تتصاعد أزمات اللاجئين فصولاً إن كان بالنسبة إلى الظروف التي يعانيها اللاجئ الهارب في معظم الأحيان من حرب أو تهديد أو تدهور في ظروف العيش في بلده، كما بالنسبة إلى الدول المضيفة أو الدول التي تعتبر وجهة اللاجئين “الأمثل” حول العالم، ويصل الأمر ببعض الدول التي تستقبل اللاجئين إلى استغلال هذا الملف كمادة للابتزاز السياسي، من هنا تحتل أزمة النزوح والهجرة قمة الأزمات الدولية، وليس من المبالغة إذا ما أطلق عليها أزمة القرن منذ الحرب العالمية الثانية، ويواجه العالم تحديات كثيرة لمعالجة الأزمات التي سببتها الأزمة أساساً، أي النزوح والهجرة، أبرزها النقص في المساعدات الدولية، إذ يسعى الملايين حول العالم للهرب من الفقر والحروب وعدم الاستقرار إلى دول يعتبرونها مستقرة وقادرة على تأمين مستقبل أفضل لهم، وفرضت الأزمة على البلدان التي تتصدر الدول المضيفة ضغوطاً كبيرة، لأنها تبذل قصارى جهدها للعناية بهذه الموجات السكانية المهددة بالمخاطر، وبالنسبة إلى اللاجئين أسفرت الأزمة عن تدهور منهجي لحقوقهم ولنوعية حياتهم ومستوى التعليم وآفاق المستقبل بالنسبة إلى أطفالهم. وتعتبر أوروبا أفضل وجهة للجوء مما نتج عنه ما عرف بأزمة المهاجرين إلى أوروبا المعروفة أيضاً بأزمة اللاجئين، وهي فترة بدأت منذ عام 2015 بوصول أعداد كبيرة من الأشخاص إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر البحر الأبيض المتوسط أو براً عبر جنوب شرقي أوروبا في أعقاب أزمة اللجوء في تركيا، ولكن هذه الأزمة لا تنفصل عن نمط الهجرة المتزايد إلى أوروبا من القارات الأخرى الذي بدأ في منتصف القرن الـ20 حيث اضطرت دول أوروبية عدة إلى مواجهته.
الاتحاد الأوروبي وأزمة اللجوء
وسجل الاتحاد الأوروبي مستويات عالية من طلبات اللجوء غير المسبوقة وصلت إلى أكثر من مليون طلب عامي 2015 و2016، لكن هذه الأرقام انخفضت بشكل ملحوظ في العامين الأخيرين، ففي أواسط عام 2021، قدم أكثر من 100 ألف شخص لأول مرة طلباً للحصول على الحماية الدولية في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، بزيادة 115 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020 عندما تم تسجيل 48370 لاجئاً، وزيادة بنسبة تسعة في المئة مقارنة بالثلث الأول من عام 2021 عند تسجيل 95265 لاجئاً. وأدت أسباب كثيرة إلى هذا الانخفاض منها حظر السفر الذي فرض بعد انشار وباء “كوفيد-19″، والسياسات العقابية التي تمنع الموافقة على طلبات اللجوء واستخدام اللاجئين كأداة سياسية أو ورقة ضغط داخلية وخارجية يتلاعب بها السياسيون في حملاتهم الانتخابية، ما يجعل اللاجئ عالقاً بين مطرقة الحسابات السياسية وسندان بقائه مشرداً على الحدود، ومثال على ذلك ما حصل على الحدود بين بيلاروس وبولندا حيث شهدت الحدود بين الدولتين ما قيل إنه تلاعب من قبل المسؤولين بمصير اللاجئين المحتملين في المناطق التي تشهد أزمات سياسية وعسكرية مثل سوريا والعراق وأفغانستان واليمن.
ونقل الإعلام أن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو يغري اللاجئين بتأشيرات مجانية ورحلات طيران رخيصة، ثم يلزمهم بالتوجه غرباً للضغط على الاتحاد الأوروبي بعد العقوبات التي فرضتها بروكسل (نتيجة الحرب بين روسيا وأوكرانيا)، وهذا ما نفاه لوكاشينكو لاحقاً أن تكون بلاده وجهت الدعوة إلى الآلاف لخلق أزمة على الحدود، مضيفاً، “قلت لهم إنني لن أحتجز لاجئين على الحدود، فلتبقوا عليهم عند الحدود، وإذا ما واصلوا القدوم فسأظل على موقفي بعدم منعهم، لأنهم لم يأتوا إلى بلادي، إنهم في طريقهم إلى بلادكم”. وقال إنه “من المحتمل جداً” أن تكون قواته ساعدت اللاجئين على العبور إلى بولندا، لكنه نفى أن تكون مينسك عاصمة بيلاروس قد وجهت الدعوة إليهم. وأكد أن من يظن أن مينسك ستغلق حدودها مع بولندا وليتوانيا ولاتفيا وأوكرانيا وتغدو مقر إقامة للاجئين القادمين من أفغانستان وإيران والعراق وليبيا وسوريا وتونس “فهو على خطأ”، وهذا يذكر بـ”تهديد” الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مارس (آذار) 2020 عندما توعد بالسماح لـ”ملايين” المهاجرين واللاجئين بالتوجه إلى أوروبا انطلاقاً من بلاده، ضمن سعيه حينها للحصول على مزيد من الدعم في النزاع السوري من قبل الدول الغربية. وقال، “بعد أن فتحنا أبوابنا، تلقينا عديداً من الاتصالات الهاتفية، قالوا لنا أغلقوا الأبواب، لكنني قلت لهم لقد تم الأمر، انتهى، الأبواب مفتوحة وعليكم الآن أن تتحملوا نصيبكم من العبء”.
