تسبب اشتعال مكب النفايات القديم في طرابلس اللبنانية بحالة من الخوف بين المواطنين، إذ يخشون تكرار تجربة “انفجار المرفأ” في طرابلس على رغم تطمينات جهات عديدة من أن احتمالية انفجار المكب ضعيفة لأنه متوقف عن العمل والغازات التي كان يختزنها تسربت في الهواء في الفترة بين تاريخ إغلاقه في 2018 وحتى اليوم.
ويختصر الخوف من انفجار المكب حالة انعدام الثقة لدى المواطنين بالدولة، فهي لم تلجأ إلى حلول بيئية مستدامة، وبقيت تطمر فيه النفايات بعد بلوغه درجة الاستيعاب القصوى بنحو 10 سنوات إلى أن تجاوز ارتفاعه 40 متراً وبات جبلاً يحجب الرؤية عن البحر ويشكل خطراً بيئياً متعاظماً على الحياة البحرية والبشرية في دول شرق المتوسط.
من ناحية أخرى فإن جبل نفايات طرابلس الذي افتتح على صورة “مكب عشوائي” إبان الحرب الأهلية اللبنانية يشهد على عدم وجود حلول مستدامة لأزمة النفايات، إذ يستسهل الطمر والرمي على أعمال الفرز والمعالجة. وبعد أن أقفل المكب في 2018 لم تنتقل الدولة إلى حلول صديقة للبيئة، وإنما كان بدء العمل بمطمر جديد في موقع ملاصق للقديم وفي مكان مشرف على مرفأ مدينة طرابلس.
ويؤكد رئيس لجنة البيئة في بلدية طرابلس محمد نور الأيوبي أن المطمر الجديد لا يراعي الشروط الصحية والبيئية في معالجة النفايات ويعتمد أسلوب الطمر، كما أن الغازات تتراكم في داخله في ظل غياب أنظمة لمعالجة العصارة السائلة أو الغازات الناجمة عن التفاعلات الكيماوية للنفايات. وهناك تخوف من أن المطمر الجديد سيستمر في الارتفاع لينتصب جبل آخر للنفايات إلى جانب القديم طالما أن الحلول الموقتة سرعان ما تتحول إلى أماكن دائمة لجمع النفايات في ظل رفض المناطق اللبنانية تحمل نفايات المناطق الأخرى.
انتشار المحارق
في جولة شملت خمسة أقضية لبنانية نهار الخميس الـ 15 من سبتمبر (أيلول)، كان الانطباع واحداً، أكداس النفايات تنتشر على أطراف الطرقات تحاصر المارة وفي الوديان الدخان يتصاعد بكثافة من طرابلس إلى زغرتا والمنية وعكار والكورة. وتلك ظاهرة منتشرة من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن سهلها إلى جبلها. ويشكل الأمر مؤشراً إلى فشل الحلول المستدامة لأزمة النفايات التي شكلت نقطة انطلاق للحراك الشعبي في 2015 تحت اسم “طلعت ريحتكم”. اليوم رائحة النفايات والدخان المنبعث يحاصر أنفس اللبنانيين من نحو 900 مكب عشوائي في مختلف المناطق اللبنانية التي ستتصاعد باستمرار في حال عدم التمكن من وضع خطة وطنية شاملة لمعالجة الملف.
ويعيش المتخصصون في مجال البيئة حالة من الأرق بسبب المكبات العشوائية، ويتطرق مدير قسم الكيمياء في كلية العلوم جامعة القديس يوسف، شربل عفيف إلى مستويات عدة من المخاطر، فهي تصيب المياه والتربة والهواء. ويؤكد أن إحراق النفايات أمر في غاية الخطورة لأن المكبات العشوائية تحتضن النفايات بأنواعها وأخطرها البلاستيك، إذ تنبعث منها مواد سامة وتحديداً الديوكسين والفيران والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات وكميات كبيرة من “الغبار الدقيق والجزيئات الدقيقة التي تدخل الجسم والرئتين ولا تخرج بسهولة لأن قطرها في غاية الصغر”، كما ينبه إلى المخاطر على المياه الجوفية، إذ ترسبها الأمطار في التربة ومن ثم إلى المياه الجوفية فتعود إلى جسد الإنسان من خلال استهلاكها سواء بالطعام أو الشراب. كما ينوه عفيف إلى أن الدخان الصادر عن الحريق غير محصور في مكان محدد، وإنما ينتشر على مساحات واسعة في الهواء، وعلى رغم تشتيته وتراجع تركيزه وكثافته، فإن تكرار إشعال المكبات العشوائية سيؤدي إلى ضرر على المدى الطويل، مؤكداً أنه لا بد من اللجوء إلى الحلول الصحية والبيئية والمكبات الصحية التي تعالج العصارة في محطات التكرير قبل التخلص منها.
