وليد شقير – اندبندنت
يتكثف التحرك الدولي في شأن لبنان ليس فقط بسبب أهمية حل الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية خشية أن يتسبب في اهتزاز الاستقرار على الجبهة الجنوبية اللبنانية بين “حزب الله” وإسرائيل، بل لاقتراب الاستحقاق الرئاسي اللبناني بفعل نهاية عهد الرئيس الحالي ميشال عون بعد قرابة 35 يوماً، وبسبب الحاجة إلى قيام حكومة مكتملة الصلاحيات، تتسلم سلطات الرئاسة إذا تعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، إضافة إلى إلحاح كافة الدول على الجانب اللبناني أن ينفذ الإصلاحات البنيوية التي يشترطها المجتمع الدولي منذ سنوات.
وتأمل أوساط، ولو من باب التمني، أن يسفر هذا التحرك عن تجنيب لبنان الفراغ الرئاسي، وسط التوقعات التي ترجح حصوله، مثلما أدى الضغط الدولي إلى إجراء الانتخابات النيابية في موعدها في مايو (أيار) الماضي.
الاهتمام الخارجي بهوية الرئيس والتركيبة المقبلة
من لقاءات رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في نيويورك لتمثيل لبنان في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى لقاءات سفراء الاتحاد الأوروبي في بيروت مع المسؤولين اللبنانيين، مروراً بزيارة وفد إداري من صندوق النقد الدولي إلى البلاد، حيث وجه اللوم والانتقاد للسلطات اللبنانية لأنها تلكأت في تطبيق الإصلاحات المطلوبة منها للحصول على مساعدات الصندوق والدول المانحة، انتهاءً ببيان الاجتماع الثلاثي الأميركي – الفرنسي – السعودي حول لبنان، وبالتحرك الفردي لكل من سفراء الدول في بيروت، عادت الحرارة إلى الاهتمام الدولي والإقليمي بأزمة لبنان. ما يجمع بين العناوين التي تكررت من نيويورك إلى بيروت هو الخشية من الفراغ الرئاسي وعدم تمكن الفرقاء اللبنانيين من الاتفاق على انتخاب رئيس جديد فتزداد الأزمة خطورةً وعمقاً.
هوية الرئيس العتيد، وبالتالي التركيبة الحاكمة والتوازنات السياسية والطائفية التي سترافقه، ستحدد موقع لبنان وتموضعه على مدى السنوات الست المقبلة، وكذلك مصير الأزمة السياسية الاقتصادية التي تعصف به منذ أكثر من ثلاث سنوات، ومآل النفوذ الإيراني الذي يتحكم به عن طريق “حزب الله” وفائض قوة سلاحه، الذي تعزز خلال ولاية الرئيس عون منذ عام 2016.
“توبيخ” صندوق النقد المسؤولين
لكن إلى جانب أهمية الاستحقاق الرئاسي وهوية من سيتبوأ المنصب تفرض عناوين واستحقاقات تلقي بظلها على الوضع اللبناني الذي يزداد كارثية كل يوم، وآخر مظاهره مأساة وفاة زهاء 88 لبنانياً وفلسطينياً وسورياً في البحر أثناء محاولة 120 شخصاً الهجرة بطريقة غير شرعية، عبر أحد “قوارب الموت” إلى أوروبا، ليل 22 سبتمبر (أيلول) الحالي. وأفيد بأن أكثر الضحايا اللبنانيين يتحدرون من محافظة عكار ومدينة طرابلس الشماليتين. وتكشف هذه المأساة عن مدى اتساع دائرة الفقر، لا سيما في شمال لبنان، جراء تأخر السلطات اللبنانية في إقرار الإصلاحات. فبعثة صندوق النقد التي راجعت ما تم إنجازه منذ توقيع الاتفاق الأولي مع الحكومة اللبنانية الذي وعد بتخصيص ثلاثة مليارات دولار للبنان على مدى أربع سنوات بعد إقرار الإصلاحات، جالت على كافة المسؤولين، وانتهت إلى إصدار بيان صريح مفاده أن تقدم السلطة في إنجاز الإصلاحات “بطيء جداً”، محذرةً من “كلفة” التأخير، وأنها تلقت وعوداً بإقرار موازنة 2022، وقانون تعليق السرية المصرفية في البرلمان قبل نهاية سبتمبر، ثم إعادة هيكلة المصارف وقانون وضع ضوابط للسحوبات المالية والتحويلات إلى الخارج (كابيتال كونترول) قريباً. ودعت بعثة الصندوق إلى أن يتم ذلك قبل انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. ولم تخف البعثة استياءها من تعاطي بعض الوسط السياسي والإعلامي اللبناني بخفة مع مبلغ الثلاثة مليارات التي وعد بتقديمها إلى لبنان، بحجة أن البلد يحتاج إلى مبالغ أكثر بكثير من هذا المبلغ. فإدارة الصندوق (وكذلك سفراء دول كبرى) كانت أبلغت كبار المسؤولين أن اتفاق لبنان معها سيشجع الدول المانحة والبيوت المالية الدولية على تقديم مساعدات مالية كبيرة للبلد، قد تتعدى الـ 15 مليار دولار أميركي.