مآسي البحر المتوسط
وتعتبر المنظمة الدولية للهجرة أن وسط البحر الأبيض المتوسط أخطر طريق للهجرة في العالم، وقدرت الوكالة التابعة للأمم المتحدة عدد من قضوا والمفقودين في هذه المنطقة بـ990 شخصاً منذ بداية العام الحالي، وهذا ما كان قد أشار إليه البابا فرنسيس في جولته الأخيرة إلى قبرص واليونان في ديسمبر (كانون الأول) 2021، حيث وصف البحر المتوسط بأنه تحول إلى “مقبرة عظيمة”، في إشارة إلى آلاف المهاجرين الذين غرقوا خلال محاولاتهم الهروب من نزاعات وحروب في بلدانهم في الشرق الأوسط إلى ملاذ آمن في أوروبا، وكان قد كرس زيارته بالتركيز على أزمة المهاجرين وموضوع اللاجئين واستقبالهم.
سياسات لندن “المثيرة للجدل”
كان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون خلال حملة “بريكست” عام 2016 التي على أساسها وصل إلى سدة رئاسة الوزراء قد وعد البريطانيين بـ”استعادة السيطرة” على حدودهم، لكن عدد طالبي اللجوء المرحلين إلى الاتحاد الأوروبي تراجع، بعد استبعاد لندن من اتفاقات الإعادة المبرمة بين الدول الأعضاء، وزاد وصول المهاجرين الكبير من توتر العلاقات مع فرنسا المتوترة أصلاً التي تتهمها الحكومة البريطانية بعدم بذل ما يكفي من الجهود لمنع انطلاق الرحلات من أراضيها على الرغم من الأموال المرسلة لهذا الغرض، وفي محاولة لردع عمليات العبور، كانت بريطانيا قد كشفت عن سياسة جديدة تقضي بإرسال الأشخاص الذين يعبرون القنال الإنجليزي إلى رواندا لتتم معالجة طلباتهم وإعادة توطينهم بشكل دائم، لكن منعت أول رحلة كان من المقرر أن تغادر في منتصف يونيو (حزيران) الماضي من الإقلاع بسبب دعاوى قضائية، بالتالي ما زالت هذه السياسة غير مطبقة. ويشير عدد الواصلين إلى أن سياسة الحكومة المثيرة للجدل لترحيل الأشخاص الذين يخوضون هذه الرحلة الخطيرة إلى رواندا فشلت حتى الآن في ردعهم، وعلى الرغم من تشدد المملكة المتحدة في سياساتها بترحيل اللاجئين فلم تستطع ردع عبور المهاجرين القنال الإنجليزي، حيث وصل نحو 700 مهاجر في الثاني من أغسطس (آب) الحالي إلى جنوب إنجلترا خلال يوم واحد، وهو رقم قياسي جديد هذا العام، ووصل أكثر من 17 ألف شخص إلى المملكة المتحدة عبر القنال الإنجليزي الذي يعد أحد أكثر طرق الشحن انشغالاً في العالم، على متن قوارب صغيرة حتى الآن منذ بداية عام 2022، وفق أرقام حكومية.
وقالت وزارة الدفاع إن 696 مهاجراً وصلوا على متن 14 قارباً صغيراً وهو أعلى عدد يومي يسجل في عام 2022 والمرة الثانية هذا العام التي يتجاوز فيها العدد 600، ووصل أكثر من 28500 شخص، معظمهم شبان، إلى السواحل البريطانية العام الماضي، وسجل أعلى عدد على الإطلاق في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 حيث بلغ 853 شخصاً، ويتغير عدد الواصلين على مدى السنة تبعاً للأحوال الجوية والإجراءات المتخذة على طول الساحل الشمالي لفرنسا، وذكرت تقارير أن مجموعات كبيرة من الأشخاص بينهم أطفال وصلوا إلى رامسجيت على ساحل كنت في جنوب شرقي إنجلترا، قبل نقلهم بواسطة حافلات إلى مراكز معالجة طلبات اللجوء، وكانت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل وافقت على استراتيجية جديدة لإعادة قوارب المهاجرين التي تعبر القناة للوصول إلى المملكة المتحدة إلى فرنسا التي ترفض هذا الإجراء، بحسب الصحف البريطانية التي ذكرت أنه يتم تدريب قوة الحدود البريطانية على أساليب جديدة لإعادة هذه القوارب قبل أن تصل إلى جنوب إنجلترا حيث سجل تدفق قياسي لهؤلاء المهاجرين في الأشهر الأخيرة.