الحلول ممكنة
أخيراً أجرى وزير البيئة ناصر ياسين جولة على مختلف المناطق اللبنانية، وتكشف أوساطه عن أنه أصبح على بينة لناحية المشكلات ولمس حجم المخاطر الناجمة عن المكبات العشوائية المنتشرة وعدم وجود استراتيجية وطنية لمعالجة أزمة النفايات. وأعدت الوزارة خطة لمعالجة الملف وإن بصورة جزئية وتم تأمين تمويل أولي.
من جهتها تنبه النائبة نجاة صليبا (متخصصة في الحلول البيئية) إلى “أننا نعيش في ظل كارثة بيئية بدءاً من عام 2005، إذ بدأت الأزمة على المستوى الوطني بسبب عدم وجود خطة وطنية شاملة لحل مشكلة النفايات”. وتلفت إلى مخاطر شتى للمكبات العشوائية، منطلقة من عملها البحثي في الجامعة الأميركية.
وتقول صليبا إن “إحراق النفايات التي تتضمن بلاستيك ونايلون وبطاريات ومعادن يتسبب في تطاير مواد سرطانية أخطرها الديوكسين التي لا تتفكك بسهولة. وفي حال امتصاصها داخل جسم الإنسان تترسب ولا يتخلص منها الجسم، إضافة إلى المعادن التي تؤثر سلباً على الصحة”. وتشير إلى أنه تم قياس المخاطر ووجدت أن الديوكسين موجود بنسب مرتفعة، وخلال سنوات يمكن أن يؤثر سلباً على المياه الجوفية، كما هو الحال في مكبات طرابلس وصيدا بسبب عدم وجود عازل يمنع العصارة من التسرب.
وتستهجن صليبا اعتماد لبنان الطرق القديمة لجمع النفايات، حيث يتم كبسها ومن ثم رميها بطريقة عشوائية، وتصعب معالجتها لاحقاً، مما يسبب مشكلات مستقبلية سواء تم طمرها أو إحراقها أو التخلص منها بطرق غير علمية، كما أنه يتم تمديد العمل بالمطامر من دون البحث في الحلول، كما حصل في مطمر الناعمة، فكان من المفترض أن يخدم سبع سنوات واستمر 15 سنة إلى أن تجاوز قدرته الاستيعابية.
وتعتقد أن الأفراد يمكنهم المساهمة بحل المشكلة جزئياً من خلال تقليل كمية النفايات وفرزها والتواصل مع الجهات التي تعيد تدويرها، جازمة بأن “المبادرات الفردية لا توصل إلى حل كامل إن لم تضع الدولة استراتيجية عامة”. وتضيف أنها طرحت في لجنة البيئة النيابية وضع سياسة عامة وإجبار البلديات على تطبيقها ومنحها بعض السلطات من خلال إقرار القانون والسماح لهم بجباية لتأمين مداخيل تساعدها على معالجة النفايات، وقد تشكل اللامركزية الإدارية المدخل للحل.
ويعتقد أنصار البيئة أن قطار الحلول البيئية لم يفت بعد، بل إن الأزمة الحالية قد تدفع نحو اعتماد حلول مستدامة. ويؤكد زياد أبي شاكر (ناشط في مجال الحلول البيئية) أن الحلول ممكنة لكنها أحياناً مكلفة كما حدث مع مكب النورماندي في بيروت بعد أن تحول إلى واجهة بيروت البحرية بفعل إنفاق نحو 100 مليون من الدولارات.
وينطلق أبي شاكر من المثال الحالي ليشير إلى أن المكبات ليست حلاً، وهي “ستكلف دموع العينين من أجل معالجتها لاحقاً”، من هنا لا بد بداية من وجود أناس أصحاب اختصاص في مواقع القرار، ناهيك بإعطاء الأولوية لمنطق العوائد المالية والربح، وليس للحلول البيئية. ويقول “لا توجد مشكلة لا يمكن حلها، ولكن هناك فئة كانت تضع يدها على أي تمويل لصالحها”. ويضيف “كنا ننتقد مكب برج حمود لضرره على الناس والبيئة، فننشئ مكباً آخر على مقربة منه بمنطقة الجديدة لأنه لا توجد إرادة أو نية ومصلحة لحل الملف”، مشيراً إلى أن قيمة عقود النفايات “الاحتكارية” في بيروت الكبرى تبلغ ملياراً و880 مليون دولار.
ويطالب أبي شاكر في ظل الانهيار المالي وعدم وجود مزيد من الأموال بتطبيق حلول تقنية طويلة الأمد. ويجزم بوجود حلول صناعية وهندسية تعفي حتى من اللجوء إلى الطمر فقد تمكن في طرابلس تطبيق تلك الرؤى من خلال إقامة بنية وهياكل للطاقة الشمسية لإحدى المؤسسات من البلاستيك معاد تدويره.
من هنا، يرى زياد أبي شاكر وجوب بث الوعي لضرورة فرز النفايات في المنازل، واعتماد استراتيجية الكيسين ونقلها من دون ضغطها وتأمين البنية الصناعية للفرز وإعادة التدوير وتحويل المادة العضوية إلى سماد، مما يحول النفايات إلى مدخل للدورة الاقتصادية.
بشير مصطفى – اندبندنت
Follow Us: