خضر حسان – المدن
تحمل موازنة العام 2022 حجماً أكبر من حجمها الطبيعي. فتصوّرها السلطة بأنها موازنة طوارىء، لكن في حقيقتها هي ليست أكثر من موازنة وهمية بأرقام لا تشبه الواقع، وبالتالي، فإن مساهمتها في الإصلاح، عملية شبه معدومة. بل تحمل بذور زيادة الطين بلّة من خلال بنود، كزيادة رواتب موظفي القطاع العام والعسكريين والمتقاعدين والمتعاقدين بثلاثة أضعاف، وهو بند سيساهم في زيادة نسبة التضخّم عبر خلق كتلة نقدية كبيرة بالليرة. فهل سيكون هناك ما يلجم التضخّم المرتقب؟.
طباعة الليرة والتضخّم
في الأصل، إن أي زيادة في الكتلة النقدية المعروضة في السوق، ستخلق زيادة في الطلب على الاستهلاك، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخّم. وتلجأ الدول عادةً لإجراءات كزيادة الضرائب والرسوم، لتمتص السيولة الزائدة وتلجم معدّلات التضخّم.
وفي لبنان، تفقد الرواتب قدرتها الشرائية مع استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة. ولتحسين قيمة الرواتب في القطاع العام، حملت موازنة العام 2022 زيادة بمعدّل 3 أضعاف. وبمعزل عمّا إذا دخلت الزيادة في صلب الراتب أو أتت على شكل مساعدات اجتماعية ومسمّيات أخرى، إلاّ أنها تبقى زيادة في الكتلة النقدية لدى الموظفين، وتستدعي طباعة كميات من الليرات، ستؤدي إلى إفقاد العملة المزيد من قدرتها الشرائية، أي إفقاد تلك الزيادة مفعولها.
وعلى هذا النحو، فإن نيّة التصحيح لا تتطابق مع حجم الأزمة ومستوى انهيار البلاد، وتحديداً القطاع العام. وبذلك، لا يمكن الركون إلى معادلة وزير المالية يوسف الخليل التي تعتبر –في معرض التمجيد بالموازنة– أن “التصحيح بعد الانهيار هو أوّل مراحل الإصلاح”. فصحّة هذه المعادلة تعتمد على السير بخطة إصلاحات متكاملة، يكون حينها التصحيح عبر الموازنة، أوّل مراحل الإصلاح. لكن في الوضع الحالي، فإن الموازنة المطروحة مجرّدة من الرؤية الإصلاحية، مهما أنكر الخليل. كما أن التصحيح الذي سيطال الرواتب، ليس تصحيحاً حقيقياً.
التعويل على رفع الدعم
لا تتناسب الرواتب المنتظرة بعد التصحيح مع أسعار المنتجات المقوَّمة بدولار السوق المتّجه نحو الأعالي، في حين أن الزيادات المرتقبة محكومة بسعر محدّد وبقدرة شرائية هشّة لن تصمد أمام ارتفاع الأسعار.
إلاّ أن السلطة، عن قصد أو بالمصادفة، قد تستفيد من التراجع المرتقب لنسبة التضخّم، بعد رفع آخر خيوط الدعم، وتحديداً عن سعر القمح، وتالياً الطحين فالخبز، وهو ما تتوقّعه شركة فيتش سوليوشنز، التي رأت أن التضخّم سيتراجع من نسبة متوسّطة تبلغ 178 بالمئة في العام 2022 إلى 60 بالمئة في العام 2023 مع إلغاء الدعم واعتياد الناس على الإلغاء وتماشيها مع آثاره. وهذا ما يذكّر بتنبّؤ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في بداية الأزمة، باعتياد الناس على أسعار الدولار والغلاء المعيشي.
وحسابياً، يُنظر إلى هذا التراجع في حال حصوله، بأنه خطوة إيجابية مقارنة مع معدّل التضخّم الذي وصل إلى 210 بالمئة في شهر حزيران الماضي. وهو أفضل بأشواط من معدّل 741 بالمئة، المسجَّل في نهاية العام 1987.
الأسعار وسلسلة الرتب
حالياً، تذهب رواتب موظفي القطاع العام نحو الاستهلاك. ولأن القدرة الشرائية للرواتب منعدمة بفعل اتّساع الهوّة بين قيمتها بالليرة وأسعار السلع المقوّمة بالدولار، فإن الميل للاستهلاك لن يكون كبيراً بسبب الاقتصار على استهلاك الضروريات. وهذه المعادلة تقلّص احتمالات ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ تماشياً مع زيادة الاستهلاك، وهو ما شهده السوق مع إقرار سلسلة الرتب والرواتب.
ومع أن ارتفاع سعر منصة صيرفة الذي تحوّل إلى ما يشبه السعر الرسمي للدولة بدل سعر 1500 ليرة، والتحضير لرفع أسعار الجمارك ووقف دعم الرغيف، سيسهم نظرياً في زيادة التضخّم، إلاّ أن العودة لواقع القدرة الشرائية للرواتب، يحيل إلى تقليص توقّعات التضخّم، انسجاماً مع ما تراه فيتش.
الهروب من التضخّم لا يعني بالضرورة السير في الطريق الصحيح نحو الإصلاح. فالأسعار التي تعترف بها الدولة ومصرف لبنان بعيدة من الأسعار التي يعترف بها السوق ويفرضها على الدولة نفسها. وبما أن السعر المرصود في الموازنة المتأخّرة ما عاد يتوافق مع سعر السوق، فإن أي زيادة في الإنفاق العام، سواء على الرواتب وغيرها، لن يؤدّي إلى تصحيح أوضاع الموظفين وإدارات الدولة التي تحتاج بدورها لوازم وخدمات تُسَعَّر بدولار السوق وليس دولار الموازنة أو دولار منصة صيرفة. وعليه، ما تقوم به السلطة لا يتعدّى كونه ذرٌ للرماد في العيون، وتضييعٌ إضافي لأموال الناس.