كتبت “الجمهورية” تقول: الحقيقة الوحيدة التي أفرزها فشل النواب في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، هي انّ احدًا في لبنان لا يملك مفتاح الاستحقاق الرئاسي. يقابلها إنكار فاضح لها، من مكونات سياسية ونيابية توهم نفسها، وغيرها في آن معًا، بأنّ لها دورًا مقررًا في هذا الاستحقاق، وانّ المقاعد المعدودة والمحدودة التي تحتلها في مجلس النواب، تمنحها قدرة التحكّم بمسار الاستحقاق الرئاسي، وتوجيه دفّته في الاتجاه الذي تريده. وهو ما تبدّى في بعض التصريحات المجافية للواقع التي أُطلقت غداة جلسة الفشل الانتخابي.
رئيس المجلس النيابي نبيه بري رفع الجلسة، ولم يُلزم نفسه بتحديد موعد لجلسة جديدة، موجّهًا البوصلة النيابية في اتجاه التوافق الذي لا بدّ من توفره للعبور بالاستحقاق الرئاسي إلى شاطئ الأمان، وتجنيب البلد فراغاً رئاسيًا مفتوحًا على مديات زمنية طويلة، مفتوحة بدورها على شتى الاحتمالات السلبية.
ولكن على ما هو مؤكّد، انّ بري بتأكيده على التوافق وقطف الانتخابات الرئاسية بناءً عليه، يطلب المستحيل في الجو السياسي المنقسم على نفسه، ذلك انّ الاستحقاق الرئاسي مبعثر ضمن خريطة سياسية ونيابية، لا يجمع بين عناصرها سوى التنافر والصدام والحقد والارتهان لحسابات سياسية وحزبية وشخصية. ودلّت التجربة مع مكوناتها في السنتين الاخيرتين، انّها لا تلتقي حتى على أبسط البديهيات التي تخدم مصلحة لبنان واللبنانيين، وتضع الدولة من جديد على مسار عودتها كدولة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
دعوة جديدة
وسط هذه الصورة المزدحمة بصخب سياسي لا طائل منه، وبمكونات تتلهى بالمبالغات وتضخيم الذات والمزايدة على بعضها البعض، ومجافاة التوافق المطلوب على شخصية جامعة ومؤهّلة لتبوء سدّة الرئاسة الاولى، سيوجّه الرئيس بري دعوة إلى جلسة جديدة، إنفاذًا لصلاحياته الدستورية، واما النتيجة الحتمية لها، ولأي جلسة مماثلة، فهي تكرار لفشل جلسة الخميس، والدوران في حلقة الانقسام. وهو الامر الذي يجب مواجهة مكونات الانقسام الداخلي بسؤال وحيد: هل ثمة نية جدّية لإتمام الاستحقاق الرئاسي، وإذا كان التوافق الرئاسي صعبًا، او بالأحرى مستحيلًا، كما يبدو من مواقف بعض القوى السياسية والنيابية، فما هو بديله؟
لن ينفع الندم
مصادر سياسية مسؤولة تؤكّد لـ«الجمهورية»، انّه «خلافًا لكل التوصيفات التي أُطلقت على جلسة الخميس، وأبرزتها كـ»جسّ النبض» لإظهار اتجاهات ونوايا مختلف القوى السياسية بانتظار الجولة الانتخابية الثانية، او كـ«بروفة» تمهّد لوضع الأرضية السياسية إستعدادًا للفراغ والفوضى، فإنّ نتيجتها كانت متوقعة سلفًا، وبالتالي لا يجب النظر إلى تلك الجلسة على انّها نهاية المطاف، بل ينبغي اعتبارها صدمة، لعلّها تهزّ مواقف الجميع وتشيع في الاجواء السياسية العقلانية المفقودة مع الأسف، وتحرّك المسؤولية الوطنية للتنازل من اجل البلد، والذهاب إلى التوافق على انتخاب رئيس صُنع في لبنان قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون آخر الشهر المقبل. فبذلك نقدّم خدمة جليلة للبلد، وامامنا فرصة متاحة لذلك، فإن لم نستغلها فلن ينفعنا الندم».
