الجمهورية
مسار التأزّم السياسي والدستوري مستمر، ومحطاته المقبلة ستبدأ أوائل أيلول، حيث يُخشى أن تتعثر الجلسات لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، تكراراً لما حدث بين 2014 و2016. وفي هذه الحال، تنفجر الأزمة على مداها في 31 تشرين الأول، المفترض أنّه سيكون اليوم الأخير من ولاية الرئيس ميشال عون. فإلى أين؟
بصراحة، أعلن رئيس «التيار الوطني الحر»، جبران باسيل أنّ حكومة تصريف الأعمال التي يترأسها الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي لا يمكنها أن تتولّى مقاليد رئاسة الجمهورية، بالوكالة، فيما الدستور لا يمنح رئيسها ووزراءها سوى الحق في ممارسة حدود ضيّقة جداً من الأعمال العادية، الضرورية لتسيير الشؤون العامة الحيوية للمواطنين. وهذه الحدود الهزيلة لا يمكن أن تخوّلها تولّي صلاحيات الموقع الأول في البلد، وتالياً اختزال السلطة التنفيذية بكاملها.
وثمة من يستطرد ويقول: إذا ورثت حكومة التصريف صلاحيات رئيس الجمهورية، بالوكالة، واختزلت السلطة التنفيذية، فسيعني ذلك أن لا مجال لتأليف حكومة جديدة أو لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في المدى المنظور، لأنّ حكومة التصريف ستكون حينذاك مرتاحة جداً على وضعها، وستُمسك بزمام الأمور بلا منازع، فلماذا تستعجل الرحيل؟
بل إنّ مشكلة دستورية ستولد في هذه الحال، وتتمثّل بسقوط موقع رئيس الجمهورية كشريك في عملية تشكيل أي حكومة. فيكون الرئيس نجيب ميقاتي قد تخلّص من عبء توقيع رئيس الجمهورية لإصدار مراسيم التأليف، وبات متفرّدًا بالقرار في هذا الملف، حيث يمكنه إجراء المساومات والمقايضات السياسية مع كل القوى الأخرى من موقع قوة.
حتى اليوم، لا يبدو فريق عون السياسي مستعداً لتقديم موقع الرئاسة لقمة سائغة، وهو الذي قاتَل سنوات من أجل الوصول إليه، وأبقاه شاغراً أكثر من عامين لكي يضمن تحقيق الهدف.
ويعتبر عون وباسيل أنّ حلفاء «التيار» لم يتخلّوا عنه حتى اليوم، على رغم تعدّد الخيارات المطروحة أمامهم، وأنّهم في أي حال لن يتخذوا أي قرار في ملف الرئاسة إلّا بعد الحصول على موافقته. و»التيار» يبقى، في رأيهم، الحليف الأنسب لتمثيل المسيحيين.
يعني ذلك، وفقاً لهذا المنطق، أنّ الخيار الأنسب للحلفاء هو أن يجددوا البيعة لعون من خلال باسيل، ما دامت الأولويات التي دفعتهم إلى دعم ترشيح عون قبل 6 سنوات تنطبق اليوم على باسيل.
ولكن، من وجهة نظر الحلفاء، هناك حسابات أخرى قيد المراجعة والتدقيق، وأبرزها اعتماد الحليف القديم، رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، هذه المرة، ومن باب التراتبية على الأقل: عون، فرنجية ثم باسيل. عدا عن أنّ باسيل يواجه «فيتوات» داخلية وخارجية يصعب تذليلها سريعاً، في مقابل مقدار من القبول العام بفرنجية.
ربما يطرح حلفاء عون، وفي مقدّمهم «حزب الله»، صيغة تسووية بين الحليفين المارونيين، كأن تكون الرئاسة لفرنجية هذه المرة، مع وعد بأن يبقى باسيل الأقوى مسيحياً طوال العهد، وأن يكون محفوظاً له موقع الخلف. لكنّ أحداً لا يضمن أن تسمح الظروف بتنفيذ تسوية من هذا النوع، بعد 6 سنوات، في بلد تلفحه العواصف وتحمل إليه المتغيّرات.
إذا انتهت الولاية من دون تشكيل حكومة جديدة واتفاق سياسي داخل فريق 8 آذار، فقد يرفع عون عنوان الميثاقية الطوائفية ويعلن رفضه «التفريط» بالموقع الماروني الأول. ويمكنه هنا، في غياب النص الدستوري الواضح، أن يستند إلى اجتهادات وحجج دستورية عدة، فيفرض أمراً واقعاً على الجميع. وفي هذه الحال، سيكون لزاماً على الحلفاء أن يقرّروا: هل يدعمون عون أم تكون لهم خيارات أخرى؟
سيستخدم فريق عون أوراقاً قوية في المواجهة المحتملة، وأبرزها أنّه يقود إحدى الكتلتين المسيحيتين الأكثر تمثيلاً للمسيحيين في المجلس النيابي المنتخَب حديثاً، وأنّه الشريك الأوسع تمثيلاً للمسيحيين داخل فريق 8 آذار. وإبقاء عون خارج التسوية قد يدفعه إلى الوقوف في موقع المعارضة أو التشويش على العهد المقبل، خصوصاً إذا استخدم عنوان الشراكة الوطنية وموقع المسيحيين، كما كان في مراحل سابقة. وفي هذه الحال، قد يتناغم معه الخصوم المسيحيون أيضاً، وبكركي.
«سوء التفاهم» هذا لا يريده الحلفاء، خصوصاً في هذه المرحلة السياسية الحساسة. ولذلك، على الأرجح، سيعملون لابتكار التسويات وتطويق الأزمة قبل أن تظهر إلى العلن.
ولكن، في العادة، لا يتمّ اختيار رئيس الجمهورية في لبنان نتيجة التسويات المحلية فحسب، بل خصوصاً نتيجة المشاورات والمساومات بين القوى المعنية عربياً ودولياً. وسترتبط التسويات بالمناخات الخارجية. فإذا تصاعد التوتر في الأشهر المقبلة، بين المحاور الإقليمية والدولية، فسيعني ذلك أنّ هناك مزيداً من المصاعب سيصيب الملفين الحكومي والرئاسي، وأنّ الوضع اللبناني عموماً سيتعرّض لتعقيدات إضافية.
في هذه الحال، ستكون الأولوية داخل فريق 8 آذار هي الحفاظ على موقع الرئاسة، لأنّ هذا الموقع إذا أفلت من يده في غفلة النزاعات السياسية، وطوال 6 سنوات، فلن تكون استعادته أمراً سهلاً.
ومن هنا شعور عون بأنّ أمامه كثيراً من الخيارات والأوراق التي ما زال يستطيع استخدامها، على رغم من بلوغه الأسابيع الأخيرة من العهد. وكل الاحتمالات والمفاجآت واردة.