لكن هذه الاستراتيجية التي وافق عليها جونسون لن تستخدم إلا في “ظروف محدودة جداً” بحسب صحيفة “ديلي تلغراف”، وستشمل السفن الكبرى وعندما يعتبر الوضع آمناً، وبحسب السلطات البريطانية فإنها ترسل عشرات ملايين اليوروهات إلى فرنسا سنوياً للمساعدة في وقف عمليات عبور القوارب، بما في ذلك من أجل تكثيف الدوريات على الشواطئ وتأمين معدات مثل نظارات الرؤية الليلية، وذكرت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية في وقت سابق من هذا الشهر أن باتيل ستعلن عن آخر اتفاق مالي تم التوصل إليه مع باريس، على الرغم من الأسئلة التي تدور في شأن قيمة الترتيبات مقابل كلفتها، وكان الاتفاق قد أثار انتقادات من بعض نواب الحزب المحافظ الحاكم.
“ابتزاز مالي”
وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان قد شدد على أن بلاده لن تقبل أي ممارسة تتعارض مع قانون البحار، ولا أي ابتزاز مالي من الحكومة البريطانية، جاء ذلك تعليقاً على إعلان بريطانيا اعتزامها إعادة زوارق المهاجرين إليها عبر القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وفي تغريدة على موقع “تويتر” أكد دارمانان ضرورة استمرار بريطانيا في التزام تعهداتها، مشيراً إلى أنه أوضح ذلك لنظيرته البريطانية بريتي باتيل. أضاف أنه تحدث معها في هذا الشأن خلال اجتماع لوزراء داخلية مجموعة “السبع” في لندن، وتعكس تصريحات دارمانان قلقاً في باريس إزاء تقارير خطة الحكومة البريطانية لبدء إعادة قوارب المهاجرين قبل وصولها إلى المياه البريطانية في القنال الإنجليزي، وفي رسالة وجهها إلى الوزيرة البريطانية، حذر دارمانان من أن اللجوء إلى إعادة اللاجئين قسراً في البحر “يمكن أن يكون له تأثير سلبي في تعاوننا”. وشدد على أن “حماية الحياة البشرية في البحر تتفوق على اعتبارات تتعلق بالجنسية والوضع وسياسة الهجرة، في إطار الالتزام الصارم بالقانون البحري الدولي الذي ينظم عمليات البحث والإنقاذ”. ويبدو أن ما أثار غضب المسؤولين الفرنسيين اقتراحات بأن تجمد بريطانيا جزءاً من مبلغ 62.7 مليون يورو (74.2 مليون دولار) وعدت بتقديمها في وقت سابق هذا العام لتمويل الدوريات في شمال فرنسا ما لم يتم بذل مزيد من الجهود لمنع عمليات العبور.
استقبال اللاجئ عبء أم “استثمار”؟
وتتعاطف دول كثيرة مع أزمات اللاجئين وتعبر عن رغبتها في الترحيب بهم، لكنها لا تستطيع تحمل تكاليف ذلك، وهو أمر يبدو منطقياً، فتكلفة استقبال طالبي اللجوء قد تصل إلى مستويات باهظة وصادمة، تبدأ تلك التكاليف لحظة وصول اللاجئ، من النظر في الطلبات إلى توفير الغذاء والسكن والصحة والتعليم.
في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، خلصت دراسة إلى أنه بين عامي 1990 و2014، كلف كل لاجئ أعيد توطينه الحكومة الأميركية 15 ألف دولار، وغالباً ما تقلق مثل هذه الأرقام دافعي الضرائب، وتدفع السكان إلى الخوف من أن يكون قبول اللاجئين عبئاً على اقتصاد بلدهم، لكن هذا لا ينفي أن تكون تلك الكلفة في الواقع استثماراً، وهو ما تؤكده دراسة أميركية لمركز “PHYS.ORG” نشرت عام 2017، حيث إنه مع بقاء اللاجئين في الولايات المتحدة لمدة 20 عاماً، دفعوا ما متوسطه 21 ألف دولار كضرائب أكثر مما كلفوا الحكومة، ما يشير إلى مكاسب اقتصادية عامة مرتبطة بإعادة توطين اللاجئين، وفي دراسة أخرى لمجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم الأميركية “PNAS” نشرت عام 2016 تكشف عن أن المساعدات المالية للاجئين تخلق آثاراً إيجابية عديدة على الشركات والأسر المعيشية في البلد المضيف، وخلصت الدراسة إلى أن اللاجئ البالغ الذي يتلقى مساعدات نقدية يزيد الدخل الحقيقي السنوي في الاقتصاد المحلي بمقدار 205 إلى 253 دولاراً، أي أكثر بكثير من 120 إلى 126 دولاراً من المساعدات التي يتلقاها كل لاجئ في بداية مرحلة إعادة التوطين، وباستطاعة اللاجئ تقديم مبادرات اقتصادية إيجابية للمجتمعات المضيفة إذا ما تم اعتماد السياسات الصحيحة.
سوسن مهنا – اندبندنت
Follow Us: