ربّما تكون الأزمة الحالية هي الأشدّ في سوريا، إلا أن السنوات السابقة لم تكن بمنأى، هي الأخرى، عن مشاكل توفير سلعة الخبز المدعوم. مقاربة هذا الملف لا تنطلق من الظروف الراهنة وحدها، وإنما من تراكم سنوات من الحصار وسرقة ثروات البلاد والفساد
يومياً، وما إن تقترب الساعة من الرابعة صباحاً، حتى تبدأ تجمّعات المواطنين السوريين بالتشكّل أمام مراكز بيع الخبز المدعوم. عيون قلقة ترصد حركة السيارات القادمة، أملاً في أن يقع بصرها على تلك السيارة المحمّلة بالخبز، وسرعان ما تتشابك أيدي المنتظرين محاوِلةً الوصول إلى شبّاك البيع وتسليم «البطاقة الإلكترونية» للبائع. شريحة أخرى من الناس تفضّل أن تقصد الأفران، وتنتظم في طابور لساعات، لقناعتها بأنها ستحصل، في نهاية رحلة المعاناة تلك، على مخصّصاتها من السلعة، فلا تعود خاوية الوفاض إلى بيتها، كما حدث مراراً عندما كانت تقصد مراكز التوزيع الخاصة.
صحيح أن معاناة الحصول على الخبز المدعوم ليست بالحدث الطارئ على يوميات المواطن السوري، إذ إن مشاهد الازدحام أمام الأفران عمرها سنوات طويلة، إلا أنها لم تكن بهذه الشدّة كما هي اليوم، وإن تبلورت ملامحها فعلياً منذ عام 2014، مع خروج حقول القمح الرئيسة تدريجياً عن سيطرة الحكومة، والصعوبات المتزايدة في عملية استيراد ما تحتاج إليه البلاد لسدّ الفجوة المتشكِّلة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك. صعوباتٌ عمّقتها العقوبات الأميركية الجديدة، التي اتّسعت فعلياً مع بداية عام 2019.
تراجع إنتاج البلاد من محصول القمح مع السنوات الأولى للأزمة، وتراجعت معه احتياجات الاستهلاك في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة متأثّرة بسير المعارك وحركة النزوح، وهو، ربّما، ما جعل الفجوة المتشكِّلة بين المتاح من الإنتاج المحلي وحجم الاستهلاك ضمن دائرة السيطرة. لكن كلّ شيء تَغيّر مع بدء استعادة الحكومة السيطرة على مساحات واسعة؛ ففي الوقت الذي بقيت فيه حقول القمح المؤثّرة في معادلة الإنتاج خارج يدها، زادت كميات الاستهلاك مقارنة بالسنوات الأولى من عمر الأزمة، وذلك تحت تأثير عوامل أساسية، أبرزها:
– زيادة عدد السكان الموجودين ضمن مناطق سيطرة الحكومة، وعودة بعض اللاجئين من دول الجوار إلى مدنهم وقراهم.
– زيادة استهلاك الأسرة الواحدة من الخبز كتعويض عن عدم القدرة على شراء مواد غذائية أخرى.
– ارتفاع كميات الخبز المهرّبة إلى مربِّي الثروة الحيوانية باعتباره بديلاً رخيصاً للعلف الذي زادت أسعاره بشكل كبير.
هذا استنتاج تؤكّده الأرقام الرسمية المتعلّقة بكمّيات الطحين الموزّعة على المخابز العامة والخاصة، والتي ارتفعت من حوالى 647.5 ألف طن عام 2016، إلى حوالى 1.4 مليون طن في عام 2019. وكذلك البيانات الخاصة بمستوردات البلاد من القمح، والتي شكّلت في بعض السنوات أكثر من نصف احتياجات البلاد، على رغم الزيادة الملحوظة في الكميات المنتَجة محليّاً والمسلّمة إلى مؤسسة الحبوب الحكومية، والتي ارتفعت من حوالى 500 ألف طن في عام 2017 إلى حوالى مليون طن في عام 2019، ثمّ تراجعت إلى حوالى 500 ألف طن في الموسم الحالي، في حين سجّلت المستوردات حوالى 1.3 مليون طن في عام 2017، وأكثر من 1.1 مليون طن في عام 2019، وبكلفة سنوية تتجاوز اليوم 300 مليون دولار. وتالياً، فإن أكثر من نصف احتياجات البلاد من القمح تبقى رهينة ثلاثة متغيّرات أساسية:
– الضغوط والعوائق المالية واللوجستية التي تتسبّب بها العقوبات الغربية.
شهد سعر الخبز بين عامَي 2013 و2016 ثلاثة ارتفاعات متتالية وصلت إلى 233%
– حجم الطلب الدولي على القمح وتأثّره بحالة الموسم والظروف الطارئة كانتشار فيروس «كورونا».
– إجراءات «الإدارة الذاتية» في منطقة الجزيرة، والتي تعرقل تسليم المزارعين محصولهم من القمح لمؤسّسة الحبوب الحكومية.
في ظلّ هذه الضغوط، قرّرت الحكومة السير في مشروع لضبط الاستهلاك المحلّي من مادّة الخبز المدعوم، ولا سيما أنها كانت على قناعة بوجود هدر وفساد كبيرَين في هذا الملف، سواء في مادة الطحين التي تعتقد الحكومة أن بعض كمياتها تُهرَّب داخلياً إلى مخابز محلية تنتج الخبز السياحي ومعامل معكرونة، وخارجياً إلى بعض دول الجوار؛ أو في مادة الخبز التي باتت لدى بعض مربّي الحيوانات بمنزِلة علف. فكان الاقتراح الحكومي الذي وجد طريقه إلى التنفيذ في منتصف شهر نيسان/ أبريل الماضي، والخاص بحصر توزيع الخبز المدعوم عبر البطاقة الإلكترونية العائلية، لينتهي المشروع برفع سعر ربطة الخبز المدعوم الواحدة من 50 ليرة إلى 75 ليرة، وتخفيض وزنها من 1300 غرام إلى 1100 غرام.
استهلاك غامض
لا يُعرَف على وجه الدقة متوسّط الاستهلاك الحقيقي للفرد من الخبز المدعوم، إذ إن البيانات الرسمية المتاحة، حتى الآن، هي تلك التي تَضمّنها مسح دخل ونفقات الأسرة 2009-2010، والتي أشارت صراحة إلى أن متوسط استهلاك الأسرة السورية من الخبز العادي يبلغ شهرياً حوالى 77.6 كيلوغراماً، ومتوسط استهلاك الفرد 14.4 كيلوغراماً. بيانات يتّفق الاقتصاديون على أنها شهدت ارتفاعاً كبيراً وسط تحوّل شريحة شعبية واسعة إلى الاعتماد على الخبز وسيلةً غذائية «متاحة» للشبع، في ظلّ عدم القدرة على تأمين وجبة غذائية يومية متنوعة، ولا سيما أن التقديرات الرسمية تكشف أن 30% من السوريين كانوا في عام 2018 يعانون من انعدام أمنهم الغذائي، وهي نسبة باتت، مع موجات الغلاء المستمرّة منذ منتصف عام 2019، تصل إلى أكثر من 50%، بحسب تقديرات الباحث المتخصّص في السياسات السكّانية، علي رستم.
لذلك، كان من الطبيعي، في ظلّ غياب بيانات إحصائية دقيقة، أن تكثر أخطاء السياسات الحكومية المتبعة في معالجة ملف الخبز المدعوم، وهذا ما ظهر جليّاً مع التوجّه إلى تطبيق البطاقة الإلكترونية وما رافق ذلك من تردّد حكومي في شأن تحديد المخصّصات اليومية لكلّ أسرة من الخبز. كانت البداية مع تخصيص كلّ أسرة يومياً بربطة واحدة (وزنها الرسمي 1300 غرام). وعند التطبيق وتصاعد الانتقادات الشعبية، تمّ رفع المخصّصات إلى أربع ربطات يومياً بصرف النظر عن عدد أفراد الأسرة واحتياجاتها، فكان أن استمرّت عمليات المتاجرة غير الرسمية بالسلعة ونسبة الهدر، سواء نتيجة تدنّي صناعة الخبز، أو وجود فائض عن احتياجات بعض الأسر الصغيرة. وأخيراً، تمّ توزيع الأسر السورية على أربع شرائح تبعاً لعدد الأفراد المسجّلين على البطاقة الإلكترونية، تحصل بموجبها كلّ أسرة على مخصّصاتها اليومية، والتي تمّ حسابها بناءً على متوسّط حصة الفرد، والمُقدّرة من قِبَل وزارة التجارة الداخلية بحوالى 19.5 كيلوغراماً شهرياً، أي بزيادة قدرها 6 كيلوغرامات مقارنةً بتقديرات مسح دخل ونفقات الأسرة 2009، إلّا أنها نسبة تبقى نظرية في كثير من الأحيان، في ظلّ تلاعب العاملين في بعض الأفران بوزن ربطة الخبز الواحدة، إضافة إلى عدم كفايتها بنظر كثيرين.
ارتفع سعر ربطة الخبز المدعوم من 50 ليرة إلى 75 ليرة، وانخفض وزنها من 1300 غرام إلى 1100 غرام
ومع أنه من الصعب الحكم على التجربة في ظلّ النقص الحاد في عرض الخبز خلال الفترة الماضية، والناجم أساساً عن تأخّر عمليات توريد القمح من الخارج، إلا أن هناك ثغرات عديدة بدت واضحة أثناء عمليات التطبيق، لعلّ أبرزها عدم صحة بيانات العديد من البطاقات الإلكترونية الخاصة بالأسر، وتوجّه الكثير من الأسر إلى تصحيحها، وهو ما يعني زيادة مرتقبة في حجم كميات الخبز المفترض إنتاجها وتوزيعها، كما أنه لا يمكن اعتبار أيّ انخفاض في إنتاج الخبز على أنه توفير لهدر كان يحصل سابقاً، لسببين: الأول أن هناك أفراداً وأسراً لا يحصلون على مخصّصاتهم، إمّا لاعتمادهم على الخبز غير المدعوم أو لعدم قدرتهم على استجرار مخصّصاتهم نتيجة حالة النقص في الكميات المطروحة من المادة أخيراً؛ وثانياً لأن هناك أسراً تمّ تقييد استهلاكها من الخبز مقارنة بالسابق، بدليل الملاحظات التي سجّلها باحثو «المكتب المركزي للإحصاء» أثناء تنفيذ مسح الأمن الغذائي في خلال السنوات الثلاث الماضية، وأهمّها وجود أسر لا يتعدّى طعام أفرادها أحياناً الخبز المدعوم والشاي المحلّى بالسكر، أو أنها تتناول الطعام مرّة واحدة في اليوم.
أكثر من خَيار
شهد سعر الخبز في خلال سنوات الحرب ثلاثة ارتفاعات متتالية بين عامَي 2013 و2016، وبنسبة وصلت إلى 233%، إذ ارتفع سعر ربطة الخبز الواحدة في المرة الأولى من 15 ليرة إلى 19 ليرة، وفي الثانية إلى 35 ليرة، واستقرّ في الثالثة عند 50 ليرة. مع ذلك، بقي حجم الدعم الحكومي كبيراً. ففي الوقت الذي تؤكد فيه التقديرات الحكومية أن كلفة ربطة الخبز الواحدة كانت تصل مع بداية العام الجاري إلى حوالى 275 ليرة، فإن مبيعها كان لا يزال رسمياً بخمسين ليرة قبل نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، الأمر الذي يعني أن خزينة الدولة كانت تتحمّل مبلغاً قدره 225 ليرة عن كلّ ربطة خبز، أو ما قدره يومياً نحو مليار ليرة عن إجمالي كميات الخبز المنتَجة. هو مبلغٌ كان بنظر دوائر القرار الحكومي مرشّحاً للزيادة مع استمرار ارتفاع تكاليف الإنتاج والاستيراد والتضخّم، وتالياً كانت هناك قناعة حكومية بضرورة العمل على تخفيض ذلك الرقم.
لم تخرج الخيارات المطروحة للتعامل مع تكلفة دعم الخبز عن ثلاثة: اثنان طُرحا بشكل رسمي وهما: تقييد عملية توزيع الخبز المدعوم، بحيث تقتصر على الأسر التي قامت فعلاً باستجرار مخصّصاتها خلال الفترة السابقة بموجب البطاقة الإلكترونية، والثاني زيادة سعر ربطة الخبز الواحدة من 50 ليرة إلى 100 ليرة. وقد أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في الـ29 من الشهر الماضي قراراً زادت بموجبه سعر كيلو الخبز من 38 ليرة إلى 68 ليرة، أي بنسبة قدرها 79%. أما الخيار الثالث، فكان يجري تداوله على بعض وسائل الإعلام الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، ويتمثّل في إلغاء الدعم الحكومي كاملاً عن مادة الخبز، كما فعلت بعض الدول في مقابل توزيع الحكومة لكتلة الدعم المخصّصة لهذه السلعة على الأسر بشكل نقدي.
ومع تدنّي الزيادة السعرية الأخيرة بالنظر إلى التراجع الحادّ في القوّة الشرائية لليرة، إلا أنها تبقى مربكة لشرائح اجتماعية معينة، ولا سيما أنها ليست منعزلة أو وحيدة، وإنما تضاف إلى زيادات أخرى كثيرة، بدأت بأسعار السكّر والأرز الموزعَين بموجب البطاقة الإلكترونية، ووصلت إلى مادة المازوت المخصّصة للمنشآت الصناعية، وما تسبب به ذلك من ارتفاع سعر عدد ليس بالقليل من السلع. كما أن العبرة ليست في مقدار الزيادة الرسمية، وإنما في الزيادات الأخرى التي ستليها والمتعلّقة بسعر ربطة الخبز المطبّق لدى مراكز البيع الخاصة، والبالغ قبل الزيادة الأخيرة 100 ليرة، وهو من دون شك سيشهد أيضاً ارتفاعاً قد تُراوح نسبته بين 50-100%، أي أن الربطة ستُباع مع السعر الجديد بما يقرب من 150 ليرة لدى المحالّ والمراكز المعتمدة، الأمر الذي من شأنه زيادة معاناة أسر فقيرة كثيرة، كانت تُضّطر للوقوف عدة ساعات أمام محالّ بيع المواد المدعومة (سكر- أرز) للحصول على مخصّصاتها الشهرية، وتوفير حوالى 500 ليرة في كلّ كيلو أرز أو سكّر. وكما هي العادة أيضاً، فإن المتاجرين بالسلعة في السوق السوداء سيعمدون، في حال عدم تحقيق انفراج كبير في الكميات المطروحة، إلى مضاعفة الأسعار. وبموجب هذه الزيادة، فإن قيمة الدعم الحكومي المقدّم للخبز ستنخفض يومياً بحوالى 165 مليون ليرة، وأكثر من 60 مليار ليرة على مدار العام، أي ما نسبته 6% من إجمالي حجم الدعم المقدّر يومياً بنحو 2.7 مليار ليرة، وفق تصريح صادر أخيراً عن مدير «المؤسسة السورية للمخابز» زياد هزّاع. وهو رقم يتجاوز الاعتمادات المخصّصة لدعم مادتَي الدقيق التمويني والخميرة في مشروع موازنة عام 2021 والمقدّرة بحوالى 700 مليار ليرة سنوياً. والجدير ذكره أن هزّاع كان قدّر، في شهر تموز/ يوليو الماضي، قيمة الدعم اليومي لسلعة الخبز بحوالى مليارَي ليرة، وهذا يعني أن نسبة زيادة تكاليف الإنتاج خلال الأشهر الثلاثة الماضية وصلت إلى حوالى 35%.
المصدر: الأخبار