وردًا على سؤال قالت المصادر: «ثمة اسماء كثيرة متداولة، لا تتمّ جوجلتها بالسجال الاعلامي والمواقف من خلف المنابر، بل هذا يوجب بالدرجة الاولى الجلوس على الطاولة بنوايا صادقة، وبالتالي يمكن الاختيار من بين تلك الاسماء من هو الأصلح، والذي تتوفر فيه المواصفات التي تبرزه الأكثر اهلية لتبوء الرئاسة الاولى. علمًا انّه من حيث المبدأ، وإن كانت النوايا صافية وجدّية، فلينزل الجميع إلى المجلس النيابي ولا يخرجون منه الّا بعد انتخاب رئيس الجمهورية».
حثٌ ديبلوماسي
وقد برز في هذا السياق، ما اكّدت عليه مصادر ديبلوماسية عربية بقولها لـ«الجمهورية»: «انّ الأسرة العربية، وإن كانت لا تتدخّل في الشأن الرئاسي اللبناني، ولا في تمييز او تفضيل أي مرشح على أي مرشح آخر، تؤكّد على الأشقاء في لبنان إتمام استحقاقاتهم الداخلية على النحو الذي يخدم مصلحة بلدهم الذي يعاني من أزمة صعبة، سواء الاستحقاق الحكومي وإنتاج حكومة فاعلة تقوم بدورها الانقاذي وتسعى إلى تعافي هذا البلد، او الاستحقاق الرئاسي الذي اكّدنا على الأشقاء اكثر من مرة ضرورة ان يُنجز بصورة سلسة وتوافقية بين القوى السياسية على اختلافها».
وردًا على سؤال قالت المصادر: «من الأساس لم نكن نتوقع انتخاب رئيس للجمهورية يوم الخميس الفائت، لسببين أساسيين، الاول سياسي، وهو أنّ كل الاطراف في لبنان تحدثت مسبقًا عن جلسة دون انتخاب رئيس. واما السبب الثاني، فهو شكلي، حيث انّه مع جلسات انتخابية من هذا النوع، وإن كان التوجّه فيها لانتخاب جدّي لرئيس الجمهورية، تُوجّه دعوات إلى البعثات الديبلوماسية في لبنان لحضورها، وهو ما لم يحصل قبل انعقاد جلسة الخميس الماضي. وفي ذلك كانت اشارة غير مباشرة إلى انعقاد جلسة غير منتجة».
وكشفت المصادر عن «جهود عربية، سواء من جامعة الدول العربية او من دول شقيقة للبنان، قد تُبذل في المدى المنظور عبر القنوات الديبلوماسية، لحث الاخوة في لبنان على التوافق في ما بينهم لترتيب شؤونهم الداخلية، والتعجيل بإنجاز الانتخابات الرئاسية في اقرب وقت ممكن. فنحن نؤيّد القائلين بأنّ الفراغ الرئاسي من شأنه ان يلحق الضرر الكبير بلبنان ومصالحه».
موفد فرنسي
إلى ذلك، اكّدت مصادر ديبلوماسية في العاصمة الفرنسية لـ«الجمهورية»، انّ «باريس حاضرة على الخط اللبناني في هذه المرحلة اكثر من اي وقت مضى». وقالت: «انّ لبنان لا يزال يحتل موقعه في رأس قائمة الاهتمام والعناية اللذين يوليهما ايمانويل ماكرون وفريق عمله للبنان».
وكشفت المصادر عن «إشارات متتالية وجّهت خلال الاسابيع الماضية الى مختلف المسؤولين السياسيين والرسميين في لبنان، بضرورة تشكيل حكومة تدير الوضع اللبناني وترسم الخطوات العلاجية والإنقاذية، وتقود هذا البلد البائس على مدار الاصلاحات الإنعاشية لوضعه. وقد لمسنا ايجابيات أوحت بأنّ الحكومة ستولد بالتوافق بين الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي، ولكن الأخبار الواردة من بيروت حملت الخيبة، وعكست إصرارًا لدى بعض الجهات في إبقاء الحال على ما هو عليه من تعطيل وإرباك، وهو ما دفع الادارة الفرنسية إلى التحذير من مخاطر كبيرة وتفاعل اكثر لأزماته، فيما لو بقي الوضع الحكومي على ما هو عليه من خلل وعدم قدرة على اتخاذ القرارات، والقيام بالخطوات الإنقاذية المطلوبة. ما سيُفقد لبنان بالتأكيد فرصة عقد برامج تعاون مع المؤسسات المالية الدولية، تعينه على تخطّي ازمته، وفي مقدّمها صندوق النقد الدولي».
