الخميس, نوفمبر 28
Banner

الإنهيار يقوّض آلية التسعير ويراكم طبقات فوق المنافسة الحرة

خالد ابوشقرا – نداء الوطن

يشكو السواد الأعظم من المستهلكين ضعفاً في القدرة على تحديد صحة أسعار السلع والخدمات. إختلافات قطاعية ومناطقية غير مبررة، تمتص جزءاً كبيراً من المداخيل المتهاوية، وسط عجز فاضح عن التصدي لها. فاللبناني المشهور بـ»المفاصلة»، اهتدى بمقولة «من يبلع بحر» انهيار القدرة الشرائية للأجور، «لن يغصّ بساقية» فروقات التسعير. والوفرة التي قد تتحقق بالبحث عن الأرخص، تكلّف أضعافاً مضاعفة.

تتحدد الأسعار في أنظمة الاقتصاد الحر بإضافة نسبة من الربح على الكلفة. مقدار هذه النسبة تبنى على قاعدة ذهبية تعرف بـ «المنافسة». إذ أن وضع نسبة ربح مرتفعة على سلعة ما، يقلل الطلب عليها، ويدفع باتجاه زيادة الطلب على السلع المنافسة. فيضطر التاجر إلى تخفيض سعرها إلى الحد الذي يضمن ربحه ولا يؤدي إلى إفلاسه. وهكذا ينظم السوق، بالمبدأ، نفسه بنفسه. في المقابل فإن لآلية تحديد الاسعار بشكل عادل، «أعداءً» كثراً، مثل: غياب الشفافية، الاحتكار، تعدد أسعار الصرف، الاقتصاد النقدي، وانعدام المحاسبة الخاصة من قبل المستهلكين، والرسمية من قبل الدولة.

تعدّد أسعار الصرف

في الوقت الذي عجز فيه لبنان تاريخياً عن القضاء على معوقات المنافسة العادلة كلياً، فان عناصر تقويض التسعير الحر عادت لتلتقي جميعها بعد انفجار الازمة. المعضلة الاولى تتمثل في تعدد أسعار الصرف. فعلى الرغم من أن التسعير يجب أن يتم على أساس سعر صرف منصة sayrafa ( اليوم يساوي 26100 ليرة) المفترض بها تأمين الدولار للتجار، فان كل السلع محددة على سعر صرف السوق أي 32 ألف ليرة، وأحياناً أكثر. حجة التجار الدائمة، هي عدم القدرة على الوصول إلى «المنصة»، مع أن حجم التداول عليها في معظم الايام يفوق حاجة القطاعات التجارية للدولار من أجل الاستيراد والمقدر بحدود 30 مليون دولار بالحد الاقصى. هذا وتلفت مصادر مراقبة إلى أن «الكثير من التجار يحتسبون الاكلاف المقيّمة بالليرة اللبنانية كالضرائب والرسوم وايجار العمال والايجارات… بالدولار. وهذا مناف للمنطق ويشكل عملية قنص للمستهلكين».

إختلاف النوعيات

الفروقات في الاسعار قد تنتج أيضاً من «اختلاف النوعية»، يقول الخبير الاقتصادي د. باسم البواب. و»لكن في ظل اقتصاد مفتوح ألغى الوكالات الحصرية، ويؤمن أعداداً كبيرة من السلع، وتعدد بالماركات (العلامات التجارية) ضمن السلعة الواحدة، فان المستهلك يستطيع إنتقاء ما يناسب قدرته الشرائية. وهو سيُقصي حتماً أي سلعة تكون مسعّرة فوق قيمتها الحقيقية».

مقابل هذه الحقائق الاقتصادية يفرض السوق اللبناني على المستهلك الأضعف، أسعاراً إضافية ناتجة عن ارتفاع الأكلاف التشغيلية والشراء بكميات قليلة. فأسعار الألبان والاجبان والمرطّبات التي تباع في محلات البقالة (الدكاكين) تكون أعلى من مثيلاتها الموجودة في السوبر ماركت. وهذا يعود إلى ارتفاع كلفة الطاقة لتأمين التبريد في المؤسسات الصغيرة، في حين تستفيد المؤسسات الكبيرة من وفورات الحجم «Economies of scale»، حيث تتناقص الكلفة كلما زاد الحجم، وتحصل على عروضات أكبر نتيجة شراء كميات وازنة. وبرأي البواب فإن «التخطيط الاستهلاكي الصحيح، وابتياع كل الحاجيات من مكان واحد كل 15 أو 20 يوماً يوفران على المستهلكين مبالغ كبيرة». بيد أن ما يحصل على أرض الواقع له حكمِه الخاص. حيث يضطر المستهلك إلى شراء المواد التي تحتاج إلى تبريد كل يوم بيومه من المحلات القريبة، نتيجة الانقطاع الدائم بالكهرباء، والعجز عن الاحتفاظ بالسلع لفترة طويلة. الامر الذي يكبده مبالغ طائلة.

