اختلفت الحياة في لبنان خلال العامين الماضيين، أشياء لم يكن يتخيلها اللبناني أصبحت في صميم حياته. بدأ “التوكتوك” يحل مكان سيارات الأجرة في كثير من المدن العالية الكثافة، أصبحت الاتصالات ترفاً وتقنين شبكة الإنترنت هي القاعدة، بدأ موظفو القطاع العام مغادرة وظائفهم، فيما قطاعات التربية والاستشفاء التي كانت مفخرة البلاد تترنح في قلب الانهيار، والمصارف لم تعد ملجأ الباحثين عن الرفاهية، ما حدث كان شيئاً كبيراً لم يكن يتوقعه المواطن.
بات الانهيار أمراً واقعاً، وزاد منسوب الخوف في نفوس المواطنين، فيما تراجعت الثقة بالمستقبل إلى أقصى حد ممكن. واليوم يبرز التخوف الجدي من تحول البلاد إلى “دولة فاشلة”، في ظل تراجع الاحتياطات الأجنبية من العملة إلى أقصى الحدود عند مستوى 10 مليارات دولار في دولة تستورد كل شيء من الخارج، فيما تجاوز حجم الاستيراد 13.6 مليار دولار في 2021، وفي حال اعتماد حجم الاستيراد الراهن فإن فترة زمنية قصيرة تفصلنا عن نضوب ما تبقى من دولارات.
نعمل لنأكل
اختلفت صورة العمل في لبنان، لم يعد اللبناني يخرج إلى عمله من أجل تأمين مستوى أعلى من الرفاهية والادخار بل سعياً إلى تأمين “السترة”. يختصر أبو وسام، صاحب بسطة كعك في طرابلس، القصة بقوله “نعمل فقط من أجل تمضية الوقت وعدم البقاء في المنزل، ولكي لا نتسول أصبحنا نعمل من أجل شراء لقمة الخبز فقط”. يضيف “حالنا كحال كل الناس نحتاج إلى إجراء عمليات جراحية، أنا على سبيل المثال أحتاج إلى عملية في عيني لإزالة الماء الزرقاء، ولكن لا يمكنني إجراؤها بسبب التسعيرة العالية بالدولار”.
يأسف أبو وسام لما وصل إليه اللبناني، فقد بلغ 65 عاماً من العمر وتجاوز سن التقاعد، ولكنه يضطر إلى النزول للساحة والعمل لأكثر من 10 ساعات تحت الشمس الحارقة من أجل تحصيل مبالغ بالليرة اللبنانية التي تتبخر أمام الدولار الذي ارتفع إلى عتبة 35300 ليرة لبنانية للدولار الواحد، أي أن الحد الأدنى الرسمي للأجور البالغ 675 ألف ليرة بات دون 20 دولاراً أميركياً.
حال باقي الناس ليست أفضل من حال أبو وسام، تحجب الجدران والكرامة كثيراً من قصص الناس التي يمكن أن نقرأها في عيون سيدة طاعنة في السن تطلب المساعدة، أو أحد الأفراد من أصحاب الاحتياجات الخاصة يضطر إلى الجلوس في زوايا الطرق لينتظر أصحاب القلوب الرحيمة. ولا يختلف الأمر عند سائق سيارة أجرة خسر دخله اليومي بسبب ارتفاع صاروخي لسعر المحروقات، أو عند أم تخشى فقدان أبنائها لعامهم الدراسي إلا أنه لا قدرة لها على تسجيلهم في مدرسة خاصة قامت بتحديد أقساطها بـ”الدولار الفريش”.
الاحتياطي النقدي يتهاوى
تراجعت الاحتياطات النقدية بالعملة الأجنبية إلى حدود قياسية، وهناك تخوف شديد من تصاعد تأثير الأمر في حياة اللبناني. يشير الأكاديمي في مجال الاقتصاد جاسم عجاقة إلى أنه “في نهاية يوليو (تموز) الماضي بلغ احتياطي مصرف لبنان 11.1 مليار دولار أميركي”، واصفاً الموضوع بـ”الخطير ومن الضروري معالجته بلغة علمية بعيداً من الاتهامات لمصرف لبنان أو غيره لمصالح شخصية”.
يوضح عجاقة أن “الاحتياطي في تراجع مستمر بسبب استمرار الاستيراد من الخارج في ظل اقتصاد مدولر، في مقابل عدم وجود حركة تصدير نشيطة إلى الخارج، وهو ما يخلق فجوة في نظام إدخال الدولار”. ويعتقد أن “نزول الاحتياطي سيشكل كارثة على المواطنين لأنه يمول الاستيراد، ونقصه يعني عدم القدرة على تأمين السلع الأساسية من الخارج من طعام ودواء وخدمات”، مشبهاً المشهد المستقبلي بالجنون في حال عدم تدارك المخاطر. من هنا فإنه ينظر إلى إجراءات مصرف لبنان لترشيد الدعم على أنها بمثابة العمل لتخفيف استنزاف الاحتياطي من العملات الأجنبية، منوهاً إلى أن مصادر الدولار هي تحويلات المغتربين ومصرف لبنان، وادخارات المواطنين المنزلية التي بدأ المساس بها.
ضرورة وقف التهريب
يحمل عجاقة التهريب مسؤولية استنزاف احتياطي لبنان، مقدراً خسارة البلاد لأكثر من سبعة مليارات دولار بسبب الانفلات الأمني على الحدود مع سوريا، لأن حاجات المواطنين والمقيمين في لبنان لا تتجاوز ستة مليارات دولار في أقصى الأحوال من أصل 13.6 التي أنفقت على الاستيراد في العام الماضي.
يدفع المشهد السابق إلى افتراض أن لبنان يستورد لصالح دولتين، ويتحمل خسائر كبيرة لصالح مجموعة من المستفيدين أي مجتمع المهربين وأعوانهم. يتخوف عجاقة من أن “ترشيد الدعم لن يؤدي إلى تمتع اللبناني بالسلع المستوردة التي شحت من السوق على غرار المازوت المختفي من المحطات على أبواب الشتاء، مع أن الدولة حررت أسعاره وربطته مباشرة بسعر دولار السوق الحرة”، وينوه “أن التهريب حاصل من فج عميق، وازدياد سعر السلعة في لبنان يقابله رفع الأسعار في أسواق البلدان المستفيدة من التهريب”، مضيفاً “كل تنك بنزين يهرب إلى سوريا يحقق أرباحاً تقدر بـ10 دولارات للمهرب، وليس للمصرف المركزي صاحب الحساب المستنزف، كما أن التهريب وصل إلى دول إقليمية أبعد”.
من هنا يعتبر عجاقة أن أول خطوة يجب اتباعها هي وقف تهريب الدولارات لأنه “أكبر العلل”. ويلفت إلى أن اللبناني صاحب الدخل بالعملة الوطنية (نحو 300 ألف موظف في القطاع العام) هو أكثر من يعاني لأن قدرته الشرائية تراجعت عشرات الأضعاف، في المقابل فإن من تصله تحويلات من المغتربين ومن يتقاضى مساعدات من جمعيات تحظى بدعم خارجي في وضعية أفضل، والأمر ينطبق على الموظفين في القطاع الخاص ممن يتقاضون أجوراً بالعملة الأجنبية.
هل يلوح مستقبل سريلانكا في الأفق؟
يشبّه بعض المتابعين أوضاع لبنان المستقبلية بسريلانكا التي فقدت احتياطها الأجنبي بالكامل، يعتقد عجاقة أنه لا وجه للشبه أقله إلى حد الآن، فالمصرف المركزي لديه نحو 11 مليار دولار، إضافة إلى 17 مليار دولار قيمة الاحتياطي من المعدن الأصفر، يمكن الاعتماد عليها من أجل تحصيل قروض من الخارج، ولكن الخوف الأكيد هو من تحلل مؤسسات الدولة والاتجاه إلى “دولة مفككة” تتصف بتراجع هيبة الدولة، وتراجع شرعية السلطة السياسية وسوء الخدمات العامة وعدم قدرة تأمينها للمواطنين، إضافة إلى تعطل الاقتصاد وارتفاع مستويات الفقر، وهجرة العقول والقدرات البشرية، وبلوغ الدولة مرحلة الحاجة إلى دولة أخرى لضبط أوضاعها الداخلية بسبب عجز السلطة عن تأمين أبسط الحاجات لمواطنيها، وبات في موقع الحاجة إلى تلقي المساعدات للاستمرار في العيش من الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية.
و يخلص الباحث الاقتصادي إلى أن “المدخل للحل هو تأمين الاستقرار قبل البدء من جديد وبناء اقتصاد قوي، وإلا فإن البلاد تتجه نحو مستقبل سيئ بسبب خرق كبير في السيادة الوطنية اللبنانية في جميع المستويات مالياً واقتصادياً وفكرياً. من هنا عبثاً نحاول حل المشكلات من دون تكليف والجيش اللبناني بقمع التهريب ومحاربة احتكار التجار، وتطبيق القوانين وفق رؤية سيادة القانون على الجميع، ومحاربة الفساد والاستقرار السياسي والمحاسبة” يقول عجاقة.
دولار التجار في حساب خارجي
يشير عجاقة إلى أن “أن 5.6 في المئة من اللبنانيين ما زال قادراً على الاستمرار بالحياة بصورة طبيعية من دون أن يتأثروا بسبب القدرات المالية الهائلة لديهم، ويقدر عددهم بـ200 ألف شخص”، كما يؤكد أن “هناك ضرورة فرض إجراءات تلزم التجار إعادة الأموال التي حصلوا عليها من مصرف لبنان التي تفوق حجم المواد التي استوردت إلى البلاد، لأنه نزف إضافي للعملة الخضراء من خلال التجارة الخارجية”.
Follow Us:
بشير مصطفى – اندبندنت