فاطمة عبد الله
ماذا يقال عن أولئك الذين يمتهنون الفرح ويصدرونه للأحبة؟ وعن المدن البديعة بصخبها، الموقظة للأحزان بانكفائها؟ لو سئلت نانسي عجرم عن علاقتها بإحداث البهجة، لأجابت كما هتفت أمام 13 ألف شخص في جونية: «نحن هنا من أجل ذلك». تقصد الأمل المناقض للعتمات، المنبثق من العدم، قدر لبنان. ولو سئل الـ«دي جاي» رودج عن المحرك، لأجاب بصرخاته المعتادة: «بيروت!». يحبها ولا يكف عن مناداتها في الحفلات. «We Love You»، يرفع الصوت ليملأ «ملعب فؤاد شهاب»، أمام الحاضرين بحناجرهم وأياديهم وخفقان القلوب.
تحبس رطوبة المكان الهواء، فيشاء المرء تعويض التنفس بمراقبة الوجوه المتشوقة للغناء والرقص. تلمس شركة «JCT Productions»، ومعها رودج ونانسي عجرم، حاجة الناس لليلة تنسي الهم. استعدوا جميعاً؛ الأولى بالإنتاج والتنظيم، والثاني بهز الروح الصاخبة في الدواخل المثقلة، والأخيرة بمنح الحاضرين أوقاتاً رائعة. «من نص جونية»، تصدح الموسيقى والأغنية وهتاف الوافدين من اتجاهاتهم، تسبقهم إلى المدينة الكسروانية رغبة في الانسلاخ عن الزعل.
وهو في لبنان عميق، كثيف. يبدأ رودج من حيث يهوى البدايات، من العاصمة وجراحها، العاصمة ذات جرح يزهر: «اشتقنالك يا بيروت» بصوت بسكال صقر، بمزيج موسيقي لا يبقي أحداً على مقعد. الواقفون في الحفل المجاني من وسط جونية، أكثر من الجالسين الذين بدورهم أكملوا الهيصات وقوفاً مع التمايل.
لا تفارق بيروت باله، وبين «جنوا ونطوا»، أو «الغزالة رايقة» و«لما شفتها قلبي دق تلات دقات»، يمرر صوت فيروز ونداءها: «يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي». كأن هواء بالفعل ينسم، حين يلتقي نشيد عاصي الحلاني «قلن إنك لبناني»، مع صرخة جوزيف عطية «لبنان رح يرجع والحق ما بموت»، ورجاء ماجدة الرومي «عم إحلمك يا حلم يا لبنان». يختار من البحر مراكب تنتشل شعباً يغرق. المراكب عزاء الناجين.
أغنيات بلغات، تلقى جمهوراً يحفظ ويردد. وكعادته رودج يشعل المسارح بفن دمج الموسيقى. «All I need is your love tonight» تصبح اعترافاً من المدينة إلى ناسها بحاجتها إلى الحب. فهي أيضاً تربي الانكسار وتذرف الخيبة كل مساء. نانسي عجرم ورودج يسكنان روح المدن المعذبة. «غني للناس للحب غنيلي غني»، ينتقي من باقة ماجدة الرومي هذه السوسنة الفواحة.
ومن ثم تطل نانسي بفستان أخضر بلمسات إيلي صعب، وتمر بين آلاف انتظروها وطال الانتظار. تلوح لأمواج من البشر وتسمع تصفيقاً متعدد الاتجاهات، بينما تعبر وسط الجالسين والواقفين في ملعب كرة القدم الشهير. تعلو صيحات أحبتها الكثر، بعضهم لم يعد قادراً على ارتياد الحفلات لقسوة الأحوال، ومن أجلهم تصنع فرحاً لا يشترط مقابلاً تهديه للجميع. «نانسي نانسي نانسي»، حنجرة واحدة ترفع الصوت.
تشتاق للجمهور اللبناني وتعبر عن الشوق: «كتير كتير». تهدأ الموسيقى بعد أغنية الافتتاح، «بدنا نولع الجو»، كإنذار إلى ما سيأتي وإعلاء الحماسة إلى أقصاها، فتنشر رسالة الحفلة: «لبنان يستحق هذا وأكثر، لذلك نحن هنا. إرادة الحياة والاستمرارية هي الأقوى». يا لهذا الأمل الذي نتمسك به! يا لتأثيره الفتاك!
تغني الرومانسي والإيقاع، من «عم اتعلق فيك شوي»، و«بدي حدا حبو». تتحول الهواتف المضاءة من الخلف شموعاً بمثابة رجاء بدوام الوقت السعيد. وترتفع الأيادي، كما مع رودج كذلك مع نانسي، عالياً مثل أعمدة ضوء تمتد في الظلام. دواخل الناس هي المهرجانات، الخفقان هو الحياة.
الفنان الحقيقي يصنع السهرات الاستثنائية والأمسيات المقيمة في الذاكرة. تأتي نانسي عجرم بكامل استعدادها لتقول للناس كونوا سعداء هذه الليلة. لا تتطلع إلى كون الحفل مجانياً فتعامله بشيء من الاستهانة، بل لأنه مجاني وحضوره هائل، تقدم مهرجاناً من القلب. «يا سلام يا سلام يا سلام»، كما في أغنية «سلامات» وإيقاع الطبلة مرقص ليل جونية.
يحضر القديم والجديد، الذكريات والهتات: «صحصح» الأكثر انتظاراً، و«شكلها سهرة صباحي والكل حيفضل صاحي»، و«سيبك من الحزن يا سيدي وانت تفرفش على إيدي»، ثم عودة إلى الماضي، حيث البدايات كانت واعدة، والشابة المندفعة تصل باندفاعها إلى القلوب. تعود بـ«آه ونص» إلى نانسي التي لا تكبر بل تكتفي بالنضوج، تراكمه وتحتفظ بالبدايات في داخلها. «أخاصمك آه» كذلك، تكرسها فنانة تشبه نفسها فقط.
لا توفر في جيبها أغنية ينتظرها الناس. كانت ليلة عطاء. تغني «يا غالي علي»، وتسأله «شو صرلك حبيبي تعلمت القسية ما بتسأل علي»، وتعود إلى الإيقاع فتصفق الأيادي لـ«مية وخمسين»، و«على شأنك»، «ما تيجي هنا وأنا حبك»، و«لون عيونك». الجمهور حين يفرح، يصبح فناناً. ولا يعود مهماً عبء الصوت على الأذن، بل ماذا يعني أن يغني المرء بلا حسابات. كأنه وحده في الفضاء، طليق كطير، فيتساوى مع الآلاف بتحرير الحنجرة من الخجل.
يصيح رودج «This is Lebanon»، وتغني نانسي من أجل الحياة. الذين يمتهنون الفرح ويصدرونه للأحبة يقال عنهم حلاوة هذه الأيام.