في المقابل، توزع المسؤولون اللبنانيون إلقاء المسؤولية على بعضهم في شأن تأخير إقرار الإصلاحات أمام بعثة الصندوق. فالرئيس عون أشار إلى العراقيل، ملمحاً إلى تأخر البرلمان في التصديق على القوانين، فيما ألقى نواب باللائمة على الحكومة، وبعضهم على رئيس الجمهورية الذي رد قانون تعليق السرية المصرفية، بينما ردت الهيئات الاقتصادية التباطؤ إلى الخلافات السياسية.
الاتحاد الأوروبي: الإصلاحات ثم الدعم المالي
وبدا لافتاً أن سفير الاتحاد الأوروبي رالف طراف جال على المسؤولين برفقة سفراء وممثلي دول الاتحاد في بيروت هذه المرة، وليس بمفرده، من أجل إبلاغ الرئيس عون ثم رئيس البرلمان نبيه بري أن “وقت العمل هو الآن” لتنفيذ الإصلاحات. وإذ أعرب طرّاف باسم السفراء جميعاً عن “قلقنا الشديد والمتنامي حيال الوضع الراهن في لبنان”، ردد السفراء الأوروبيون في تحركهم الجماعي، استعجال تنفيذ موجبات تطبيق الاتفاق مع صندوق النقد واعدين “بتقديم المساعدة السياسية والمالية”. وأضافت على ذلك السفيرة الفرنسية آن غريو “ضرورة احترام الاستحقاقات الدستورية بتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات سريعاً وانتخاب رئيس للجمهورية”. وهي جالت على القادة السياسيين لإبلاغهم هذه الرسالة.
ميقاتي وماكرون
في لقاءاته في نيويورك التي شملت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، سمع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللازمة نفسها إضافة إلى أهمية تضييق الفجوة بين لبنان وإسرائيل في المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية، خصوصاً أنه التقى أيضاً الوسيط الأميركي آيموس هوكشتاين الذي وعد بصياغة نهائية للتقدم الحاصل على هذا الصعيد. واللازمة هي تنفيذ الإصلاحات وتشكيل الحكومة سريعاً وانتخاب رئيس الجمهورية في موعده الدستوري. حتى ماكرون المتفهم لتعقيدات الوضع اللبناني الداخلي، والذي كان اجتماعه مطولاً مع ميقاتي، ربط الاستجابة لطلب الأخير عقد “مؤتمر أصدقاء لبنان” مجدداً، (بادر الرئيس الفرنسي إلى الدعوة إليه مرتين بعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي في صيف 2020) بتلبية الإصلاحات التي وعد ميقاتي بتنفيذها في كلمته أمام الجمعية العمومية.
البيان الأميركي – الفرنسي – السعودي: الطائف ولرئيس يوحد
الحدث البارز في التحرك الخارجي حول الشأن اللبناني كان صدور البيان الأميركي – الفرنسي – السعودي المشترك عن وزراء خارجية الدول الثلاث بعد اجتماعهم في نيويورك حول الشأن اللبناني، والذي تضمنت بنوده دلالات مهمة. فبالإضافة إلى تناول الدول الثلاث لزوم الإصلاحات، الذي يردده سفراؤها في بيروت، لفت الوسط السياسي اللبناني إشارة البيان إلى ثلاث نقاط مهمة، ما دفع غير سياسي لبناني إلى وصف البيان بأنه “خريطة طريق” لحل المعضلة اللبنانية. وهو وصف أطلقته عليه أيضاً وكيلة الأمين العام والمنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا خلال زيارتها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي، مشيرةً إلى اتفاقها معه على ذلك.