التهرّب الضريبي والتهريب

«الفوضى التي تعمّ الاسواق لا تنعكس على المواطن بشكل مباشر فقط من خلال ارتفاع الاسعار، إنما بشكل غير مباشر ايضاً نتيجة التهرب من التصريح الحقيقي عن الارباح»، برأي صاحب شركة METRANS للشحن روني نعمة. فـ»التفلت الحاصل وانعدام الرقابة يفوتان على الدولة مداخيل هائلة، يجب أن تصب في النهاية في زيادة التقديمات الاجتماعية والانمائية وتحسين الخدمات وتصحيح المداخيل. وهذا ما لم يحصل نتيجة توسع التهرب الضريبي في الكثير من القطاعات. حيث يتعمّد البعض البيع باسعار أعلى بكثير مما يصرح به للادارات الرسمية، فيربح هو ويخسر كل من المواطن والدولة. ذلك مع العلم أن للوزارات والادارات المعنية مثل الاقتصاد والمالية والجمارك، القدرة على الملاحقة الجدية والمحاسبة الدفترية. وهذا ما لا يحصل، ويستبدل في الغالب بالعراضات الاعلانية في الاسواق المترافقة مع نقل مباشر من الوسائل الإعلامية، وتغيب المحاسبة الجدية». فحرية تحديد الاسعار برأي نعمة «يجب أن تترافق مع تصريح صحيح بالأرباح الحقيقية، وليس تلك الوهمية».

في المقابل فان انعدام الشفافية الضريبية، وإدخال البضائع بشكل غير قانوني عبر المعابر غير الشرعية يتزامنان مع توسع الاقتصاد النقدي، حيث تتم التبادلات بشكل مباشر نقداً ومن دون أيصالات وتحويلات رسمية. الأمر الذي يصعب الملاحقة ويعقدها ويصب في مصلحة كبار المهربين والمتهربين على حد سواء».

غياب الرقابة

النظام الاقتصادي الحر الذي يتمتع به لبنان «لا يعني على الاطلاق انعدام الرقابة»، تقول المديرة العامة السابقة لوزارة الاقتصاد علياء عباس. «فكما يمنع البيع بسعر أقل من الكلفة لانه يسبب الاغراق، يمنع ايضاً البيع بهوامش ربح عالية وغير منطقية». فالفروقات التي نشهدها في الاسعار آنياً غير طبيعية، وهي تختلف بعشرات آلاف الليرات للسلعة نفسها بين متجر وآخر. و»بمجرد أن يكون هناك احتكار أو استغلال للمواطن، فيجب على الادارات الرقابية التدخل ووضع حد لهذا التفلت»، برأي عباس. «إلا أن المشكلة اليوم مزدوجة، فمن ناحية لا تملك وزارة الاقتصاد المعنية الأولى بهذه المسألة سلطة فرض الغرامات بشكل مباشر إنما يقتصر دورها على تسطير محاضر الضبط وإرسالها إلى القضاء. التي عادة ما يتطلب البت بها فترات زمنية طويلة. ومن ناحية ثانية، فان قيمة الغرامات على المخالفات لم تعد تشكل رادعاً للمخالفين. فهي ما زالت مقيّمة بالليرة على سعر الصرف القديم». أما الملاحقة فترى عباس «أنها أصبحت صعبة في ظل تدني أجور المراقبين، وقلة عددهم، وانعدام قدرتهم على تحمل أكلاف الانتقال من جيوبهم».

مع اكتمال مثلث انعدام الشفافية وتعدد أسعار الصرف وغياب الرقابة الجدية، تبدو مرونة المواطن تجاه الارتفاعات الكبيرة بالاسعار ضعيفة. وهو إن كان ملزماً باختيار الارخص، يبقى محكوماً بسعر مرتفع أعلى من قدرته الشرائية. فيرضخ للأسعار القائمة ويتحمل البلاء في حين يحقق المتلاعبون الارباح الطائلة على حسابه.

Leave A Reply