واكّدت المصادر ايضًا، انّ «الديبلوماسية الفرنسية تحرّكت بشكل مكثف في الاسابيع الاخيرة، وأوصلت رسائل مباشرة إلى مختلف المسؤولين في لبنان لإجراء الانتخابات الرئاسية في جو ديموقراطي سليم، وترى بالضرورة ان يقوم المجلس النيابي اللبناني بدوره في هذا المجال». الّا انّ المصادر عينها قاربت بخيبة امل مجريات الجلسة الانتخابية الاخيرة التي عقدها المجلس النيابي الخميس الماضي، وقالت: «يجب ان يدرك اللبنانيون انّ تضييع الوقت لا يخدم لبنان، وتأخير انتخاب رئيس للجمهورية نخشى ان تترتب عليه عواقب سلبية».
وكشفت المصادر انّ موفدًا رسميًا فرنسيًا قد يزور بيروت في المدى المنظور، في زيارة مرتبطة بالاستحقاق الرئاسي، والغاية الأساس هي مساعدة الاطراف اللبنانيين على بناء مساحات مشتركة، لعلها تعجل بإتمام هذا الاستحقاق في القريب العاجل.
وردًا على سؤال عمّا إذا كان لباريس مرشح معين، رفضت المصادر ذكر أية اسماء، الّا انّها قالت: «انّ باريس تؤيّد المرشح الذي يخدم انتخابه مصلحة لبنان، ويشكّل عنصرًا مساهمًا بمسؤولية وفعالية لإخراج لبنان من أزمته».
يشار في هذا السياق، إلى انّ مديرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية آن غيغين ستصل إلى بيروت مطلع الأسبوع المقبل، وعلى جدول أعمالها لقاءات مع الرؤساء الثلاثة وأبرز المسؤولين السياسيين وممثلين عن المجتمع المدني. وتحمل المسؤولة الفرنسية، والتي ستواكبها السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو في جولتها، رسالة فرنسية واضحة بشأن ضرورة انتخاب رئيس جديد للبلاد ضمن المِهل الدستورية لأنّ الوقت بدأ ينفد أمام لبنان، والسير بالإصلاحات، «اللازمة».
كما سيشهد لبنان زيارة لقائد الجيش الفرنسي بعد أيام قليلة، وسيتفقد الكتيبة الفرنسية ضمن قوات الطوارئ الدولية العاملة في لبنان، ومن المتوقع أن يزور بعض القيادات العسكرية اللبنانية.
الترسيم
على خط ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، يفترض ان يتسلّم لبنان الاقتراح الاميركي النهائي حول الترسيم.
وفي هذا الاطار، كشفت صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية، أنّ الولايات المتحدة الاميركية قدّمت اقتراحًا جديدًا بخصوص ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، توافق عليه إسرائيل، ينص على أنّ الاتفاقية لن تتضمن ترسيمًا للخط الساحلي نفسه من أجل التحايل على النزاع القائم بين البلدين، إنما يرسم الخط بضع عشرات من الأمتار إلى الغرب». وأوضحت أنّ «هذا الإقتراح يقدّم حوافز، ولكنه يحمل أيضًا مخاطر».
وأشارت الصحيفة، إلى أنّ «الجدول الزمني لاتفاق محتمل بين إسرائيل ولبنان، أصبح أقصر وأقصر، وتريد شركة إنرجين (الشركة البريطانية التي تمتلك امتياز الحفر في حقل كاريش)، بدء الحفر في منتصف تشرين الأول، وتستعد بالفعل لتجارب التدفق العكسي للغاز من الشاطئ إلى المنصة، قبل بدء تدفق الغاز إلى الشاطئ».
ولفتت إلى أنّه «يفترض أن يقدّم الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين عرضًا خطيًا نهائيًا للجانبين خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد أن قدّم لهما أفكاره الأخيرة شفهيًا قبل أسابيع عدة»، وذكرت أنّه «بالنسبة لإسرائيل، فإنّ الاتفاقية الناشئة مع لبنان هي أيضًا رهان على منطق الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله».
تشجيع اميركي
إلى ذلك، كانت صحيفة «نيوزويك» الاميركية قد ذكرت، انّه «بتشجيع من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، فإنّ حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية على وشك توقيع صفقة من شأنها أن تمنح لبنان مئات الأميال من الأراضي في البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى الاحتياطيات الهائلة من الغاز الطبيعي».
وبحسب الصحيفة، فإنّه «مع وجود رئيسي الوزراء الإسرائيلي واللبناني في نيويورك الأسبوع الماضي، يقال إنّ المفاوضات بين الدولتين، والتي جرت بوساطة أميركية، باتت في مراحلها الأخيرة. من المتوقع أن يصدر الاقتراح النهائي للولايات المتحدة بحلول نهاية الأسبوع، ووصفة التسوية بسيطة: قبول إسرائيل كل مطالب لبنان الإقليمية وإعادة رسم حدودها».
وقالت: «إنّ المعيار الرئيسي في الوساطة البحرية هو التقسيم العادل والمنصف، كما اقترحت جهود الوساطة السابقة هنا. لكن يقال إنّ الصفقة، والتي أصبحت قيد الإنجاز، تتطلب من تل أبيب تلبية مطالب بيروت بالكامل. وبموجب الاقتراح، ستمنح إسرائيل لبنان المياه الواقعة شمال ما يعرف بـ«الخط 23»، وهي حدود لبنان المعلنة التي قدّمتها رسميًا إلى الأمم المتحدة».
اضافت الصحيفة، «انّ المدافعين عن الاتفاقية يفترضون أنّ منح لبنان احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي سيمنح البلاد «شيئاً لتخسره» في حالة نشوب صراع مع إسرائيل. كما وأنّ «حزب الله» لن يرغب في اندلاع صراع يمكن أن يلحق ضرراً شديداً بالاقتصاد اللبناني. ففكرة أنّ حقول الغاز تمنح لبنان «شيئًا ليخسره» تعتمد أيضًا على الافتراض غير المحتمل بأنّ إسرائيل ستستهدف هذه الحقول، التي تديرها شركة فرنسية، ردًا على هجوم صاروخي لـ«حزب الله» على منشآت إسرائيلية. في الواقع، فإنّ المجتمع الدولي بأسره سيكبح جماح إسرائيل».
ولفتت الى انّه «وفقًا لتقارير إخبارية، كان المفاوضون الأميركيون واللبنانيون يتزاحمون للتوصل إلى اتفاق هذا الشهر، قبل موعد الانتخابات الإسرائيلية في الأول من تشرين الثاني. وأصبح يائير لابيد رئيس حكومة تصريف الأعمال بعد أن تمّ الإطاحة بحكومة نفتالي بينيت. وبالنظر إلى المسار الطويل للنزاع، فليس من المصادفة أن يتمّ الإسراع بإنهاء الصفقة خلال فترة حكم لابيد العابرة. ومع اقتراب الانتخابات، ستكون هجمات «حزب الله» على منشآت الغاز الإسرائيلية الجديدة كارثية على لابيد. من الجانب الإسرائيلي، فإنّ قبول الصفقة يعني أيضًا تجاهل مجموعة متنوعة من القيود الدستورية. فالمحكمة العليا الإسرائيلية تحظّر أن يتمّ اتخاذ أي اجراءات كبيرة من قِبل حكومة لم يبق على مدة حكمها سوى القليل، ولكن بالنظر إلى ميولها اليسارية، فمن غير المرجح أن تتدخّل المحكمة في حال أكمل لابيد صفقة الغاز».
وخلصت الصحيفة إلى الاشارة الى «انّ القانون الدستوري الإسرائيلي يتطلب أغلبية كاملة في الكنيست، وإجراء استفتاء وطني، على أي تنازل عن أرض ذي سيادة. وتخطّط الحكومة لعدم إجراء أي منهما بشكل رسمي، لأنّها تعلم أنّها ستخسر؛ في الواقع، ورد أنّ الحكومة ستمرّر الاتفاقية سراً، ولن تكشف عن محتواها علناً إلّا لاحقًا».