمام أزمة جديدة قد تُعيد كرّة سلسلة الرتب والرواتب وستُفقد معها قيمة اي زيادات جديدة.
استنسابية التعامل
القرار الذي اتخذه مصرف لبنان ومعه المصارف بعلم من الحكومة وتغاضيها، المتعلق بتعديل رواتب القضاة وقبلهم النواب واحتسابها وفق سعر صرف الدولار المصرفي (8000 ليرة للدولار) لم يأت ضمن خطة شاملة لتصحيح الرواتب والأجور لذلك شكّل دافعاً إضافياً لدى موظفي القطاع العام لعدم التراجع عن إضرابهم المفتوح مهما كانت النتائج “فكيف بالحكومة أن تتحدث عن مخاوف من التضخم وهي تعمل على زيادة رواتب فئات دون أخرى”.
عدم صوغ حلول شاملة لأزمة انهيار الرواتب والأجور للقطاع العام تنبئ بمزيد من التعقيدات والتفكك في إدارات الدولة ومؤسساتها، لاسيما أن الزيادات والمساعدات التي سبق للحكومة أن أقرتها لم تُنفذ بشكل دوري كما خُطّط لها، وبالتالي فأي زيادات جديدة من دون حلول شاملة ستفقد قيمتها سريعاً وربما تبقى حبراً على ورق، وإذا عدنا للأشهر السابقة فنلحظ أن المنحة الإجتماعية التي تتراوح قمتها بين مليون و500 ألف ليرة و3 مليون ليرة لم يتم صرفها بشكل دوري منتظم، بالإضافة إلى تأخرها لأشهر. كما أن بدل النقل التصحيحي الذي أقر مطلع العام 2022 لم يتم لعمل به حتى اليوم. من هنا يتخوف البعض من النقابيين من أن تتجه الحكومة إلى إقرار رفع الرواتب أو أي زيادات اخرى من دون ضمانات لتنفيذها.
حتى رواتب القضاة التي حظيت بزيادات عبر احتسابها وفق سعر صرف 8000 ليرة، فإنها لن تُصرف، لكن ليس لعدم قدرة الدولة على الإلتزام إنما بسبب إضراب موظفي القطاع العام ومنهم مديرية الصرفيات في وزارة المال، الذين باتوا عاجزين عن الحضور إلى أماكن عملهم لضآلة رواتبهم، خصوصاً ان إعداد جداول الرواتب للموظفين يستلزم حضور نحو 10 أيام بالشهر بالحد الأدنى وهو ما يفوق قدرتهم المادية.