النقطة الأولى هي التشديد على انتخاب رئيس في الموعد الدستوري “يمكنه توحيد الشعب اللبناني ويعمل مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لتجاوز الأزمة الحالية”. ورأى أكثر من مصدر أن الدول الثلاث تحدد بذلك مواصفات للرئيس تلتقي مع مطالبة فرقاء لبنانيين أن يكون الرئيس المقبل قادر على التواصل مع الفرقاء كافة، ومع الدول المعنية بلبنان، وأن يخرج عن الاصطفافات، بحيث لا يكون على خصومة مع هذه الدول التي كانت اعتبرت الرئيس عون منحازاً إلى المحور الإيراني. وفي وقت ينشط سفراء الدول الثلاث في بيروت لمناسبة الاستحقاق الرئاسي، فإن ما تضمنه البيان في شأن الرئيس المقبل للبنان، يؤدي إلى استبعاد “بروفايل” مرشحين ينتمون إلى المحور الإيراني، لا سيما أن البيان نفسه أعاد التذكير بوجوب تطبيق القرارات الدولية 1559 و1680 و1701 و2650 (الأخير هو قرار التجديد للقوات الدولية في جنوب لبنان) الذي يصر على حرية حركة “يونيفيل” في جنوب نهر الليطاني، حيث يتوسع وجود “حزب الله” العسكري. وهذه القرارات تتناول مسألة سلاح “حزب الله” وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على أراضيها. وفي هذا السياق، نقلت محطة “أم تي في” تصريحاً عن وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان، تأكيده “أننا لا نتدخل في خيارات اللبنانيين، وعلى اللبنانيين اختيار رئيس قادر على تحقيق طموحاتهم، ورأينا ما حصل سابقاً”.
قطع الطريق على تعديل “اتفاق الطائف”
أما الدلالة الثانية لنص البيان فهي المتعلقة بتشديد الوزراء الأميركي والفرنسي والسعودي على “التزام اتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي”. وهذه العبارة في لبنان تقطع الطريق على محاولات تعديل الدستور اللبناني الذي يستند إلى “اتفاق الطائف” الذي قام بتوزيع الصلاحيات في السلطة منهياً الحرب الأهلية في عام 1990. فالرئيس عون وصهره رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، يجاهران باقتراحات في هذا الاتجاه، بهدف استعادة بعض صلاحيات الرئاسة، حتى إن عون وقبل يوم واحد من صدور البيان أبلغ سفراء الاتحاد الأوروبي الذين التقاهم أن “لبنان يحتاج الى إصلاح سياسي وسيادي، إضافة إلى تغييرات بنيوية في النظام الذي لا بد من تعزيزه وإصلاحه”، لافتاً الى أنه “من الصعب إدارة دولة بثلاثة رؤوس”.
كما أن ما عزز الخشية من المس باتفاق الطائف معلومات كان لها صدى في بعض العواصم، أفادت بأن قياديين في “حزب الله” فاتحوا الجانب الفرنسي في أحد اللقاءات الدورية التي يجريها الدبلوماسيون الفرنسيون في بيروت بأن الطائف لم يعد مناسباً لمعالجة الأزمة اللبنانية، ولا بد من إدخال تعديلات عليه. ومن هنا التشديد على التزام “الطائف” في البيان الثلاثي الذي ألحقه السفير السعودي لدى بيروت وليد البخاري بتغريدة جاء فيها “بيان مشترك سعودي – أميركي – فرنسي رسالته اتفاق الطائف هو المؤتمن على الوحدة الوطنية وعلى السلم الأهلي في لبنان”.
والدلالة الثالثة التي تميز بها البيان هي نصه على “دور القوات المسلحة اللبنانية وقوى الأمن الداخلي المسؤولين عن حفظ سيادة لبنان واستقراره واستمرارهما في حماية الشعب اللبناني”.