سلوى بعلبكي – النهار
على مدى الأعوام الثلاثة الماضية كان لبنان مسرحاً للكثير من الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية، إيجابية كانت أو سلبية. ولكن في كل الأحوال كان سعر صرف الدولار يسجّل ارتفاعات مع تسجيل انخفاضات ظرفية، سرعان ما كانت تزول خلال أيام، لتستأنف العملة الخضراء مسارها التصاعدي. صحيح أن الدولار يتأقلم مع المتغيرات المحلية صعوداً وهبوطاً، لكنه منذ اندلاع أول شرارة للأزمة في أواخر 2019 حافظ على مسار تصاعدي دائم، فالواقع المرير هو أن العوامل التي تدفع باتجاه ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق اللبنانية تتفوّق على الأسباب والظروف التي تدفع إلى انخفاضه.
في الايام القليلة الماضية، ارتفع سعر صرف الدولار الى مستويات قياسية ملامساً في بعض الأحيان الـ32 ألف ليرة في السوق السوداء، وجاء هذا الارتفاع على وقع إقفال المصارف أبوابها التزاماً بقرار الإضراب الذي أعلنته جمعية المصارف على خلفية احتجاجها على “الأحكام الشعبوية” التي تطاول المصارف، وآخرها توقيف رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد طارق خليفة.
الخبير المالي والمصرفي نيكولا شيخاني، لم يستغرب ارتفاع سعر صرف الدولار مع القرار الذي اتخذته جمعية المصارف بإقفال أبوابها يومين، بما زاد الضغوط على منصّة صيرفة، إضافة الى الصرّافين الذين هم في النهاية مرآة للعرض والطلب في السوق. وترافق هذا الإقفال مع المراوحة التي تعيشها البلاد خصوصاً حيال غياب الإجراءات العملية التي يُفترض أن تتخذها الحكومة أو مجلس النواب لإنقاذ البلاد. وفيما الوقت بدأ ينفد، يرى شيخاني أن المسؤولين في لبنان يتلهّون بأمور غير مهمّة فيما القانون الوحيد الذي كان ينتظره صندوق النقد والذي كان يمكن أن يضع الثقة المطلوبة بالطبقة الحاكمة على السكة هو قانون رفع السرية المصرفية الذي أعيد تعديله في الساعات الأخيرة التي سبقت إقراره. فالقانون في صيغته الأخيرة لا يحاكي مواصفات صندوق النقد، وتالياً لن يكون في المقدور إجراء التدقيق المالي لمعرفة حجم الخسائر والمشكلات التي تعانيها البلاد، وإعداد خطة للتعافي وفق التشخيص الصحيح. وحضّ شيخاني المسؤولين على إبداء الجدية في التعامل لملاقاة متطلبات صندوق النقد الذي سيعاود اجتماعاته المتعلقة بلبنان في أيلول المقبل أي بعد أقلّ من شهر.
ويشدّد على أن “الثقة هي الأساس… إذ عندما تستعاد الثقة بالبلد واقتصاده وبعملته ينخفض سعر الصرف تلقائياً. ولكن إذا بقي الأمر على حاله فإن الدولارات الباقية في مصرف لبنان ستستنزف أكثر فأكثر، في الوقت الذي تستمرّ فيه طباعة الليرة بما يكبر من حجم الكتلة النقدية الليرة، وتالياً سيكون ارتفاع سعر صرف الدولار الى مستويات أكبر قد تصل الى 50 ألف ليرة، أمراً لا مفرّ منه”.
من جهة أخرى، يرى شيخاني أن الاتفاق النفطي مع العراق يمكن أن يرد القليل من الثقة ولكنه حتماً لن يعالج الأزمة، بيد أنه شكك في الأثمان التي سيدفعها لبنان لقاء هذا الاتفاق والتي ستتبيّن لاحقاً.
مسار سعر صرف الدولار سيبقى تصاعدياً
في تحليله لمسبّبات ارتفاع سعر الصرف، يشير خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد محمد فحيلي، الى عوامل عدة تسهم في ارتفاع سعر الصرف لعل أبرزها الجمود والتناحر السياسي الذي له تأثير كبير على إنتاجية الطبقة السياسية، أكان ذلك لجهة السلطة التشريعية أم التنفيذية، والذي أنتج المناخ المناسب لإحداث اضطرابات في أسواق الصرف وحوّلها إلى “نعمة” المحتكر والمضارب و”نقمة” المستهلك وصاحب المصلحة التجارية”. وإذ ذكّر بوصف البنك الدولي الاقتصاد في لبنان بـ”الاقتصاد السياسي” لجهة أنه يدار في السياسة – لتحقيق مكاسب سياسية – ويتأثر جداً بالعوامل السياسية وهي كثيرة جداً”، أكد أن “معظم القوى السياسية تعلم أن مسار سعر صرف الدولار سيبقى تصاعدياً، وأن لجمه مرحلياً كان ويكون لأسباب سياسية متعلقة بتمرير مرحلة معيّنة”.
كما أن “فقدان الثقة بالنظام المالي ككل وبالنظام السياسي الحاكم ورغبته في إقرار الحلول وتنفيذها انعكس سلباً على القيمة الشرائية لليرة اللبنانية ودفع بالمستهلك والتاجر في لبنان إلى البحث عن البديل وبات واضحاً أنه وجد هذا البديل في العملة الخضراء”، وفق ما يقول فحيلي “فاليوم مهما توافر الدولار في السوق المحلية يبقى الطلب عليه يفوق بكثير العرض، فيما المواطن اللبناني يحتفظ بالدولار لتمويل فاتورة الاستهلاك (أو المصاريف التشغيلية للمؤسسات) إما مباشرة بالعملة الخضراء أو بما يوازيها بالليرة اللبنانية، أو احترازياً لأنه وجد في هذه العملة استقراراً تفتقده الليرة اللبنانية، أو للمضاربة عندما يكون الظرف مناسباً”.
الى ذلك فإن “غياب وانعدام الرقابة أعطى مساحة واسعة وفائضاً من القوة للمحتكرين والمضاربين في سوق الصرف وانعكس ذلك سلباً على سوق صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار لأن حركة السعر في هذه السوق لم تعد تحكمها المعطيات الاقتصادية بل باتت تتفاعل مع الشائعات التي يزرعها المحتكرون والمضاربون في السوق لتسهيل اصطياد الدولار عند اللزوم”، برأي فحيلي الذي يعتبر أنها “سوق يسيطر عليها السواد وليست فقط سوق سوداء: أوراق نقدية مقابل أوراق نقدية من العملة الأخرى إن كنت طالباً أو عارضاً في هذه السوق من دون احترام، في الحد الأدنى، لقانون تنظيم مهنة الصيرفة أو/و تعاميم مصرف لبنان ذات الصلة. باختصار، يقول فحيلي “بات إخفاء هوية المتداولين في هذه السوق جزءاً أساسياً من سرّ المهنة”.
ورغم أن تأثيره على سعر صرف الدولار كان خجولاً، فإن انطلاقة العام الدراسي التي لم تكن يوماً من الأيام خجولة بتداعياتها المادية على رب الأسرة، يمكن أن تزيد الطلب على الدولار خصوصاً أن السنة الدراسية 2022 هي السنة الأولى التي يُطلب فيها من الأهالي تسديد الأقساط المدرسية بالدولار الفريش.
وأخيراً يشير فحيلي الى أنه “بات واضحاً اختناق مصرف لبنان لجهة تأمين الدولارات لتمويل فاتورة استيراد الفيول والمستلزمات الطبّية، ووضع ضوابط إضافية على حجم الإفادة عبر منصّة صيرفة لشراء الدولار، والعشوائية في تظهير ردود فعل تجمّع المصرفيين المتمثل بجمعية مصارف لبنان التي تتحكم بمنهجية أدائها اليوم المصارف المتعثرة، وليس المصارف القادرة على الاستمرار (ruled by the law of the average!). وفي السياق أيضاً، يقول فحيلي “ليس سراً أن المصرف المركزي يتدخل في سوق القطع لشراء الدولارات بهدف تأمينها لمنصّة صيرفة وهو الجهة المثقلة بالأوراق النقدية اللبنانية التي تفقد قسطاً من قيمتها الشرائية مع كل يوم تأخير في إقرار الإصلاحات وتنفيذها، علماً بأن مصرف لبنان هو الطرف الذي يتمتع بالقدرة والإرادة في الحصول على مبتغاه في سوق الصرف”.
كل هذه العوامل المحلية تدفع بسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية صعوداً، تضاف إليها عوامل خارجية منها ارتفاع الأسعار العالمية نتيجة التضخم العالمي الناتج من الحرب الروسية – الأوكرانية، ما أدّى إلى زيادة الطلب على الدولار عالمياً.
وختم بالإشارة إلى أنه في “المناخ العام والاستقرار السياسي، لن يخيف الاقتصاد الذي يعتمد بنسبة تفوق الـ80% على الأوراق النقدية إضراب المصارف لأن البديل بات متوفراً ومطلوباً – مؤسسات الصيرفة، والحادثة الأمنية في أحد فروع المصارف في بيروت ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ولا تدخل في احتسابات سعر صرف الليرة وتؤكد المؤكد وهو فشل السلطة السياسية في إدارة البلد. وفي المقلب الآخر، هناك مجموعة قوانين ملحّة يقع إقرارها على عاتق المجلس النيابي المنتخب إضافة إلى استحقاق تشكيل الحكومة، والانتخابات الرئاسية التي تفرض نفسها على المجلس النيابي في أيلول المقبل… فكل تأخّر في الاستحقاقات الدستورية المقبلة بعد أن دخلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في زمن تصريف الأعمال، يكبّد الاقتصاد خسائر إضافية عن طريق الاضطرابات التي يحدثها في سوق الصرف”.